لا برد في مجلس الدكتور عبدالعزيز المقالح ولا ضجيج، وأظنه كان يعشق النوافذ العدنية.
وفي مجلسه القديم - الكائن في حارة بير العزب - كانت النوافذ عدنية أيضاً، ضمن تفضيلات حالة المفارج الصنعانية الدافئة في فصل الشتاء.
صورة من بقايا قرية يمنية عتيقة مثبتة على حائط مقيل المقالح بتنسيقاتها الأنيقة، وأخرى لبقايا مدينة قديمة من الطين، أظنها حضرمية.
وفي قلب المكان - كما هي في القلوب أكبر - ثبّت أصدقاء المقالح صورة كبيرة للحبيب والراحل الكبير الدكتور عبدالعزيز، رحمه الله.
الجمال الحقيقي لا يحتمل أي شيء من التكلّف، تماماً كما هي الطبيعة على حقيقتها: صافية وسهلة وفي متناول اليد.
روح المقالح حاضرة بكثافة على صدر، وفي زوايا، ووجدان مكانه الأثير: الباذخ بالشعر وبالأدب والسياسة والفنون، وبالأصدقاء أيضاً.
أحد هؤلاء الكبار الأوفياء للمكان بكل ما تعنيه الكلمة من معانٍ: الدكتور عبدالكريم راصع.
من المهم أن يعرف المنشغلون بالثقافة والكتب ماذا تعني مثل هذه الشخصيات المدنية بكل اتساعها الثقافي والمعرفي على كل الأصعدة.
يتميز الدكتور عبدالكريم راصع، كوزير سابق وطبيب وأكاديمي، بعلاقاته المميزة مع الصحفيين والشعراء وكبار المناضلين، وبمتابعته الرصينة لحركة الثقافة والأدب وعلوم الاجتماع.
قال لي إن بداية صداقته مع الدكتور عبدالعزيز المقالح تأسست في القاهرة في النصف الثاني من السبعينات إبان فترة الدراسة، عندما كان المقالح يحضّر الدكتوراه بينما كان راصع لا يزال سنة أولى كلية الطب.
كان والده صديقاً للدكتور المقالح، وقد أخبره الدكتور أن صداقته بالوالد تمتد إلى منتصف خمسينات القرن الماضي، وأنه يعرفه (أي يعرف عبدالكريم راصع) وهو طفل يلعب بجوار والده في أحد لقاءاتهم بمدينة حرض قبل ثورة سبتمبر بثلاث سنين تقريباً.
الدكتور عبدالكريم راصع، إضافة إلى كونه أحد أشهر وزراء الصحة العامة والسكان في اليمن، كان أول من أسس قسم طب الأطفال وأول رئيس له في كلية الطب - جامعة صنعاء، التي لا يزال أحد أساتذتها المميزين.
عمل وزيراً للصحة العامة من 2005 إلى 2011، وكان أحد مسؤولي الصحة الذين دشنوا حملات لقاح "ضد شلل الأطفال"، وأوجدوا مؤسسات طبية ومراكز تعتني بصحة الأسرة وحديثي الولادة، وبالصحة الإنجابية تحديداً.
عرفته في مجلس النواب في سنوات التغطية اليومية لوقائع الجلسات، وكان أحد أرزن المسؤولين الحكوميين الذين يحضرون بتواضع ثم يناقشون ضمن مستوى رفيع من لغة وأسلوب وكياسة رجل الدولة.
والدكتور عبدالكريم راصع، من بين كل الوزراء الذين تعاقبوا على وزارة الصحة، كان الأطول بقاءً على رأس هذه الوزارة الهامة في البلاد.
عمل أستاذاً مشاركاً في كلية الطب وتعيّن رئيساً لجامعة عدن خلفاً للدكتور صالح باصرة، وعندما غادرها بعد ثلاث سنوات ترك وراءه سمعة طيبة ومآثر لا تُنسى.
في مقيل الراحل عبدالعزيز المقالح، ما أجمل هدوء ورصانة الدكتور راصع وهو يتنقل ضمن مساحات النقاش بين الأدب والشعر والفن، ويفتح بين لحظة وأخرى بكل سلاسة مقاطع شعرية بصوت الدكتور المقالح أو أغنية بصوت الفنان علي بن علي الأنسي: "وقف وودّع".