صنعاء 19C امطار خفيفة

في رحيل أحمد!

2024-08-09
أحمد فوزي غالب- النداء

شعبية يوم الجمعة هي الأسوأ بين بقية أيام الأسبوع، يوم رتيب وممل ودمه ثقيل، أما في طفولتي كان يوم اللقاء العائلي، اليوم الذي نلقى فيه العم فوزي.

عمو الشقيق الأكبر لوالدي، شخص مثقف وذكي الحوار سريع البديهة وظريف الرفقة.
 
يعامل عمو كل واحدة من بنات إخوته كأنها أهم وأرق زهرة بالبيت، وأنا بالطبع إحداهن، أشاركه مقعد سائق السيارة، ومسرحيات صباح العيد، ومطايب المرق قبل الغداء، وأجاوره دائمًا على المائدة، فرغم حبه الشديد للطعام، إلا أنه لا يلتفت إلى الأطباق قبل أن يطمئن عينيه بوجودي، ويؤكد لي في كل مرة أنني الأحب والأجمل والأقرب إلى قلبه.
 
وفي كنف الذين أحبوني بإخلاص، عشت طفولتي كالحلم، أحببت الحياة، وهمت بها، وصدقت أن القمر يتبعني، ونجوم الليل في عيني.
 
أحببت الحياة، وعشتها كأنني الوحيدة فيها، وهذا ورطني في العديد من المآزق والمشاجرات مع الصغار، والتقريع من الكبار، ثم أعود يوم الجمعة مرة أخرى، ليؤكد لي عمي أن أخطائي كلها صائبة، فأغرقه قبلات ومحبة -والتي كانت ممولة طبعًا- وآخذ مقابلها كل ما طالته يداي من جيب الكوت.
 
وفي إحدى المرات حصلت على الإشارة التي انتظرتها، وهرولت إلى الشماعة التي اختفت بين جاكيتات والدي وعمي وأبناء عمومتي والآخرين.
ولأننا أسرة متنمرة تعشق التحذلق والمزاح الثقيل، رفض أن يخبرني أيها ملكه، ثم راهنني بكل ما يملك في جيبه إذا وجدته!
ظن عمو أنني سأنتحب وأستسلم، لكن قلبي رأسمالي وغد يعشق الماديات، ضخ الدم بحماس نحو دماغي، ودون نقاش أو استفسار دنوت بأنفي أشتم رائحة عطره، وأخرجته كالشعرة من العجين.
 
عشت حياة الأثرياء البرجوازيين في تلك الأيام، وفشرت كثيرًا فوق أطفال الحارة بأكياس البطاطيس والألعاب، أما عن فشر عمو بي فحدث ولا حرج، وكلما دخل أحدهم قص عليه الموقف مرة أخرى، حتى تأكد أن جميعهم يحفظونه عن ظهر غيب.
 
كان فخورًا بموقف بسيط، كأنني صنعت صاروخًا في ناسا!
أما اليوم، حين كبرت، صرت أعرف كيف أن الحب عدسة تكبر كل المشاعر بحياتنا.
قبل أسبوعين فُجعنا بحادث في الستين، سيارة مسرعة اصطدمت بابن عمي أحمد فوزي غالب.
الحادث الذي أدخله في غيبوبة مباشرة، فارق الحياة على إثرها.
 
غادر أحمد مبكرًا، دون وداع، وحين خرج لشراء وجبة الغداء لأسرته، لم تمهله عجلات السيارة الفرصة لوجبة أخيرة، في لحظة كان هنا، ثم في اللحظة الأخرى كان قد رحل.
تؤلمنا الفاجعة على أحمد، وتعتصر قلوبنا على طفليه، ووالدته، وبقية الأسرة، لكنها تفطر فؤادي على عمي.
 
قد لا أحب الأحزان، لكنني أمقتها بشدة حين تطال من أحبهم، وأي مواساة للذين نحبهم بالذين يحبونهم؟
وكيف لتمتمات السلوان أن تبدد خواء الفقد؟
ولماذا نطبطب بالأيادي على أكتافهم لنزيدهم ثقلًا فوق ثقلهم؟
خالص العزاء في وفاة أحمد رحمه الله؛ لا يسعنا إلا الدعاء والتجلد في حضرة الموت. إن الاحتجاج مرفوض، والعويل ممنوع، والأسى لا ينفع بشيء، لكنه عمو، شقيق والدي وحبيبي ومنارة طفولتي.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً