كان "التحالف" بين المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في الحرب التي قادها البلدان في اليمن، تحت شعار "استعادة الدولة" أمرًا مفاجئًا، لأنها المرة الأولى التي تتحالف فيها دول عربية لمهاجمة بلد آخر، ووضعتا لها أهدافًا أعلنت الرياض إنجازها بعد أقل من شهر واحد من اندلاعها.
صحيح أن دولًا أخرى شاركت نظريًا في الحرب، لكن الواقع أن الرياض وأبوظبي كانتا المستثمرتين الحقيقيتين فيها مع مشاركة لا تُذكر من البحرين وعدد كبير من مرتزقة الجنجاويد جلبهم "التحالف" من السودان.
في المحصلة لم تفلح العاصمتان في إحراز أية نتيجة إيجابية كما وعدتا العالم.
مرة أخرى، قادت العاصمتان تحالفًا غير مسبوق في العالم العربي، فأعلنتا فرض حصار على دولة عربية جارة لهما، ووضعتا شروطًا لإنهائه أقل ما يقال فيها أنها ساذجة وتعجيزية. نجحت قطر في كسره، بل استفادت منه سياسيًا واقتصاديًا.
لاحقًا تبادلت العاصمتان عبر أدواتهما الاتهامات بـأن كلًا منهما ورط الأخرى في حرب اليمن، ثم حصار قطر.
فجأة في شهر يناير 2021، جرت المصالحة الشهيرة في العلا شمال السعودية، بين ولي العهد السعودي وأمير قطر، ولم يتم إخطار محمد بن زايد بها، إلا قبل ساعات من حدوثها.
تزايد الشرخ، وصار من الواضح أن المحمدين (بن سلمان وبن زايد) يفترقان في الاتجاهات التي يتخذانها. وبدأت الرياض في اتخاذ إجراءات كان المستهدف الوحيد منها اقتصاد دولة الإمارات. الشركات التي تريد العمل في السعودية أرغمت على نقل مكاتبها إلى الرياض. كل القنوات التلفزيونية السعودية التي كانت تتخذ من دبي مقار، جرى نقلها إلى الرياض. بلغ الأمر في شهر مارس 2020 حد مطالبة كل السعوديين المتواجدين في دبي بالعودة الفورية إلى بلادهم، في خطوة استثنائية بين بلدين يزعمان إعلاميًا أن مصيرهما مشترك.
قبل عام كشفت صحيفة "الوول ستريت جورنال" عن لقاء بين ولي العهد السعودي وعدد من كتابها. ملخص اللقاء يمكن اختصاره في جملة قالها ولي العهد: "لقد طعنني في الظهر"، يقصد محمد بن زايد. هذه الكلمات تفصح عن المدى الذي وصل إليه الخلاف الذي لا يبدو أن الطرفين حريصان على الخلاص منه.
السؤال: ما الذي يجعل من حاكمين يجلسان فوق اثنين من أضخم صناديق الاستثمار في العالم، يتصارعان، ويريد أحدهما للآخر الخسارة؟
لعل الجواب السهل هو أن الرجلين تتحكم في شخصيتهما -مع المبالغة في التشبيه- نزعة شيخ القبيلة الذي لا يقبل أن ينافسه أحد في زعامتها وحدود مراعيها. الأمر يختلط فيه الشخصي بالعام، والسياسة بالاقتصاد.
يرى محمد بن سلمان أن الرياض وحدها الجديرة بقيادة المنطقة والعالم العربي. هو يقعد على ثروة هائلة، ويحكم بدون منازع ولا مزاحم. بلاده هي قبلة المسلمين وبقعتهم الطاهرة. صارت مملكته مساحة مفتوحة لكل الفنون في العالم حتى تلك التي تنزع عنها صفة الوقار الذي كان سمتها منذ عهد المؤسس الملك عبدالعزيز.
في المقابل، يرى محمد بن زايد أن بلاده قد تجاوزت قيود التبعية القديمة للرياض سياسيًا، وأنها أقدر على التأثير في محيطها القريب والبعيد. بلاده دخلت في مغامرات بعيدًا عن حدودها، ومن الواضح أنها كانت مكلفة وغير ناجحة. لكنه صار لاعبًا مهمًا يستطيع الابتعاد عن الرياض وصداعها، وأن يقرر ما يراه في مصلحته ومصلحة بلاده.
الساحة المفتوحة التي يلعب فيها الطرفان مباشرة تقع خارج حدود بلديهما، هي اليمن، لأن اللاعبين المحليين غير مؤهلين للدفاع عن سيادته. بالنسبة للسعودية هو بلد يرتبط عضويًا بأمنها القومي، بينما الإمارات البعيدة جغرافيًا صار لها ذراع محلية مشاكسة أكثر تواجدًا من أذرع الرياض، ويقف حجر عثرة أمام كل مساعيها لتثبيت السلطة التي ينفق على كل مسؤوليها منذ 2015، ويشوش كل قراراتها.
الفارق الجوهري بين المحمدين هو سرعة اتخاذ القرار، وسهولة الوصول إلى المتحكم الحقيقي فيه. محمد بن سلمان مكبل بقيود فرضها على نفسه حين وضع كل خيوط القرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في يده وحده. محمد بن زايد أكثر تخففًا لأن بلاده قد انهت كل المشاريع الهيكلية والبنية التحتية، ولم يعد منشغلًا بها، ليتفرغ لإشباع طموحه في أن يصبح القوة الأهم في العالم العربي اقتصاديًا، وتاليًا سياسيًا، بعد أن فشل عسكريًا في كل بقعة حاول الوصول إليها.
"طعنني في الظهر" ستظل علامة فارقة في تاريخ العلاقة بين المحمدين، التي انتقلت من مشاهد العناق الحميمي والابتسامات ومزاعم التحالف بلا سقوف، إلى التحية الفاترة والجفاء العلني.