مقال كتبته منذ بضعة أشهر بعنوان «حقيقة أم خيال أم كلاهما معًا؟!»، مستعرضًا فقرات من كتاب العلامة المؤرخ أحمد بن علي بن عبدالقادر المقريزي (ت 845 هـ)، «الطرفة الغريبة في أخبار حضرموت العجيبة»، باعتناء الباحث عمر بن صبيح الحضرمي، لاحظت أنَّ المحقق صنف جميع قصص الكتاب ضمن الخرافات التي تضر بالدين، وتخل بالمعتقد، وأنَّ كل ما ورد فيه عبارة عن خرافة وشرك وشعوذة وسحر.
وكان مما قلته: إنَّ الباحثين في علم الأديان، وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وعلماء النفس، وكُتَّاب الروايات بشقيها: العجائبي، والغرائبي، وكتاب السرد القصصي، هم الذين قد يفيدون من هذا الكتاب.
وذكرت أن الباحث الألماني فريدريش فون دير لاين اكتشف، وهو أحد المتخصصين في دراسة الحكاية الخرافية، أنَّ في الحكاية الخرافية كنوزًا ثمينة لا من الناحية الفنية فحسب، بل من ناحية الشعوب وتصوراتها ومعتقداتها.
وقد حاول فريدريش أن يرجع "الخرافة الشعبية" إلى أصولها؛ أي ديانات الشعوب القديمة مثل: الروحانية، والطوطمية، والفيتشية.
وأشرت إلى أنَّ كتاب «الطرفة الغريبة»، وما يحويه في طياته من قصص غريبة وعجيبة ومدهشة، أشبه ما يكون بأسمار وقصص ألف ليلة وليلة؛ حيث يظهر مدى الخيال الخصب الذي يتمتع به أبناء هذا المكان العبقري، وأنه قد يكون موضع دراسة وحفر عميق لكثير من الباحثين لاستجلاء بنية هذا المجتمع وأديانه ومعتقداته القديمة.
والآن لنقارن بعض النصوص التي وردت في كتاب المقريزي بمعتقدات الشعوب البدائية، لنستجلي الصورة، وتتضح الرؤية بشكل أوضح.
يقول المقريزي: "ومنها أن المرأة من هذه القبائل إذا غضبت على أحد من قراباتها -ولا تتصرف إلا في أقاربها فقط دون الأجانب- فإنها لا قدرة لها عليهم البتة، وهي إنما تتخيل وتتوهم أنها تأكل كبده؛ فللحال يسقط مريضًا، ويموت من يومه وليلته".
"ومنهن إذا غضبت على قرابة لها، وكان عَبْلَ البدن، تخيلت وتوهمت أنها تأكل كبشًا سمينًا. فإن كان قريبها صغيرًا، تخيلت أنها تأكل جديًا سمينًا ونحوه. ولا بد من أكل من عملت به هذا، أن تُعْمِل فكرها؛ حتى يقوى الوهم والخيال عندها؛ حتى يصير كأنها تفعل ذلك حقيقة. وهذا الأكل مما يختص بنسائهم دون رجالهم".
وبسنده إلى «أبو بريك»، يقول: "وأخبرني الفقيه المعتقد إبراهيم بن الشيخ عبدالرحمن بن محمد العلوي من قبيلة يقال لها آل باعلوي من غرب حضرموت، أنه جلس يومًا عند أخيه الشيخ عمر بن عبدالرحمن باعلوي، وأنَّ بينه وبين رجل يقال له أبو قديم عمر عداوة. فقال لي يا إبراهيم: قم وانعَ أبا قديم على رأس هذا الجبل. فقلت له: وكيف أنعى من هو في قيد الحياة، وإنما ينعى الميت؟! فأمر غيري، وهو أبو عبادة من خدامه، فقام على رأس الجبل، فنعاه، فلم تمضِ ساعة حتى خرج أبو قديم من منزله لحاجة له، فصادفه قوم سكارى لهم عنده دم فقتلوه".
ويتحدث المقريزي عن ظفار حضرموت وعن قبيلة بها تسمى القمر، فيقول: "وإذا عظمت الأمطار على هذه القبيلة حتى أضرت بدوابهم، عمدوا إلى شجرة يعرفونها بباديتهم، فأخذوا من قضبانها شيئًا، وأضرموا النار فيها، ثم صبوا عليها الماء؛ فإنَّ المطر يقل عندهم".
فما ذكره المقريزي هو السحر التمثيلي الذي يتحدث عنه علماء الأنثروبولوجيا والباحثون في الحضارات الإنسانية. ففي هذا النوع من السحر يقوم الإنسان بأداء أفعال يريد من الآلهة أن تؤديها له؛ كأنهُ بذلك يغريها بتقليده، فمثلًا إذا أراد الناس أن يستنزلوا المطر، صَبَّ الساحر ماءً على الأرض، والأفضل أن يصبه من أعلى الشجرة.
ويحكى عن قبيلة «الكفير» أنها حين يتهددها الجفاف، يطلبون إلى مبشر أن يذهب إلى الحقول ويفتح مظلته.
وفي «سومطرة» تصنع المرأة العقيم صورة طفل تضعها على حجرها؛ راجيةً أن يجيئها بعد ذلك الجنين.
وفي «أرخبيل بابار» تصنع المرأة إذا ما أرادت لنفسها الأمومة عروسًا من قطن أحمر، وتقوم بحركات إرضاعها، وتقول صيغة سحرية معلومة، ثم تبعث إلى القرية بمن يشيع أنها حملت، فيجيء أصدقاؤها لتهنئتها.
وفي قبيلة «دياك» في بورنيو، إذا أراد الساحر أن يخفف آلام امرأة تضع، يقوم هو نفسه بحركات الوضع على سبيل التمثيل، لعله بذلك يوحي بقوة سحره إلى الجنين أن يظهر، وأحيانًا يدحرج الساحر حجرًا على بطنه، ثم يسقطه على الأرض، أملًا أن يقلده الجنين المستعصي، فتسهل ولادته.
وفي العصور الوسطى كانوا يسحرون الشخص بأن يغرزوا الدبابيس في تمثال من الشمع يمثل صورته.
وهنود بيرو يحرقون الناس ممثلين في دُماهم، ويطلقون على هذا اسم إحراق الروح ("قصة الحضارة"، لول ديورانت).
وتتحدث الكاتبة البريطانية دورين إنجرامز في كتابها «رحلة في الجزيرة العربية: حضرموت وجنوب الجزيرة»، عن البدو الحضرميين، فتقول: "وكانت لدى كل قبيلة تقريبًا كلمات أو عبارات معينة يُحظر استعمالها على أبناء هذه القبيلة. ومن هذا القبيل ما أتذكره عندما كنا ذات مرة جلوسًا حول نار المخيم، وكان الرجال يحاولون بكل وسيلة أن يحملوا البدوي الذي كان يمسك إبريق القهوة على أن يستعمل كلمة «يصب»؛ لأنهم كانوا يعلمون أن تلك الكلمة بالنسبة له من الكلمات المحرمة، وبالنسبة لبدوي آخر يعتبر كلمة «قرد» من المحرمات".
وهذا السلوك والتصرف بعينه تجده في الجماعات البدائية؛ حيث إنك لتجد في معظم هذه الجماعات عددًا كبيرًا جدًا من المحرمات: كلماتٍ وأسماءَ معينة ما كان لها قط أن تُنطق، وكذا أيام وفصول معينة تعتبر من المحرمات، حيث إن بعض الأزمنة لم يكن القتل يؤذن به خلالها ("قصة الحضارة"، لول ديورانت).
وهذا قد يعود بنا إلى الأشهر الحرم التي لها مكانة وقداسة عند العرب القدماء، وتحريمهم القتال فيها.
ولنختم حديثنا عن مسألة في رأيي من أهم المسائل التي نعاني منها وهي أحد مشاكلنا الجوهرية التي تلقي بثقلها علينا؛ وهي تقديس القديم، وتعظيم الأسلاف. وقد نعى القرآن الكريم على المشركين تقليدهم لآبائهم دون تصويب نظر أو إعمال فكر.
يقول تعالى: "وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون. قل أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم" (الزخرف: 24).
لقد كان الناس البدائيون يخشون موتاهم، ويعملون على استرضائهم خوفًا من أن يُنزلوا لعناتهم عليهم فيشقوا.
ويبدو أنَّ عبادة الأسلاف -كما يرى الباحثون في الحضارات- كانت ترمي -في ما ترمي إليه- إلى أن تكون ملائمة لتدعيم المجتمع من حيث فرض سلطانه ودوامه، وللتمكين من روح المحافظة على القديم والاحتفاظ بالنظام.
ولقد انتشرت عبادة الأسلاف وذاعت بشكل واسع في أرجاء الأرض في مصر، واليونان، وروما، ولا تزال تبسط سلطانها بقوة في نفوس اليابانيين والصينيين إلى وقتنا الحاضر ("قصة الحضارة"، لول ديورانت).
وإذا ما تجاوزنا شطط الوهابية وغلوها تجاه القبور وشدة نكيرها على الاعتناء المبالغ به بتعظيمها وزخرفتها وتقديس من يثوون تحت صفائحها بالتكفير والتضليل؛ لم يمنعنا مع ذلك أن نذهب إلى أنَّ هذه التقاليد التي عليها بعض الطوائف الإسلامية هو أيضًا داخل ضمن مفهوم «عبادة الأسلاف».
وهذه التقاليد -ولا شك- تعمل على ربط أواصر الأسرة برباط وثيق؛ وهو بالنسبة لكثير من المجتمعات البدائية بمثابة إطار خفي ينتظم الأفراد في مجموعة متماسكة محكمة الارتباط ببعضها.