الأنظمة العربية كلها، سواء في الدول الملكية أو في الجمهوريات، تجمعها سمة مشتركة، هي التسلطية وافتقارها لأنظمة سياسية ديمقراطية حقيقية، ومصادرتها حقوق مواطنيها وحرياتهم، وفي مقدمها حرية الرأي والتعبير، لذلك تجد المواطن العربي يردد عبارة: "أنا ما ليش دخل بالسياسة"، ويضيف إليها المواطن المصري البسيط عبارة "يا عم عايزين نأكل عيش".
الحقيقة أن السياسة هي أهم قضايا الشأن العام، ومن حق المواطنين جميعًا مناقشتها، ومعرفة كيف تدير الحكومة السلطة، وطبيعة إدارتها للمال العام والوظيفة العامة، وكيفية اتخاذها للقرارات المتعلقة بحياة مواطنيها، وكيف تدير علاقتها بالدول الأخرى والمجتمع الدولي، فهذه القضايا تؤثر بشكل مباشر وغير مباشر على حقوق المواطنين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وبالتالي فالمواطن "اللي عايز يأكل عيش" عليه أن يكون مشاركًا في مجال السياسة، وفي مناقشة كل قضايا الشأن العام.
ترتب على ابتعاد المواطنين العرب، خواصهم وعوامهم، نخبهم وجماهيرهم، عن المجال السياسي وقضايا الشأن العام، تحويل اهتمامهم بالقضايا السياسية إلى الاهتمام بالقضايا الأخلاقية، وتحويل قضايا الشؤون الخاصة بالأفراد إلى شؤون عامة، من حق الجميع مناقشتها والخوض فيها، فعوضًا عن مناقشة قضايا السياسة العامة الداخلية كالتعليم، الرعاية الصحية، الخدمات الاجتماعية، القضاء، الأمن، إنفاذ القانون، الضرائب والحقوق والحريات العامة والخاصة، تجد المواطن العربي عمومًا وبعض النخب، وبخاصة النخب الدينية، يهتمون بالسلوك الخاص بالأفراد، وبخاصة النساء، فيناقشون الحجاب والسفور، الاختلاط، قصات شعر الشباب، إطلاق اللحى وحلق الشوارب وتشبه الرجال بالنساء والنساء بالرجال… إلخ، ويبرر رجال الدين تدخلهم في هذه القضايا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتعلق حصرًا بسلوك النساء والشباب، متجاهلين أشكالًا أهم من قضايا الأمر بالمعروف كالعدالة الاجتماعية، حقوق المواطنين وحرياتهم، المساواة، واجب الحكومة في توفير خدمات عامة ذات جودة عالية، بما فيها خدمات الأمن والعدالة… إلخ، ومتجاهلين النهي عن المنكرات الأهم، كالاستبداد السياسي، الفساد، المحسوبية، نهب المال العام، احتكار الوظيفة العامة، النزاعات المسلحة والحروب وغيرها.
يمكنني في هذا المجال الاستشهاد بمثال واحد من بلادي اليمن، ففي الوقت الذي صمت جل رجال الدين ومعظم الموظفين والمواطنين، خلال السنوات السبع الماضية، عن حق ما يقرب من مليون موظف من موظفي الخدمة المدنية، في مرتباتهم، التي أوقفت السلطات صرفها، احتشد هؤلاء الأسبوع الماضي في وسائل التواصل الاجتماعي وفي مؤسسات المجال العام، لمناقشة نشر عارضة الأزياء اليمنية خلود باشراحيل صورها وصور زوجها وهي مرتدية ثوب عرسها، وانقسموا بين مؤيد ومعارض لحقها في النشر.