صنعاء 19C امطار خفيفة

مصطلحا اليمين واليسار في تجربة التنظيم والحزب في سياق السلطة وبناء الدولة في جنوب اليمن ( ١ - ٢ )

الإهداء:

 

إلى فيصل عبداللطيف الشعبي، قائداً سياسياً وحزبياً ووطنياً كبيراً.. لا يمكنك أن تقرأ تجربة التنظيم السياسي الثوري دون ان يكون اسمه ودوره على رأس هذه الأسماء، فقد كان فيصل، وسلطان أحمد عمر بدرجة أساسية، ومعهما، على أحمد السلامي، وعبدالحافظ قائد، هم من شكلوا النواة الأولى لقيام تنظيم حركة القوميين العرب في كل اليمن.

 

فيصل عبداللطيف الشعبي، عقل فكري وسياسي وتنظيمي لا يستهان بدوره، في قلب تجربة التحرر الوطني، وعملية التحرير لجنوب اليمن حتى الوصول إلى الاستقلال الوطني، وقيادة تجربة بناء الدولة.
 
هو أحد أعضاء الوفد المفاوض في جنيف، ولعب دوراً فاعلاً ومتميزاً في مجرى المفاوضات، وهو ما سمعته من القائد المؤسس للحزب الاشتراكي عبدالفتاح إسماعيل، في منفاه، الذي كان يجمع بين المنفى الاختياري والإجباري.
من عرفه –فيصل- عن قرب يحكي عن أنه ليس فقط دمث الاخلاق ، بل ومحاور متمكن، ويتميز بالشجاعة في التعبير عن قناعاته، ومن إنه يتميز - كذلك - بقدر عالٍ من الصدق في علاقاته مع من حوله، محب لرفاقه، وعلى قدرٍ كبيرٍ من التسامح بعيداً عن العصبية المناطقية والقبلية، كان قريباً من قحطان الشعبي الرفيق والرئيس، ليس على اساس ما يجمعهما من قرابة، أسرية، بل لتوافق رؤاهما، ومنطق تفكيرهما حول قضايا تجربة الثورة وبناء الدولة.
 
فيصل عبداللطيف الشعبي
 
إعدامه بتلك الطريقة المسيئة التي تمت هي في تقديري بداية العد التنازلي المبكر على المستوى السياسي الديمقراطي، للوقوع أكثر في قعر الشمولية والاستبداد بالرأي، وتغييب الديمقراطية داخل بنية التنظيم، وبعد ذلك في داخل الحزب الاشتراكي، والتي انعكست سلباً على كل تجربة بناء السلطة والدولة في جنوب البلاد، وصولاً إلى كارثة ١٣ يناير ١٩٨٦م. 
لروحه الرحمة ولأسمه الخلود في ذاكرة الحزب والوطن والشعب.
 
لقد وجدنا من المفيد والضروري قبل الدخول في مناقشة تجربة الجبهة القومية في السلطة منذ بُعيد الاستقلال 30 نوفمبر 1967م، والصراعات السياسية التي اكتنفت ورافقت تجربة الجبهة القومية في سياق قيادتها وإدارتها للسلطة والمجتمع (بناء الدولة) في المراحل المختلفة، أن نبدأ ببحث ومناقشة صلاحية، ودقة مفاهيم واصطلاحات سياسية أيديولوجية شاعت في سياق تجربة الحكم في تصنيف وتوصيف، وتسمية واقع وجوهر الصراع السياسي الذي دار بين الأطراف، أو الأجنحة المختلفة في رأس قيادة الجبهة القومية، والتي توزعت في المرحلة الأولى من30 نوفمبر 1967م،إلى 22 يونيو 1969م، وشاعت في الأدبيات السياسية إلى ما بعدها، حتى صارت لازمة سياسية أيديولوجية " تيمة", في صورة مفهوم واصطلاح "اليمين الرجعي" ، و"اليمين المتخلف" و"اليسار الثوري"، وإلى ما بعدها، بين 22 يونيو 1969م – إلى يونيو 1978م، وما بعدها في صورة مفاهيم واصطلاحات تصنيفيه وتوصيفية للصراع بأنه كان بين "اليسار الانتهازي"، أو "اليسار الطفولي"، وفي مقابله "اليسار التقدمي" و"اليسار الاشتراكي العلمي"، وغيرها من التعابير والاصطلاحات والمفاهيم التي أسقطت على أطراف الصراع. وكان ذلك يتكرس في الخطاب الرسمي للطرف المنتصر في الصراع، سواء في شكل انتصار سياسي/ تنظيمي يتخلله بعض العنف المحدود، والواسع أحياناً بعد حسم الصراع، وخاصة في الأرياف كما تم بعد إزاحة قحطان، وتصفية فيصل عبداللطيف، أو في شكل عمل عنفي دموي تصفوي للطرف الآخر (سالمين)، والذي لا يبرأ من جملة تصفيات دموية قاسية قادها ضد الخصوم في خارج الجبهة، " البعث", و" الناصري", وفي داخلها بنسبة أقل، وصولاً إلى كارثة ١٣ يناير ١٩٨٦م.
 
فيصل وعبدالحميد الشعبي ( إرشيف النداء)
 
 إننا هنا لن نقف طويلاً – بصورة استقصائية وإحصائية - أمام بحث حالة العنف والتصفيات الجسدية والإقصاء للآخر- لأن ذلك لا معنى لمن يتطلع للمستقبل
 - فهي خارج سياق هذا المبحث الذي لا صلة له بفكرة وقضية تصفية الحسابات الصغيرة.
 
 لذلك سنحاول تقديم مقاربة نقاشية حوارية عقلانية نقدية عامة لجذر الحالة الموضوعية والسياسية والثقافة التاريخية للعنف التي رافقت تجربة الجبهة القومية - كما رافقت مثيلاتها من التجارب في المنطقة العربية- وكان جزء هام منها، له صلة بالكفاح الثوري المسلح،" ثقافة العنف الثوري", ومقاومة الاستعمار وعملائه وأعوانه وإدارته ومخابراته، وجزء منها له صلة بالصراع السياسي العنفي مع الأحزاب السياسية التقليدية (عنف الخطاب اللفظي)، و(عنف الإقصاء وعدم الاعتراف بالآخر) كما له صلة كخلفية تاريخية، بالصراع العنفي المسلح مع جبهة التحرير. وبطبيعة الحالة لكل ذلك صلة بغياب الثقافة الديمقراطية، وهيمنة الثقافة القبلية والعشائرية والبدوية في مجتمع متخلف لا يعترف بالآخر إلاَّ عدواً وإلا قوياً، أو نداً. يضاف إليها، بعد ذلك، حسابات السياسة والسلطة وصراعاتها الذاتية والموضوعية التي "يفرزها" وتنتجها علاقة الحزب القائد بالسلطة والثورة والثروة والمكانة. وهنا من المهم الإشارة إلى ضعف "الثقافة الوطنية التاريخية", عند الجميع، وضعف صلتهم بالمعرفة المنتجة سواء الاشتراكية العلمية التي لم يجر فهمها ولا هضمها، أو الثقافة الوطنية والقومية- بدرجات متفاوتة- سواء داخل التنظيم الواحد الجبهة القومية أو في داخل التنظيمات والتيارات المختلفة في المرحلة قيد البحث هذا. إلى جانب تعقيدات الصراع وتداخلاته واشتباكاته المحلية/ الوطنية والإقليمية والدولية، والاشتغالات الخارجية (الاختراقات في طابعها الصراعي المؤامراتي وغيره)، في اللعب على تعارضات القوى السياسية في قلب الصراع.
 
 وقد حاولنا الإشارة إلى تاريخ ذلك العنف لماماً في سياق القراءة العامة وفي بعض المباحث من وحول هذا الموضوع . 
إن مفاهيم واصطلاحات مثل اليمين الرجعي واليمين المتخلف واليسار التقدمي واليسار الثوري واليسار الطفولي والمغامر والانتهازي - بعد ذلك - جميعها في تقديرنا اصطلاحات ومفاهيم جرى تداولها في الكتابة السياسية، والأيديولوجية اليمنية بعيداً عن سياقها الموضوعي (الواقعي)، وبعيداً عن تجلياتها النظرية والمفهومية، وبمعزل عن دلالاتها الحقيقية في الواقع . وهذا الأمر ينطبق على المتابعة السياسية التحليلية النقدية لمسار الصراع في داخل الجبهة القومية، أو في غيرها من الأماكن وفي داخل الجبهة القومية كانت ظاهرة بارزة ، وبالتحديد في تجربة مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني 30 نوفمبر 1967م وصولاً إلى كارثة 13 يناير 1986م .
 
 إن مفاهيم واصطلاحات اليمين واليسار بتنويعاتهما المختلفة جرى تداولها انتصاراً للبعض وهزيمة وتشويهاً وانتقاصاً من حق البعض الآخر، في سياق مرحلة ما بعد الحسم أو الانتصار. وهذا الأمر ينطبق على ما كتبه الأستاذ نايف حواتمة في كتابه "أزمة الثورة في الجنوب اليمني تحليل و نقد"، وفي غيره من الكتابات والأبحاث، وهو ما صار تقليداً سياسياً وأيديولوجياً في توصيف وتصنيف الآخر في أدبيات الجبهة القومية والحزب الاشتراكي -لاحقاً – وهي موضوعياً وتاريخياً حالة أيديولوجية وسياسية عربية ( عامة )، نجدها حاضرة في السلطة ، وفي المعارضة . وفي تقديرنا أن "اليسار واليمين "تعبيرات واصطلاحات ومفاهيم سياسية أيديولوجية ذاتية أسقطت على حالة صراع سياسي داخل الجبهة القومية، والحزب الاشتراكي، حتى غدت لازمة أيديولوجية "شعاراتية" تعكس في الواقع غياب الثقافة التعددية والديمقراطية، وضيق أفق بالمعرفة المنتجة " النظرية", وبالواقع، وعدم قدرة على تقبل المختلف والمغاير. والحقيقة أنه حين يغيب الإبداع النظري والمعرفي والفكري، قطعاً تسود وتهيمن حالة من النقل الميكانيكي سواء من السلف السابق (سلفي)، أو من الخلَفِ اللاحق ،كحالنا مع النقل الفوتوغرافي من أدبيات الاشتراكية العالمية (العلمية)، وهو الأساس في قيام وحدوث ما يشبه الفجوة بين النظرية و الأيديولوجية ، والواقع (النظرية والتطبيق). وفي حالة كهذه، تنعدم معها القدرة على وعي وفهم الواقع في تفاصيله المشتبكة والمعقدة، مما يجعل التفسير الذاتي للواقع ومشاكله تتخذ صورة الحلول المعلبة/ الجاهزة، من تجارب مغايرة، وباجتهادات ثورجية (نخبوية)، كما تم لاحقاً في سياق حل قضية الأرض والزارعة والفلاحة (الإصلاح الزراعي)، والانتفاضات الشعبوية الفلاحية العفوية، ما تسمى بـ"الأيام السبع المجيدة".!! ونفس الأمر قد جرى حول بعض إجراءات التأميم - ونقول بعض- التي طالت المساكن، وتجارة التجزئة والتجارة الداخلية والمقاولات، والموقف الحدي من كل البرجوازية دون تحديد، ومن قطاعات اقتصادية تقع وتقف ضمن قوى التحالف الوطني والثوري. أما ما كان يحصل في حقيقة الأمر، فهو ليُّ عنق الواقع في تفاصيله المعقدة لصالح النظرية والأيديولوجية المعلبة، بعد تحويرها ذاتياً وإسقاطها على الواقع في انتظار حلول لمشاكل الواقع، لأن ما كان يتم حقيقة هو اختزال وتكييف للواقع ليتلاءم وليخدم "مصداقية"، "النظرية", والأيديولوجية. ومن هنا لم تساهم بعض الإجراءات التنفيذية سوى في إنتاج مشاكل جديدة. يبدو أن عادة التعلق بالشعارات والمفاهيم والمصطلحات الأيديولوجية الجاهزة هي التي طغت إلى حد بعيد على بعض جوانب القيادة والإدارة للسياسة وللصراع، ولبناء الدولة، وفي علاقة كل ذلك بالمجتمع. فلم يكن -بهذه الدرجة أو تلك- بمقدور هذه القيادات بلورة رؤاهم ومفاهيمهم في علاقة حية بالواقع المعاش، خاصة وقد لعب زخم ثقافة "العنف الثوري", دوراً في ذلك.
 
 ومن هنا تغليب "النظرية" والأيديولوجية (الثورية)، على الواقع في بعض الإجراءات التنفيذية، على عظمة الإنجاز السياسي والتاريخي للتجربة الوطنية للجبهة القومية في بناء الدولة من الصفر، وفي توحيد المجتمع السياسي في دولة وطنية واحدة لأول مرة في التاريخ الوطني لجنوب البلاد، وفي الانجازات الاجتماعية الاقتصادية والمعيشية لصالح أوسع أغلبية فئات وشرائح وطبقات المجتمع، وخاصة الفقيرة منها. أما الإشارة للنواقص والأخطاء والعيوب فلا ينتقص شيئاً من عظمة الإنجاز الوطني التاريخي لتجربة الثورة وبناء الدولة في جنوب اليمن .
 
 فكائناً من كان من يتسلم دفة القيادة في تلك الظروف الموضوعية والذاتية التاريخية، سيجد نفسه ذاتياً وعملياً أمام جملة هذه التحديات الصعبة والمهمات ذات الطابع التاريخي الاستثنائي . 
إن الباحث الموضوعي التاريخي النقدي لم يجد أنه، وفي مستوى واقع البنية الذاتية للحركة السياسية والوطنية اليمنية في جنوب البلاد، وفي واقع التحديات الداخلية المتراكمة/ التاريخية، والتحديات الإقليمية، والدولية التي حاصرت التجربة، سياسياً واقتصادياً وحتى عسكرياً، من لحظة قيامها - كما كان الحال في شمال البلاد بعد قيام الثورة مباشرة- ما كان بإمكانها سوى إنتاج تلكم القراءات والقرارات، وما يشبه تلك الحلول - زيادة هنا ونقصاناً هناك - وهي ميزةُ وسمةُ أي عمل ثوري ابتكاري، ريادي، استثنائي/ تاريخي، وليس الزعم بوجود "اليمين" و"اليسار" من اختراع الجبهة القومية، وإنما هي مفاهيم واصطلاحات كانت سائدة وشائعة ومتداولة من قبل في المشهد السياسي في جنوب البلاد وفي شماله ، وفي معظم أرجاء المنطقة العربية. ومشكلة الجبهة القومية أنه أتيح لها تنفيذها أو تطبيقها في واقع الممارسة، وفي داخل الخطاب السياسي الرسمي (السلطوي) لها، على داخلها وعلى من يقع خارجها بمثل ما غيرهم احتفظوا بتطبيقاتهم السياسية الأيديولوجية العنفية الإقصائية/ الدموية، تجاه الآخرين تحت عناوين: أفكار مستوردة، عملاء شيوعيون، عملاء للروس، ملحدون وكفار وغير وطنيين.. إلخ!
 
 إن اصطلاحات ومفاهيم اليمين الرجعي واليمين المتخلف، واليسار الانتهازي والطفولي والمغامر، هي، في تقديرنا، ليست سوى تجليات للوعي السياسي التاريخي الأحادي، هي قراءة أيديولوجية إقصائية خارجية "ذاتية"، للواقع هروباً من تشخيص الواقع في تفاصيل صراعاته السياسية الداخلية العميقة كما هي. وهو الأمر الذي لم يسمح لظهور وتطور علاقات فكرية وسياسية سلمية / تعددية داخل بنية النظام السياسي الجديد، في الجنوب، كما في الشمال، كان يمكن لها أن تتيح مساحة معقولة لهوامش السياسة التعددية أن تشتغل، داخل حياة الحزب والسلطة والمجتمع باتجاه تقليص تيار حمى ثقافة "العنف الثوري" لصالح سياسة تعددية تفتح حيزاً معقولاً لحضور الآخر، وفي مناخ ذلك التقوقع والدوران حول ثقافة "العنف الثوري"، كان اللجوء إلى تصفية المختلفين والمعارضين له/ لهم خارج الجبهة القومية بالعنف، وبعد ذلك تصفية الخصوم داخل الجبهة القومية ذاتها، هي دورة عنف تأخذ مداها، بين الداخل والخارج، والسبب في ذلك يعود – في تقديري – إلى التمسك من قبل الطرفين بمواقف وقضايا الحد الأقصى "الجذرية"، وفي بلدان مستويات تطورها السياسي الديمقراطي يكاد يكون شبه منعدم، وفي أوضاع اجتماعية اقتصادية ضعيفة التطور، البنيات والتراكيب الاجتماعية فيها متشابكلة ومتداخلة، ومعقدة، يصعب معها الحديث عن الفواصل الحقيقية فيما بينها، وبالنتيجة عن الحلول الجذرية / الحدية، فتكون النتيجة إعادة إنتاج العنف، وثقافة العنف، باكلاف بشرية باهضة، وهو ما عاشته وعانته العديد من التجارب السياسية العربية في السلطة وفي المعارضة .
 
 وليس خطاب اليمين الرجعي والمتخلف واليسار الانتهازي والطفولي سوى ذرائع واهية لتبريرات إزاحة الخصم والمختلف. وهي اصطلاحات ومفاهيم تعكس وعيً زائفاً بالذات وبالواقع وبالآخر، لا صلة حقيقية لها بجوهر الصراع الذي جذره وسببه سياسي وذاتي وسلطوي، وأخيراً قد يكون أيديولوجياً إن جاز التعبير
 - بهذه النسبة أو تلك - ولكن ليس له في كل الأحوال الدور الحاسم، أقصد البعد الأيديولوجي .
 
 هي صراعات سياسية حول السلطة، وتدخل فيها - في الغالب - جوانب ذاتية/ شخصية (شخصنة للصراع)، ولا علاقة لها في الغالب بالرجعية، والتخلف والتقدمية والثورية، والدليل على ذلك أن الجميع -أو معظمهم- تم إعادة الاعتبار، لهم والاعتذار الضمني والمباشر ممن لحقهم العسف والأذى، حتى القتل، و هو ما يجب أن يكون.
 
وليست هذه القراءة سوى محاولة اعتذار متأخرة لما كان في هذا السياق والمعنى.
 
 وهذا، في تقديرنا، ينطبق على كل الحالة السياسية والثورية العربية -بدرجات متفاوتة- في قمة الحكم وفي خارجه.
 
 وفي تقديرنا أن الجبهة القومية كانت قد استشعرت ذلك -بحدود بسيطة لا ترقى إلى درجة الوعي المعرفي / الفكري التاريخي، بالمشكلة الأساس، وشرعت في مرحلة مبكرة، بعد الاستقلال بأقل من سنة، في تقديم قراءة نقدية تصالحية وتسامحية داخل تجربة الجبهة القومية باتجاه معارضة الجنوح نحو تسمية اليسار واليمين والإقصاء، وإن بصورة جنينية، وخجولة بهدف تحقيق توافق سياسي تنظيمي داخل البنية القيادية للجبهة القومية لم يصل ليطال خارجها. تحقق ذلك حين شكلت القيادة العامة للجبهة القومية " اللجنة التنظيمية للجبهة القومية " وفقاً لقرارها الصادر في 24 أغسطس 1968م بتشكيل لجنة لكتابة تاريخ التجربة الثورية في جنوب البلاد والذي تضمن رداً، حسب قرار تشكيل اللجنة ، على كتاب نائف حواتمة " أزمة الثورة في الجنوب اليمني تحليل ونقد ". وقد أوكلت اللجنة التنظيمية كتابة الكتاب إلى كل من: علي عبدالعليم، عبدالفتاح إسماعيل، خالد عبدالعزيز، فيصل الشعبي، صدرت الطبعة الأولى منه في نيسان (أبريل) 1969م . وجاء كتاب اللجنة التنظيمية للجبهة القومية تحت عنوان "كيف نفهم تجربة اليمن الجنوبية الشعبية؟" والذي يشمل رداً على كتاب نائف حواتمة " أزمة الثورة في الجنوب اليمني "، ليعكس في مضمونه رؤية تصالحية توفيقية داخل قيادة الجبهة القومية. غير أن تلك الرؤية حقيقة، لم تدم طويلاً. فاللجنة شكلت لمهمة الكتابة في 24 أغسطس 1968م والطبعة الأولى من الكتاب صدرت في نيسان (إبريل) 1969م، وبعد شهرين حصل الحدث السياسي الصراعي/ الإقصائي، في قيادة الجبهة القومية والذي أطلق عليه "الحركة التصحيحية"، في 22 يونيو 1969م، وهو دليل على أن رؤية نائف حواتمة إزاء الاختلاف السياسي داخل رأس القيادة كان دقيقاً وسليماً إلى حد بعيد (توصيف لواقع حال). وطبعاً لا يعني ذلك صوابية ودقة وعلمية طروحاته ومفهومه الخاص للصراع " الأيديولوجي، والطبقي "، وحالة الفرز الواقعية الناضجة في هذا الاتجاه التفسيري الذي تبناه وأسقطه تعسفاً على واقع حالة الصراع في قيادة الجبهة القومية وفي قيادة الدولة والسياسة الاجتماعية والاقتصادية، إلى جانب قراءته النظرية المتعسفة لطبيعة الصراع الاجتماعي والطبقي، ومداخله للحل. وقد نجحت لجنة صياغة الكتاب في الرد على نائف حواتمة في قراءتها للواقع السياسي والاجتماعي، في تقديم عرض سياسي اجتماعي تاريخي تحليلي نقدي استوفى، من الناحية العلمية، شروط البحث العلمي بقدر استيفائه شروط الكتابة التصالحية التوفيقية بين طرفي الصراع. ولكن -مع الأسف- كان الفشل حليفها في عكس ذلك في واقع الممارسة، حيث كان الواقع الذاتي التصادمي غير التصالحي قد انتصر على الكتابة التوفيقية التصالحية كمدخل للتسامح. فبعد شهرين من كل ذلك كانت حركة 22يونيو 1969م بإزاحة قحطان الشعبي، وفيصل عبداللطيف الشعبي.
 
 وهنا يبدو أن خطأ القراءة النظرية الأيديولوجية الطبقية التي استند على قاعدتها نائف حواتمة، هي التي انتصرت في حل أزمة صراع السياسة والسلطة في قلب قيادة الجبهة القومية.
 

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً