صنعاء 19C امطار خفيفة

سوريا وجغرافيا الدم: حلب على حافة الجرح

عندما يتحدث العالم عن سوريا، يخرج الكلام من أفواه المتحدثين مشبعًا برائحة الرماد والبارود. في حلب، حيث تقف البيوت المدمرة شاهدة على تاريخها الطويل من الحصار، يتحول الهواء إلى خيط بين الحياة والموت. ليست سوريا مجرد حرب، إنها رواية دموية تكتبها أيادٍ متعددة، بعضها محلي وبعضها بعيد، وكلها تكتب بلغة المصالح. اليوم، تشهد حلب تصعيدًا عسكريًا يهدد بتحويل الأرض إلى فراغ، والفراغ إلى مأساة جديدة في حكاية يبدو أنها لا تنتهي.

إعادة ترتيب المشهد

بدأت الأحداث الأخيرة في حلب بتصعيد قصف حكومي عنيف على ريفها الغربي، وهو قصف لم يكن جديدًا على المكان، لكنه حمل في هذه المرة ملامح رسالة واضحة: المعركة مفتوحة من جديد. ردت المعارضة المسلحة، بقيادة "هيئة تحرير الشام"، بشن هجوم أطلقت عليه اسم "ردع العدوان"، في محاولة لاستعادة المواقع التي خسرتها سابقًا أو لتثبيت قوتها في مناطق جديدة. بين الهجوم والدفاع، قُتل أكثر من 140 شخصًا خلال أيام قليلة، بينهم مدنيون لا يملكون سوى الصمت وهم يسقطون ضحايا لقرارات لم يشاركوا في صناعتها.

في المشهد العسكري، تمكنت المعارضة من السيطرة على مواقع استراتيجية، بينها مطار عسكري، بينما ردت القوات الحكومية بقصف جوي عنيف طال أحياء داخل مدينة حلب للمرة الأولى منذ سنوات. المشهد هذا يعيد للأذهان ذكريات الحرب في 2016، حين تحولت المدينة إلى ساحة مواجهة كبرى بين مختلف الأطراف، وانتهت بسقوط شرق حلب بيد النظام.

لعبة الدول الكبرى

وراء هذا التصعيد الدموي، تتشابك خيوط السياسة الدولية، حيث تتحرك القوى الكبرى وكأنها تتنافس على رقعة شطرنج دموية، والسوريون ليسوا أكثر من قطع يتم التضحية بها في كل مرة.

روسيا: اللاعب الأكبر

روسيا، الحليف الأكبر للنظام السوري، لا تكتفي بدعم الجيش السوري بل تدير عملياته فعليًا من غرف العمليات المشتركة. الدعم الروسي يتجاوز الغطاء الجوي إلى تقديم أسلحة متطورة وتدريب مستمر للقوات السورية. بالنسبة لموسكو، سوريا ليست مجرد دولة، إنها مفتاح نفوذها في الشرق الأوسط، ومنصة تثبت بها نفسها في مواجهة الغرب. ومع تصاعد القتال، يبرز التدخل الروسي كعامل موازن في ميزان القوة، لكنه أيضًا يعمق الأزمة ويطيل أمدها.

تركيا: صانع الحسابات الدقيقة

على الجانب الآخر، تقف تركيا التي تجد نفسها متورطة في النزاع السوري على أكثر من جبهة. الدعم التركي لفصائل المعارضة المسلحة، سواء بالتمويل أو الإمدادات العسكرية، يمثل جزءًا من استراتيجيتها لتأمين حدودها الجنوبية ومنع تمدد القوى الكردية. لكن تركيا، التي تلعب دورًا مزدوجًا بين التصعيد والتهدئة، تدرك أنها في نهاية المطاف تتحرك في مساحة محدودة بحدود علاقاتها الدولية وتوازناتها مع روسيا والولايات المتحدة.

إيران: اليد الخفية

في الخلفية، تتحرك إيران كجزء أساسي من المشهد السوري. عبر ميليشياتها المدعومة، تقدم طهران دعمًا حيويًا للنظام، وهو دعم لم يكن فقط عسكريًا بل أيضًا استراتيجيًا، حيث تعتبر إيران سوريا ممرًا حيويًا لنفوذها الإقليمي. ومع تصاعد القتال، يبدو أن الدور الإيراني يزداد أهمية، لكنه في الوقت نفسه يواجه تحديات بسبب الضغوط الدولية والتوترات الإقليمية.

المجتمع الدولي: غياب الحسم

أما المجتمع الدولي، فهو يواصل ممارسة دور المراقب، حيث تبدو الأمم المتحدة وبعض الدول الأوروبية عاجزة عن تقديم أي حلول ملموسة. العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على سوريا لم تؤدِ إلا إلى تعميق الأزمة الإنسانية، بينما بقيت المبادرات الدبلوماسية حبرًا على ورق.

الوجه الإنساني للمأساة

بعيدًا عن صخب السياسة والقتال، هناك وجه إنساني لهذا النزاع. مع كل تصعيد، تُضاف أرقام جديدة إلى قوائم القتلى والنازحين. المناطق التي تتعرض للقصف تعاني نقصًا حادًا في الموارد الأساسية، من غذاء ودواء ووقود، ما يدفع السكان إلى النزوح مرة أخرى، وكأن اللجوء أصبح قدرًا لا يمكن الهروب منه.

لكن المأساة لا تتوقف عند الحدود السورية، إذ إن تأثير الصراع يمتد إلى الجوار، حيث يعيد تشكيل موازين القوى في المنطقة ويؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على نزاعات أخرى، مثل الحرب المستمرة في غزة.

هل تؤثر سوريا على غزة؟

السؤال الذي يطرحه كثيرون هو: هل لتصاعد القتال في سوريا تأثير على الحرب المستمرة في غزة؟ الإجابة ليست مباشرة، لكنها تحمل في طياتها أبعادًا متعددة:

1. تشتيت الاهتمام الدولي:

مع احتدام الصراع في سوريا، قد يتشتت اهتمام المجتمع الدولي بين النزاعين، ما يؤدي إلى تراجع الضغط السياسي لإنهاء الحرب في غزة.

2. الأدوار الإقليمية المتداخلة:

إيران، التي تدعم الفصائل المسلحة في غزة، تجد نفسها مضطرة لإعادة ترتيب أولوياتها، خاصة إذا زادت الضغوط عليها في سوريا.

3. إعادة توزيع الموارد:

الأطراف الداعمة للنزاعين، مثل تركيا وإيران، قد تضطر إلى توجيه مواردها بشكل أكبر نحو سوريا، مما قد يؤثر على مدى الدعم الذي يصل إلى غزة.

4. التغطية الإعلامية:

في عالم تتحكم فيه العناوين الرئيسية، قد يؤدي تصاعد الأحداث في سوريا إلى تراجع تغطية الحرب في غزة، ما يمنح إسرائيل مساحة أكبر لتكثيف عملياتها دون ضغوط إعلامية كبيرة.

خاتمة: أزمة بلا نهاية؟

سوريا اليوم ليست مجرد ساحة معركة، بل هي مرآة تعكس تناقضات العالم الحديث: عالم يمتلك الأدوات لحل النزاعات لكنه يختار تأجيجها. حلب، التي كانت يومًا قلب الحضارة، أصبحت رمزًا لجغرافيا الدم التي تتكرر في أماكن أخرى من العالم العربي.

وفي النهاية، يظل السؤال الأكبر بلا إجابة: هل يمكن أن ينتهي هذا النزاع يومًا؟ أم أن سوريا ستظل شاهدة على مأساة ممتدة، حيث تتحرك الدول الكبرى والصغرى لتحقيق مصالحها، بينما يُترك الشعب السوري ليتحمل العبء وحده؟

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً