صنعاء 19C امطار خفيفة

إبليس الصغير

لا أدري لماذا لم تقتنع عمادة كلية الحقوق والاقتصاد بموت اللغة اللاتينية إلا في العام الدراسي التالي لالتحاق دفعتنا بهذه الكلية. كان ذلك حسن طالع لملكاتنا اللغوية "الطسيسة" على حد قول عميد دفعتنا الجميل حتى في موته.

 
كما لا أدري لماذا ظل أستاذ القانون الروماني في محاضراته وفي حلقات المناقشة (يكعفنا) القواعد القانونية -الحية والميتة- باللغة اللاتينية، مع أنه شارك في تشييع جنازتها.
- "بيس دات، كي استيودات" (من تسرّع في الدفع ألزم مرتين).
- "دو بيو برو ريرو" (الشك يؤول لصالح المتهم).
- "إن دور أليكس سيد دور إيكس" (يطبق القانون ولو كان ضد العدالة).
ولا أدري لماذا لم تتوافق لسان عميد دفعتنا مع اللغة اللاتينية، فأطلق على أستاذ القانون الروماني اسم "إبليس الصغير"، اعتقدت في البداية أنه تحوير للفظة "بيس دات"، وفي ما بعد عرفت أنه تحريف ذكي لاسم عالم الطبيعة الروماني "بلينس الصغير" الذي دفعه فضوله العلمي إلى الاقتراب من أحد البراكين المتفجرة ليتأمله عن كثب، فاختنق.
كان الأستاذ إبليس الصغير شيخًا وسيمًا وقصيرًا كالبيهقي، غريب الأطوار كسعيد مرشوش، يتمتع بروح الدعابة كثابت هواش، وكان معجبًا بالشاعر اللاتيني "أوفيدوس" الذي تغنى بالحب وبتطوير العالم، وكان يحب الإمبراطور الروماني "أنطونيوس الأمين" (ابن هادرياتيس بالتبني)، لأنه كان لقيطًا عادلًا يحترم الشرائع، لكني لا أدري أيضًا لماذا كان يكره مونيكا أم القديس أوغسطين الذي اتبع هواه في شبابه، واتبع مذهب ماني، ثم ارتد.
 

كما لا أدري كيف استطاع عميد دفعتنا صاحب شعار "الثالثة ثابتة"، أن ينجح من أول مرة في مادة القانون الروماني.. لكني أدري لم لم ينجح صائد العلامات النهائية في هذه المادة، إلا في المرة الثانية، مع أنه دخل الامتحان وهو واثق من الحصول على العلامة النهائية (5).

 
الامتحانات في جامعتنا شفوية ؛ يختار الطالب ورقة تحتوي على ثلاثة أسئلة، يرد عليها وعلى الأسئلة الإضافية التي قد يطرحها عليه مدرس المادة الممتحن، ليتأكد من إلمامه بالمادة موضوع الامتحان.
قال لي صائد العلامات النهائية:
- لسوء حظي وقعت بيدي يومئذ ورقة أسئلة تحمل الرقم (13)، لم أتشاءم من هذا الرقم بحكم تربيتي الشرقية؛ لكنني صعقت عندما وجدت الورقة -خلافًا للمألوف- تتضمن سؤالًا واحدًا تعجز حتى المراجع عن الرد عليه، وكان السؤال هو: ماذا تعرف عن العشرة الذين وضعوا شريعة اللوحات الاثنتى عشرة؟! أي سؤآل هذا؟! كأنك تسألني عن أعضاء اللجنة التي صاغت قانون الجرائم والعقوبات قبل أن أولد. فلو كان السؤال يتعلق بشريعة اللوحات ذاتها، لهان الأمر. كنت أعرف أنه لا يمكن تغيير الورقة، ومع ذلك طلبت من الدكتور إبليس الصغير أن يسمح لي باستبدالها بأخرى. هل تدري ماذا فعل؟ ألقى نظرة محايدة على السؤال، وخيرني بين أمرين؛ إما الرد عليه أو إعادة الامتحان.. لأول مرة في حياتي أصاب برهاب الامتحانات... ضحيت بالعلامة النهائية، واخترت الخيار الثاني.
في المرة الثانية كانت الأسئلة سهلة.. كانت تتعلق بالقانون الليقني بشأن الأراضي العامة.. جلست للرد عليها، ولدهشتي نحى الدكتور إبليس الصغير الورقة، وطلب مني أن أجيب على السؤال السابق المتعلق بالعشرة المشرعين الرومانيين.
- يا الله تخارجنا من هؤلاء العشرة البررة.. قلت ذلك بلغتي الأم، وأردفت بالروسية وأنا مبلل بالعرق بالرغم من انهمار الثلج في الخارج:
- لا أدري ما الذي تريده يا دكتور من هؤلاء الموتى الذين كتبوا في عام 450ق.م، شريعة هذه اللوحات، ثم ماتوا وشبعوا موتًا؟! هل تريد أن أذكر أسماءهم؟ وكنت لا أعرفها حقًا.. نظر إلي مليًا، وقال:
- ممتاز.. هذا يكفي، هل أدركت الآن لماذا أصبح القانون الروماني مجرد مادة تاريخية؟
لم أفهم.. اعتقدت أنه يمزح، وأن هذه مجرد دعابة من دعاباته، لكنه فاجأني بسؤال إضافي... تنفست الصعداء، وزال عني رهاب الامتحان.. فطرح السؤال الإضافي، يعني أن ردي على السؤال الأساسي كان موفقًا.. قال لي وهو يفتح دفتر علاماتي:
- سأعطيك العلامة النهائية إن ذكرت باللغة اللاتينية ثلاث قواعد قانونية ميتة، أي لم تعد تطبق في الواقع.. أجبت في الحال:
- لا إثبات لواقعة سلبية.
- بعد أن تتكلم النيابة لا أحد يتكلم.
- بعد صدور الحكم لا يصبح القاضي قاضيًا.
ثال معلقًا على القاعدة الثالثة:
- كان هذا صحيحًا في روما، لأن القاضي لم تكن له وظيفة القضاء، بل كان مواطنًا.. وسألني:
- ماذا تعني هذه القاعدة الآن؟ أجبت:
- تعني أن القاضي بعد أن يصدر حكمه يكون قد استنفد سلطته؛ ولا يملك أن يعدل فيه.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً