صنعاء 19C امطار خفيفة

حكاية ثقافية يمنية لا نهاية لها ولا غُفران

الآثار المُغَيَّبة للشاعر عبد الله البردُّوني

2024-12-07
الآثار المُغَيَّبة للشاعر عبد الله البردُّوني
عبدالله البردوني (الجزيرة نت)

في الـ30 من أغسطس الماضي حلَّ موعد الذكرى الـ"25" على رحيل عبد الله البردوني (1929 – 1999) الذي مثَّلَ نافذةَ إبداعٍ أصيلة أَطَلَّ من خلالها القراءُ على اليمن وعوالمها وأصداء تاريخها وجيلٍ اتسعتْ آفاقه مع استحقاقات فَجْر يوم الثورة الصَّبي. وهو واحد من أفضل رُسُل الإبداع اليمني إلى المحيط العربي والإنساني في العصر الحديث.  

 
أتصور أنه ليس هناك خلاف حول دور البردوني وأهميته بالنسبة إلى الثقافة اليمنية، وهو دور يُذَكِّر بزُرَّاع سبأ المَهَرَة في تشييد حضارتها العظيمة. ظل البردوني يتعهَّد التُّربة الثقافية بقلب عاشقٍ وعقل فيلسوفٍ وعَزْم مُصلح لأكثر من أربعة عقود حرثاً وتخصيباً، ولم يُغادر عَالَمنا حتى استوى زرعه في أعماق هذه التربة مُمَثَّلاً في "12" مجموعة شعرية و"8" كتب في الفكر والنقد الأدبي والتاريخ، وترك بين أيدينا شَتَلات زرعٍ جديدٍ لكي تأخذ موقعها ضمن النسيج، لكنَّ المسؤولين عنها عاكسوا خُطَّة الزَّارع واحتفظوا بها في عرائشهم كأنَّهم لا يدركون أن الشَّتْلة تذوي إذا ظلتْ بعيدةً عن تربتها وقد تَنْبِذها إِنْ لم تَتَعَرَّف عليها كما يفعل الجسم البشري حين يرفض قبول زراعة عضوٍ يَشْتَبِه في غرابته.
 
كان البردوني، وفقاً للرواية المتداولة، يحتفظ بمخطوطات كتبه الأخيرة في صندوقٍ خاص اختفت منه بعد وفاته، وليس هناك معلومات دقيقة وموثوقة حول عددها وعناوينها لكن أغلب الشهادات تشير إلى خمسة عناوين: مجموعتين شعريتين "رحلة من شاب قرناها" و"العشق في مرافئ القمر" أُفرج عنهما وطبعتهما الهيئة العامة للكتاب – صنعاء في مجلد واحد عام 2022، ودراسة تاريخية بعنوان "الجمهورية اليمنية"، ودراسة أدبية في مجلد ضخم بعنوان "الجديد والمتجدد في الأدب اليمني"، ورواية بعنوان "العم ميمون". بالإضافة إلى سيرة ذاتية كان البردوني ينشر حلقاتها في صحيفة 26 سبتمبر وتُوفي قبل أن يُتمَّها، وقام غير شخص بجمعها وصدرتْ في أكثر من طبعة.
 
لقد مرَّ على رحيل البردوني ربع قرن ولا يزال أكثر ما تركه مخطوطاً مُغَيَّباً، ولذلك صار المهتمون بأدبه يترقَّبون – بسبب يأسهم – وقوع المعجزات لعلها تَنْحَلُّ عُرَى الأيادي التي تتشبث بها وتواصل حجبها لزمنٍ غير معلوم.
 

حكاية مليئة بالثغرات

 
صارتْ هذه القضية موضوعاً يتجنَّب البعض الكتابة عنه يأساً من الصراخ وسط بحرٍ شديد الاضطراب، لكن لا مناص من طَرْقه مراراً وتكراراً، فهذه قضيةٌ أخلاقية أولاً وثقافية بالدرجة نفسها. ولأن الكثير من الأخبار والمعلومات المتعلقة بواقعة اختفاء مخطوطاته تعاني من الاضطراب وعدم اليقين، فسوف أعمد إلى إعادة قراءة الواقعة كحكاية ثقافية، وباعتبار ما جرى استجابة ثقافية اشتركتْ فيها أطرافٌ بالفعل والكلام والصمت. وللسبب ذاته، لن أخوض في التفاصيل والشهادات والأسماء، وسأكتفي بالخطوط العامة للواقعة وذكر الأطراف التي يُعتقد أنها مسؤولة عن إخفاء المخطوطات وتخمين مواضع في الحكاية.
 
لوحة اكليريك للبردوني (artsufan)
 
بإمكان مَن تابع ما نُشِر من مقالات وتقارير وتصريحات وأقاويل خلال العقدين الماضيين أن يستخلص منها ثلاثة عناصر تُشكِّل في مجموعها الحكاية: حَدَث، وفاعلون، ومعلومات. العنصر الأول حدث إخفاء المخطوطات، والعنصر الثاني الأشخاص الذين أخفوها وهم ثلاثة أطراف يُعتقد أنها جميعاً أو بعضها على الأقل كان لها يَدٌ في إخفائها؛ الطرف الأول نظام صالح من خلال عناصره، والثاني ورثة الشاعر، والثالث أشخاص كانوا محلَّ ثقة البردوني ويعتمد عليهم فيما يتعلق بشؤون القراءة والكتابة والنشر. العنصر الثالث المعلومات ومصادرها كثيرة، وأكثرها أهميةً وثقةً جماعة من الأدباء الحواريين كانوا على اتصال بالشاعر الرَّاحل ومثلوا مصدراً للمعلومات عن المخطوطات المحجوبة.
 
ما هو يقيني بدرجةٍ عالية في هذه الحكاية الحَدَث، فواقعة الاختفاء أكَّدها البردوني عبر ما سجله في ملحقات كتبه المطبوعة من عناوين تحت الطبع وما ذكره في حواراته الصحفية، بالإضافة إلى شهادات الحواريين الذين ذكر بعضهم أنه شاهد هذه المخطوطة أو سمع البردوني يتحدث عن تلك. إنَّ وجود حدث ما يقتضي فاعلاً، ويقينية الواقعة تحتم وجود فاعلين، وقد تأكد ذلك بظهور المخطوطتين الشعريتين مطبوعتين في عام 2022، بصرف النظر عن المعلومات المتداولة عن لجنة حصر التركة وما يرويه البعض في السنوات الأخيرة عن رؤيته لمخطوطة أو أخرى عند أحد الورثة.
 

شاعر كبير وثقة أورثت أخطاء

 
لم يكن البردوني شاعراً خامل الذكر ولا ميّالاً إلى العزلة وتجنّب الاختلاط بالناس، بل كان علماً بارزاً وشخصية اجتماعية تعيش بين الجماهير ولأجلها، وأصدقاؤه ومعاريفه ينتمون إلى مختلف المحافظات اليمنية، وكان كثير من أصدقائه عند موته يشغلون مواقع ومناصب في مؤسسات حكومية ومدنية. فكيف تفرق ميراثه المخطوط واختفى مع وجود هذا الحشد الكبير من الأصدقاء والمحبين والأتباع والتلاميذ ومؤسسات لعل أقربها إلى الاختصاص اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين الذي كان البردوني أحد مؤسسيه وأول رئيس له؟
 
البردوني في فناء منزله (عدسة عبدالرحمن الغابري)
 
أمام غموض الوقائع واضطراب المعلومات سوف نلجأ إلى التخمين لتصور الخطوط العامة لملابسات ما جرى. يبدو أن الجموع المذكورة آنفاً من أفراد ومؤسسات كانتْ تُقدِّر – بُعيد إعلان موت الشاعر- بثقة كبيرة أنّ البردوني شاعرٌ كبير وعلم مشهور لن يجرؤ أحدٌ على العبث والتعدي على ميراثه الأدبي المخطوط. ويظهر أن هذا التقدير قد قادهم إلى نوعٍ من التواكل معتقدين أن باستطاعة زوجة الشاعر لوحدها التكفل بحفظه دون الالتفات إلى أن البردوني لم يُعْقِب وسيكون له وارثون من الأسرة، كما لم يؤخذ بالاعتبار وجود سلطة حاكمة تخشى من قلم البردوني وقد تتربص بميراثه، ولعلهم أرجأوا الأمر إلى ما بعد انقضاء فترة الحزن وترتيب وضع الأسرة
 ومن المحتمل في الفترة اللاحقة أنها أخذت تظهر إشاعات عن قيام عناصر من النظام الحاكم بالاستيلاء على مخطوطات الشاعر، ويبدو أن هذه الإشاعات قد حوَّلتْ التواكل إلى تخاذل وخشي البعض أو الكل من إثارة الموضوع بشكل رسمي. وفيما بعد عرف الجميع أنَّ الصراع بين أرملة الشاعر وبقية الورثة وصل إلى ساحات القضاء.
 
لا نطمح من هذا التصور إلى بناء منظور جديد ولا التوصل إلى معلومات أو وقائع غائبة. وكما أسلفنا، فهو لا يزيد عن كونه تخميناً، وحقيقة ما جرى لا يعلمها سوى الأطراف المشاركة. إذا أخذنا المعلومات المتداولة عن الأطراف الثلاثة المسؤولة عن إخفاء المخطوطات بوصفها معلومات صحيحة – وقد تأكد جانب منها عام 2022، فسيكون بإمكاننا أن نتخذ من التخمين منطلقاً لمحاولة تأويل دوافع هذا الإخفاء وغاياته وما نجم عنه من آثار على المدى القريب والبعيد. وبناء على ذلك، يمكن القول إن بعض أجزاء التخمين لا تخلو من الصحة، ويهمنا منه جزئيتان الأولى وجود تقدير عام أن البردوني شخصية ثقافية ويتمتع بمكانة راسخةٍ اجتماعياً وثقافياً وله أصدقاء وحواريون كُثُر، والثانية أن هذا التقدير قد أدى إلى (أو اقتضي آلياً) تصور أن لا أحد سيجرؤ على التلاعب بآثاره للاعتبارات السابقة. لقد اعتقدتْ الجموعُ أن تلك الاعتبارات ستمنع حدوث أيّ تلاعب أو ضياع لإرثه الثقافي، ولعلها من المفارقة أن تغدو الاعتبارات نفسها باعثاً لتلك الأطراف على إخفاء أعماله بعد أن سار الأمر من التقدير إلى التصور ومن التواكل إلى التخاذل إلى أخبار اللجوء إلى القضاء بين الورثة، وبعد ذلك تمسَّك كلُّ طرفٍ بما احتازه وسَادَتْ الأقاويل والأخبار.
 

استثمار أم تَمَلُّك للرَّمز الثقافي

 
لقد كان الجميع، وفي مقدمتهم الذين احتازوا المخطوطات، يدركون بفطرتهم وخبرتهم ألمعية البردوني وما يُمثَّله من قيمةٍ ورمزيةٍ يمنياً وعربياً، ومن المؤكد أن الأطراف الثلاثة ما كانت لتُقْدِم على احتيازها وحجبها إلا لاعتقادها أنها تحوز كنزاً ثقافياً ليس له نظير. إِنْ افترضنا أنَّ لنظام صالح يَداً فلعله فعل ذلك خشيةً من سلطة الحق الثقافية التي يتمتع بها البردوني ورغبةً في تبييض صفحةٍ لم يكن يعتقد الشاعر بنقائها. وإذا كان الورثةُ وضعوا أيديهم على محتويات الصندوق فلاعتقادهم أولاً أن التركة حقٌ شرعي لهم، وثانياً أن الاستئثار بها يجعلهم محط نظرٍ واهتمام، وفي الأخير اجتذاب عرض مناسب وصفقة مجزية. وإذا كان الطرف الثالث احتاز بعضها فلكي يظفر بقيمةٍ أدبية ومعنوية كالتنويه باسمه عند النشر أو الاشتراك في إعدادها ونشرها بعد أن تَمُرُّ السنوات وتهدأ العواصف. وفي هذه الحالات الثلاث، فإن الباعث الرئيسي على الإخفاء يتأسّس على ما يمثله الشاعر داخل ثقافته من مكانةٍ رفيعة وقيمةٍ رمزية سواء أكان الغرضُ تغييبَ صوتِه أو ممارسة الحق الشرعي فيه أو اكتساب قيمةٍ أدبيةٍ ورمزية من أعماله.
 
البردوني بريشة عبدالله المجاهد (الوحدوي 1998)
 
هذه هي الأغراض التي ربما هدف الفاعلون إلى تحقيقها، وهذا هو الجانب الظاهر، غير أنّ باعثاً يلوح على مستوى أعمق وهناك قرائن - ستأتي في موضعها – تُرَجِّح غَلَبَته على غيره، وهو تملُّك الرَّمز الثقافي الذي لم يكن بوسع السلطة تملُّكه أو على الأقل احتواءه في أيام حياته وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى الطرفين الآخريَن. ويمكننا توضيح فكرة تملُّك الرَّمز الثقافي من خلال النموذج نفسه، فلو تساءلنا عن كينونة البردوني؟ لكان الجواب ببساطة هو تلك الرُّوح الإنسانية التي كانت تعيش بيننا وتتخذ المواقف وتُفَكِّر وتُبدع. لقد اكتسب الرجل رمزيته الثقافية عبر مسيرة كفاحٍ طويلة ومن خلال التجاوب المتناغم بين فاعلية الروح الحية فيما تمارسه مِن أدوارٍ ثقافية واجتماعية وبين ما سطَّرته من إبداعٍ أدبي وفكري في كتبٍ مطبوعة ومتداولة. بعد أن غادرتْ الرُّوحُ عَالَمَنا ووري جثمانه تمثَّلَ جانب من رمزية الرُّوح في تلك الآثار المطوية وصارتْ الأخيرةُ دالةً عليها ومتماهيةً معها ما ظلتْ الآثارُ مخطوطةً ومطويةً بيد المُلَّاك، وحين تُطبع وتتحول إلى نسخٍ بأيدي الناس ستنتفي الرمزية عن المخطوط وتصير شأناً معنوياً لا يمكن السيطرة عليه أو تملُّكه. وبعبارةٍ أخرى، قد تتمثل رمزية الكاتب العبقري والاستثنائي فيما صاغته روحُه وفكرُه من كلماتٍ وأفكار، ومتى ما تحررتْ من قيود المخطوط إلى رحابة المطبوع حوَّمتْ في سماوات الثقافة الإنسانية ككائناتٍ حُرة تُحَلِّق وترتحل بين الفضاءات والأزمنة المتباعدة.
 
إنَّ السعي إلى التملُّك نزوعٌ إنساني عند معظم البشر، لكن هذا النزوع الطبيعي قد يتحوّل مع الأشياء النادرة التي لا يحوزها سوى قلةٍ من الناس إلى رغبةٍ نرجسيةٍ تشتهي المزيد ولا تحب أن تشارك الآخرين فيما لديها. وأمَّا في حالة وجود شيءٍ ليس منه سوى نسخةٍ وحيدةٍ في هذا العَالَم أَبْدَعَه أحد أبرز شعراء العربية في العصر الحديث ورمزٌ ثقافيٌّ لأبناء قومه فمن المتوقع أن تغدو هذه الرَّغبة النرجسية نوعاً من السُّعَار في عدم التفريط بما احتازته. وإذا تأملنا هذه النزعة فيما يتصل بآثار البردوني ستتكشَّف لنا عِلَّة ظهور المجموعتين الشعريتين وبقاء غيرها من المخطوطات في غيابات التملُّك. تشير المعلومات المتداولة إلى أن مخطوطة المجموعتين لم تكن نسخة وحيدة بل كان يوجد منها أكثر من نسخة بحوزة عدد من الأشخاص وعن طريق أحدهم سُرِّبتْ بعض القصائد ونُشرتْ خلال العقدين الماضيين. من الواضح أن وجود نسختين أو أكثر من مخطوطة بأيادٍ متفرقة ينفي عنها صفة التَّفرد، ويُقَلِّل من قوة تمثيلها للرَّمز الثقافي، وقد يَحُدُّ من طغيان رغبة التملُّك والاستئثار.
 
لقد غُيِّبتْ المجموعتان الشعريتان لأكثر من 22 عاماً، فهل يتوجب علينا أن ننتظر رُبعَ قرنٍ آخر حتى يُفْرج عن مخطوطةٍ أخرى؟ وهل الحصول على صفقةٍ مناسبة هو سبب حيازة المجموعتين لما يقرب من ربع قرن وتغييب بقية المخطوطات إلى أجلٍ لا يُعرف؟ قيل إن ظهور مخطوطة المجموعتين جرى بالتفاوض مع نجل أحد الأطراف، وجرى التفاوض مع الابن وقيامه بتسليمها بعد وفاة الأب، فهل ينبغي أن نتعلم التَّحَلي بالصبر الطويل ونترك لعزرائيل تسوية الأمر على مَهْلٍ مع المتشبثين ببقية الأعمال؟ وحتى إنْ فعلنا ذلك فمَن يضمن لنا ألَّا يُتَلاعب بها وألَّا تُفْقَد إلى الأبد خلال غَيبة الربع القرن القادم؟!
 

الحَجْب والمُطَاولة جناية لا يزول أثرها

 
 من المؤكد أن المسؤولين عن حَجْب هذه الأعمال يلتمسون لأنفسهم كلَّ مُسوِّغٍ مُمْكنٍ تبدأ من ممارسة الحق الشَّرعي في تملُّكها ولا تنتهي عند الحرص على صيانة إرث البردوني من الضياع وأيادي العابثين، وإِنْ سُئِلَوا عن تأخير إخراجها جاء الرد في كلِّ مَرةٍ بعِلَّة، وهي إجمالاً لا تتجاوز أربع عِلَل: أن هذه الأعمال بحاجة إلى وقتٍ طويل ومجهودٍ كبير في المراجعة والتنسيق، ومشكلة اختلاف الورثة، والبحث عن ناشر ثِقَة، والرابعة (تُفهم من السياق) صفقة ممتازة. ففيما يخُصُّ المراجعة والتنسيق لدينا من حوارات الشاعر في سنواته الأخيرة وشهادات بعض الأدباء ما ينفي ذلك تماماً، فتلك الأعمال نُسقتْ ورُوجعتْ بإشراف الشاعر، وكيف تُراجع أعمال كاتبٍ ارتضاها وتركها على صورة محددة؟! وليس من المعقول أن تظل مشكلة اختلاف الورثة معلقةً بلا حل لربع قرن، وألَّا يجدوا خلال خمسة وعشرين عاماً ناشراً ثقةً وصفقةً مجزية لطباعة أعمالٍ جديدة لكاتبٍ تتردد شهرتُه بقوة بين المحيط والخليج!
لن يتبقى مسوغٌ معقول ومقبول لاستمرار التشبث بالمخطوطات وحجبها سوى نزعة تملُّك الرَّمز الثقافي، وهي نَزْعَةٌ – كما لاح لنا من المجموعتين الشعريتين – ثابتةُ النَّفاذ ورغبةٌ لا تَشْبَع حتى الموت في حيازة الرَّمز والاستئثار به دون الجماهير والمُطَاولة في حرمانها مما قطَّرَته عبقريةُ الشاعر الذي كان دوماً يَحْمِلُ هذه الجماهير بين جوانحه ويضَعها نُصْبَ عينيه فيما يَكْتُبُ ويَهَبُها من ضوء قلبه وخَطَرَات عقله إبداعاً وفكراً.
 
عبدالله البردوني (Wikipedia‏)
 
ما فعله هؤلاء (أقارب ومقربون ومثقفون وعناصر نظام وأنظمة متعاقبة) ويستمر بعضهم في فعله جنايةٌ لا غفران لها في حَقِّ هذا الشاعر العظيم وأدبه وجمهوره، وواضح أنه لا مجال للانتصاف منهم ومحاسبتهم فجنايتهم تتضاعف بمرور الوقت ولن يَنْمَحِي ما ألحقوه بأعماله الأخيرة من ضَرَرٍ. بدأ هذا الأمر حين توزعوا مخطوطاته واختلفوا حولها وغيّبوها لعقودٍ ولن ينتهي حتى بعد ظهور بقية المخطوطات وطباعتها كاملةً؛ لأنهم بحجبها والمُطَاولة في إخراجها فتحوا على هذه الأعمال باباً واسعاً من الشَّكّ في أصالتها ونسبتها لن يكون بإمكان أحدٍ أو جماعةٍ إغلاقه أَبَدَ الدَّهر. المعروف أن البردوني كان يُملي أعماله على كاتبه ولا أظن أن هناك مخطوطات لأعماله السابقة للمقارنة، وعن الخط والنسخ وتفاصيل المحتوى والعناوين وظروف حجبها والذين احتازوها والذين استلموها وأعدوها للنشر وصححوا النسخ التجريبية سوف تتوالد أسئلةٌ لا حصر لها وقد لا تجد إجابةً ولا مَن يجيب عنها. وليس ببعيد ما أثاره نشر المجموعتين الشعريتين قبل عامين من ردود فعل لم تتوقف، فقد انداحتْ دائرةُ الشك من التفاصيل الصغيرة إلى التشكيك كليةً في صحة المحتوى ونسبته إلى البردوني. إن رغبة التملُّك النرجسية أو السُّعار قد ينجُم عنه عواقب كارثية، وما توهموه من تملُّكه لن يجيء على ما أرادوه، فكُلَّما طَالَ حَبْسُ هذه الأعمال ازدادتْ تباعداً في القيمة والمصداقية عن الأعمال التي طبعها الشاعر في حياته، وفقدتْ جزئياً أو كلياً بريقها ونفاستها ومن ثم سَيَقِلُّ رواجُها والاهتمام بها لظلال الارتياب التي تكتنفها، وإنْ تكثَّفتْ هذه الظلالُ فقد تغدو في نظر البعض (وربما الكثيرين) كومةً من الورق لا قيمة لها.
إن الخاسر الأكبر من جرَّاء هذه المقامرة هو الشاعر وأدبه وجمهوره، وعلى نحوٍ خاص جمهوره اليمني. فالبردوني، بالنسبة إلى هذا الجمهور، هو صوتها الجَسُور الذي يتجاوب مع عزيف رمال صحرائها وأصداء بُروق جبالها الراعدة والساطعة التي تنشر الأمل والخير. كما وَجَدَتْ في شعره ونثره مرآةً صافيةً لا تَمَلُّ من التَّمَرْئِي فيها وتأمُلّ ملامحها المختلفة وتاريخ مكنونات روحها وجغرافية ثقافتها المتنوعة والمتمازجة، وحين تَحْتَجِبُ الرؤيةُ لديها وتتكسَّر المصابيحُ في يدها تلوذ بالبريق الذي تعكسه مرآتها.
لا شك أن شطراً من الجمهور يدرك على نحوٍ واعٍ حجم هذه الخسارة، وحتماً سيَزْوَرُّ عن أعمال الشاعر الأخيرة إِنْ وَجَدَ ما يُدَاخل الصوتَ في أصالته أو تَبَيَّن ما يُغبِّش صفاء المرآة.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً