رحل عن دنيانا المهندس الجيولوجي والشاعر الشاب الباحث إبراهيم محمود إبراهيم الصغيري.
قبل أعوام أصدر الأستاذ إبراهيم ديوان شعر بعنوان «نيران الجنة». مفارقة التسمية مدهشة، وتنم عن ذكاء. فالجنة التي وُعِدَ بها المؤمنون مفردة، والنيران مأوى الكافرين كاثرة. فالمفردة «الجنة» تضاف إليها النيران الكاثرة. ولكأن النيران المضافة للجنة معنى من معانيها.
وفي التسمية بهذه المفارقة بين المضاف والمضاف إليه، إعطاء صورة للحالة القائمة، والمشاهد المعاشة لحالتنا في نيران الواقع البائس في «جنة اليمن»، والوطن العربي.
والمفارقة -رغم غرائبيتها- واقعية وفاجعة كيمنيين وعرب وحتى مسلمين؛ فنحن نعيش «نيران الجنة»، وتفاصيل تفاصيلها، وربما بصور أقسى من توصيف سيد قطب في كتابه «مشاهد القيامة في القرآن».
لمفردة «الجنة» حضور في حضارة اليمن وتاريخها كـ: «أرض الجنتين»، و«جنتان عن يمين وشمال». ثم إن لفظ الجنة الموءودة في اليمن، والموعودة في الآخرة، تحولت في حاضرنا إلى «نيران الجنة». فالرمز الديني واللغوي والمعرفي لكل ما هو مبهج وسعادة، تحول إلى نيران كثيرة نصلى نيرانها المحرقة، ونستنشق دخانها الخانق؛ نيران ودخان هذه الحرب الممتدة لعشرات السنين، والتي لم تهمد بعد.
في مقدمته الباذخة يمزج الشاعر بين دمشق الفيحاء وبين اليمن، في زواج كاثوليكي وسرمدي، وبين زواج أبيه المهندس والشاعر المتعدد المواهب إبراهيم الصغيري، بأمه الدكتورة نوال النحلاوي.
يمزج المهندس الفقيد إبراهيم بين العام والخاص؛ فيتذكر الطفل في الرابع ابتدائي يوم ألقى في مدرسته بدمشق النشيد الوطني السوري، متفوقًا على عشرين طالبًا سوريًّا في صفه.
كان الإلقاء بعربية فصيحة، مع دقة وسلامة تعبير، وإتقان لمخارج الحروف، وأناقة في الإنشاد.
صفقت أستاذته مبهورةً ومتسائلةً عن مكانه في خارطة سوريا؛ فيرد بابتسامة عريضة: أبي يمني، وأمي سورية.
الطالب النابه الحاد الذكاء والموهوب، يواصل العزف في مقدمة ديوانه «نيران الجنة»، على سيمفونية قِدَم دمشق، وكفاحها ضد الصليبيين، وعلاقة أبي خليل المهندس محمود إبراهيم الصغيري، بأمه.
يتساءل كمهندس جيولوجي: هل بعثر البحر الصخور المحدقة بدمشق «جبل قاسيون» (حارس المدينة)؟!
الجنة الموءودة في اليمن جذورها عميقة في دمشق وبلاد الشام، غناها أمير الشعراء:
آمنتُ بالله واستثنيتُ جنتهُ * دمشق روحٌ وجناتٌ وريحانُ
وهي الخلد عند بشارة الخوري:
بردى هل الخلد الذي وعدوا به * إلاكِ بين شوادنٍ وشوادي؟!
فدمشق؛ قابلة الشاعر، هي الجنة الموعودة عند حسان بن ثابت ومن قبله ومن بعده؛ وغناها العشرات من كبار الشعراء: البحتري، والمتنبي، وديك الجن، والجواهري، والبياتي، وسليمان العيسى، ودرويش، والبردوني، ونزار قباني، وبشارة الخوري، والشاعر القروي، وسعيد عقل الذي تعبد بها.
فدمشق الجنة التي وعد بها الربيع العربي، تحولت إلى نيران جهنم حقيقية؛ إلى نيران ما أتت على شيء إلا جعلته كالرميم.
يقرأ عظمة يوسف العظمة الذي استشهد في المواجهة مع الفرنسيين، ويمر على قرار مجلس الأمن بشأن مقتل رفيق الحريري.
المقدمة سردية وفاء تمزج بين مولده، وارتباط أبيه بالجنة (دمشق)، وزواجه من الدكتورة نوال النحلاوي؛ معترفًا بـ«اقتراف جريمتين»: عِشق دمشق، وقحطانيته اليمنية.
تاريخ حياة الأستاذ الأديب الشاعر والمهندس الجيولوجي المدرس في قسم علوم الأرض كلية البترول والموارد الطبيعية -جامعة صنعاء، قصير؛ لكنه زاخر بالعطاء، مُزهِر بالتفوق والنبوغ والذكاء المدهش.
القراءة في سيرة هذا النابغة من العقول اليمنية والعربية، وفي شهادات تفوقه في مراحل الدراسة المختلفة، وتعدد مواهبه كأديب وشاعر ملهم وعالم جيولوجي يتميز بالذكاء الحاد، والمعرفة العميقة، والتهذيب الجم، يُشعرنا بالحزن والأسى.
كان لي شرف حضور مناقشة رسالته «تقييم هيدروجيوكيميائية وجودة مياه الآبار في منطقتي البيضاء ووادي القطيع محافظة الحديدة -اليمن»، وكان الطالب المجد والمجتهد يُناقش؛ فيرد على أسئلة وملاحظات أساتذته بثقة وعمق معرفة واطلاع.
ما كان يدهشني في الفقيد الأديب الشاعر والمثقف المسكون بالصمت، هو أدبه الجم، وتواضعه الشديد، وعدم حب التباهي والظهور، مع التحلي بالبساطة والخجل.
اخترام المنية عمر هذا الشاب النابغة في سن التوهج والعطاء، مصدر فجيعة وحزن لليمن؛ فلروحه السلام! ولإنجازه الخلود! ولأسرته الكريمة ومحبيه الصبر والسلوان.