صنعاء 19C امطار خفيفة

بضع فوائد من رحلة فائد

2024-08-06
بضع فوائد من رحلة فائد
قرية قشيبة- الصورة من إرشيف الكاتب

عاد الولد فائد (14 عامًا)، قبل شهرٍ، من رحلةٍ إلى محافظة تعز، استمرت أربعة أشهر، ظل خلالها متنقلًا بين مدينة تعز، ومنطقة "بني بكاري" بمديرية "جبل حبشي"، قبل أن يقضي أيام عيد الأضحى، في قريتنا "قشيبة" بالمديرية ذاتها.

 
عاد محملًا بكميةٍ هائلةٍ من المشاعر المختلطة والذكريات المختلفة، وبتجربةٍ ثريةٍ بالمواقف والانطباعات؛ تجربة ستترك لديه أثرًا وجدانيًا يستحق الخلود، وستخلق عنده شجونًا جديرةً بالتذكّر. على أن معاناته في السفر المضني عبر طرقاتٍ وعرةٍ وطويلةٍ، ستظل عالقةً في ذاكرته، وشاهدةً على واقعٍ شديد القسوة يعيشه اليمنيون في مختلف المحافظات التي تشهد حالةً مزريةً من الصعوبات والمعوقات المتصلة بمختلف مجالات حياتهم، والمؤثرة على مجمل يومياتهم. ولئن عانى من إرهاق السفر، وقاسى مشقة التنقل، إلا أنه نال بعض الفوائد التي كانت، بالنسبة له ولغيره، حلمًا بعيد المنال، لولا أن سنحت له فرصةٌ تلاقت مع رغبةٍ، وبذلك تحقق الحلم، وتم له نواله.
هذا الصبي الذي ولد ونشأ في العاصمة صنعاء، عايش بعض تناقضات الريف والمدينة، وتعايش مع اختلافاتهما الطبيعية، وتكيّف مع الفروق الظاهرة بينهما، واستكشف تفاصيلهما الدقيقة، وتعرّف على سماتهما، واختبر خصائص العيش ونمط الحياة في كلٍّ منهما. وبين الريف والمدينة العديد من الفوارق، إن لجهة اختلاف التضاريس والتكوين الطبيعي، أو لناحية الحياة الاجتماعية وما يتوافر لها من خدماتٍ واحتياجاتٍ متفاوتةٍ، لعل الكثير من السكان يشكون من غياب أو ندرة أغلبها، ورداءة المتوفر منها. إلى جانب الحالة الوجدانية التي تتخلّق لديه هنا، وتشكل نفسيته هناك، وتحمله في ترحاله وتنقلاته هنا وهناك.
 
لقد ارتبط بالمناطق التي أقام فيها، وبالأشخاص الذين ساكَنهم أو رافقهم، والذين كوَّن معهم علاقة صداقة سطر في صفحاتها مواقفَ وأحداثًا ويومياتٍ حميميةً، ونسج روابطَ وتواصلًا وتعارفًا مع أشخاص بمختلف الأعمار. وتضمنت محصلة رحلته الممتعة والمرهقة في آنٍ، أن أعاد تركيب وترتيب وشائجَ عائليةٍ، وجسر مفازات بُعدٍ من صُنع ظروف الحرب والصراع السياسي الدائرين في البلاد منذ عقدٍ من الزمن.
 
تعرَّف فائد، على قريتنا الريفية المعلقة على صدر الجبل، والمطلة على أفقٍ غربيٍّ شاسعٍ، وفيها التقى بعضًا من الأهل، غالبيتهم التقاهم لأول مرةٍ، بسبب عدم تمكننا من السفر إلى القرية منذ عشر سنواتٍ، نتيجةً للحرب التي لم تنتهِ أو تتوقف ويلاتها منذ تسع سنواتٍ، وإن شهدت بعض الهدن الهشة، والتي أسفرت عن تقطيع أوصال البلد بين الأطراف المتصارعة، وما نجم عن ذلك من انقطاع الطرق الرئيسية، ووعورة الطرقات البديلة، والمعاناة التي يكابدها المسافرون عبرها، والخسائر البشرية والمادية الفادحة التي تنتج عن الحوادث المرورية المتكررة فيها، علاوة على ارتفاع تكلفة السفر، وزيادة مشاق الوصول، ومخاطر التنقل بين المحافظات والمناطق، وخصوصًا تلك التي تمثل تماسًا فاصلًا وقاتلًا بين مناطق سيطرة ونفوذ تلك الأطراف.
 
حين غادر فائد القرية، انتزع نفسه انتزاعًا من شبكة العلائق التي نسجها بمشاعرَ فياضةٍ، وطرّزها بمحبةٍ جمةٍ، ليعود إلى صنعاء مغمورًا بشعورٍ جارفٍ يختلط فيه الشوق والحنين؛ شوقًا لأسرته الصغيرة، وحنينًا إلى مجتمعٍ أوسعَ يفتقد -ونحن مثله- الثقة في إعادة الاتصال به؛ بفعل الظروف التي تحكم تحركاتنا، وتتحكم بمصائرنا في هذا البلد الذي يتفتت بتصرفات ساسته، ويعيش أبناؤه شتاتًا في الداخل والخارج.
 
 وتمتزج في ذاك الشعور فرحة اللقاء بألم الفراق؛ لقاءً يحث الخطى لموافاته، وفراقًا يغالب عذابه، في مشهدٍ جعلني أستمع إليه جيدًا، وبتركيزٍ واهتمامٍ، وهو يتحدث عن تفاصيل رحلته التي تتبعناها معه خطوةً بخطوةٍ، لأكتب هذه الأسطر، كترجمةٍ أمينةٍ لمجريات الرحلة، وانطباعاته الواعية عنها، وتعبيرٍ حقيقيٍّ عن مشاهداته الذكية.
 
ليس مبالغةً القول بأنه خاض التجربة بهذا الشكل العاطفي، وبتلك الكيفية العميقة، فهذا الفتى النابه، سبق أن فاجأنا بتساؤلٍ غير متوقعٍ، وهو في عمر السنة وسبعة أشهر. كنا نتمشى في كورنيش الحديدة، وأشار إلى البحر، وسألنا: من سكب كل هذا الماء هنا؟!

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً