المدينة التي كانت تنبض بالحياة، لم يبقَ سوى صمت الأسمنت المتهالك. كانت الشوارع تفيض بالخطوات، وكان الهواء يحمل أصوات الباعة وهم ينادون على البضائع، لكن الآن، كل شيءٍ تحوّل إلى رماد. المدينةُ صارت مثل ذاكرة مشقوقة، تُحاول عبثًا أن تجمع بقاياها المتناثرة تحت الركام.
في هذا الركام، تختبئ قصص البيوت التي شاخت دون أن تشيخ. الجدران كانت تعرف أسرارنا؛ كانت تحفظ ضحكاتنا وهمساتنا، وصوت المذياع الذي يشدو في الصباح. الآن الجدران صامتة، تراقب السماء الرمادية التي لا تعد بأي شيءٍ سوى المزيد من الركام.
هل المدينة تنسى؟ أم نحن من نحاول نسيانها؟ كأن الألوان قد خُلِعَت من المكان، وكأن الذاكرة نفسها تتهالك مثل الأسمنت المتشقق. المدينة لا تموت، لكنّها تتحوّل إلى ظلٍّ لما كانت عليه، إلى مكانٍ تتشظّى فيه الذكريات مثل الزجاج المكسور.
كنت أبحث بين الأنقاض عن وجهٍ أعرفه، عن بابٍ أعرفه، عن حجرٍ ألتقطه وأقول: "هنا كنا". لكني لم أجد سوى الفراغ. المدينة التي كانت تكتب حياتنا، صارت الآن كتابًا مفتوحًا بلا حروف، مجرد صفحات بيضاء تتطاير في الريح.
في الزاوية التي كانت يومًا ما حديقة، تطاير التراب مثل جناحين لطائرٍ يبحث عن سماء. والسماء؟ كانت منخفضة، أقرب مما يجب، ثقيلة كأنها تحمل عبء الغياب. هل الغياب هو الموت؟ أم أننا أحياء في ذاكرة الأرض، فقط لأننا نكتب عنها؟
"كان هنا بيت"، أقول لنفسي، لكنني لا أصدق الكلمات. لأنّ البيوت التي كانت هنا، لم تكن مجرد حجارة، كانت قصائد من طين، منحوتة بأيدينا وأصواتنا وأحلامنا. كنا نكتب المدينة بوجودنا، والآن صار وجودنا مرهونًا بحفنة تراب.
وكأن المدينة تقول: لا تموتوا معي. اكتبوني من جديد، اكتبوا الحياة من تحت الركام.