أزمة الحكم والمعارضة
عبدالباري طاهر
يعيش الحكم والمعارضة مأزقاً حقيقياً، فالحكم المستنقع في قاع الفساد والاستبداد والمستند بالأساس إلى شرعية القوة والغلبة، بدأت شرعيته تتآكل وأعمدته تتهاوى. فقد خسر 6 حروب في صعدة، ولم يجد غير السلاح للإجابة على احتجاجات الجنوبيين المتحدين وحدة النهب والقهر والإلغاء، بالقدر الذي عجز عن الإجابة على أسئلة احتجاجات المدن المطالبة برحيله. فهو لم يعتد إلا على سماع التطبيل والتزمير والتغني بأمجاده: بمعجزاته ومنجزاته، ولم يرَ في هذه الاحتجاجات الغاضبة غير عدوى حمى الضنك، أو مؤامرة إسرائيلية أمريكية تعبث بأمة عربية بأكملها.
الحاكم الآتي من مضارب القبيلة ومن بيئة مغلقة إلى ثكنات الجيش، لم يتقن غير استخدام السلاح كوسيلة وحيدة للتغيير وفرض الشرعية، بل إن السلطة في مجملها آتية من حرب 94 التي ألغت مشاركة الجنوب، وأقصت حليفها في الحرب "التجمع اليمني للإصلاح"، ثم بدأت التضييق على محازبييها من دعاة الحوار والحلول السلمية، ومحاصرة الهامش الديمقراطي، ونكلت بالصحفيين والصحافة والأدباء والكتاب وأهل الرأي، وانحازت بالمطلق للغلبة والقهر.
لم تكن تتوقع السلطة الفاسدة والمستبدة أن بضعة طلاب يعتصمون أمام باب جامعتهم يقدرون إيقاظ المئات والآلاف ومئات الآلاف في اليمن كلها.
هناك روافد كبيرة جداً وكاثرة. فاختزال اليمن كلها في المؤتمر الشعبي العام رافد، واختزال اليمن في حزب وسلطة فاسدة ومستبدة رافد، واختزال الجيش والأمن في أسرة واحدة رافد، وتحويل صالح إلى معادل موضوعي لليمن والدولة، أو بالأحرى تحويل اليمن إلى صدى وظل باهت له، وتركيز كل سلطات الدولة في شخصه، رافد من أهم الروافد. تجهيل الشعب سواء بسن قوانين ومناهج دراسية متخلفة وسلفية تكفيرية، أو بالحفاظ على الأمية التي تتجاوز ال50? في الرجال وال70? في السناء، رافد أيضاً. التفريط في السيادة والاستقلال ونهب الثروات، وتدمير البيئة والفساد والاستبداد رافد للإرهاب، وروافد للتمردات العسكرية، ولسقوط هيبة الحكم والحكام ولدعوات فك الارتباط.. وكلها روافد للغضب الشعبي وصولاً إلى الاحتجاج السلمي، وتوحد ألوان الطيف السياسي والفكري والمجتمعي من حول شعار "إسقاط النظام ورحيل الحاكمين"!
لا يدرك الحكام أنهم بفضل ثورة المعلومات وتطور وسائل العلم أصبحوا تحت بصر العالم وشعوبهم، وأصبح الحديث والأفعال والأسرار كلها مكشوفة للناس. فلا يستطيع الحاكم أن يتحدث كبطل قومي ثم يسلم أوراقه كلها لأعداء شعبه، أو من يقول عنهم إنهم كذلك.
تفكير الحكام ووعيهم وسلوكهم وممارساتهم كلها لا تؤهلهم لتفهم منطق هؤلاء الشباب الآتين من روح العصر وقواميس المعرفة والحداثة. فالعلاقة بينهم وبين هؤلاء الشباب كالعلاقة بين الماضي والحاضر، بين العلم وبين المعرفة.
الاحتجاجات التي بدأت في الجنوب من الاحتجاج الجنوبي منذ ما بعد حرب 94، ثم الاحتجاجات التي قادها صحفيون ونقابيون وأصحاب رأي، والاحتجاجات في ميدان الحرية، ومظاهرات "الجعاشن" التي لعبت فيها توكل كرمان دوراً كبيراً.. كلها مهدت لانتفاضات الشباب في جامعة صنعاء وتعز وإب وعدن والمكلا والحديدة، وصولاً إلى صعدة ومأرب وعمران والبيضاء والضالع ومعظم مدن اليمن.
مأزق المعارضة السياسية أو بالأحرى بعض قياداتها أنها بعقليتها التقليدية لم تستوعب كما ينبغي عمق دلالة ومغزى الاحتجاجات الشعبية، فظلت تراوح بين المساومة السياسية وبين التلويح بالاحتجاج.
وحقاً، فأن اتفاق فبراير 2008 بين الحكم واللقاء المشترك، والمبادرات والحوارات المكرورة، وآخرها القبول بمبادرة الفقهاء المنحازين للسلطة مظهر من مظاهر أزمة المعارضة. قواعد المعارضة قد التحقت بالاحتجاج باكراً، بل إن بعضها هو من قاد الاحتجاج، بينما قيادات المعارضة ما تزال تراهن على تغيير سلوك النظام والسماح لها بالتشارك، وإجراء بعض الإصلاحات.
استمرار قيادة المعارضة في الرهان على المساومة السياسية هو كعب أخيل في الاحتجاج، فالمعارضة السياسية في اليمن قوية فاعلة وحية، وتستطيع لو حسمت أمورها حسم معركة الاحتجاج في زمن قيادي.
أما الحكم فرغم ضعفه الشديد وتآكل شرعية، وسقوط هيبته، فلا يزال رهانه على الحسم العسكري أو الصوملة والأفغنة والعرقنة، قائماً، ويعتقد أن الزمن لصالحه، فهو يرى أن الاحتجاجات "حمى الضنكـ" مجرد عدوى، أو هي مؤامرة من غرفة مظلمة في إسرائيل، وهو لغو وقراءة خرافية للغضب الشعبي الذي وصل ذروة المطالبة برحيل النظام، ورأسه أولاً.
لم تحسم المعارضة أمرها حتى الآن مع أن باستطاعتها الجمع بين المساومة والاحتجاج وبين الحرص على استقلال الاحتجاجات ودعمها ومساندتها، والمساومة لانتزاع مكاسب ترفد الاحتجاج ولا تحبطه أو تعيقه.
الرهان الصادق والحقيقي هو الاحتجاج المدني السلمي، فهذا الاحتجاج الذي يدوم وينمو ويتطور هو الأداة الوحيدة لإسقاط النظام ورحيله.
لا يستبعد أن يلجأ الحكم إلى خيار العسكرة، وإشعال الفتن والحروب هنا أو هناك، فلا يملك الحكم ما يقدمه لشعبه غير وسائل الموت وأساليب الدمار، فالسلطة قاتلة بامتياز، وليس لها معجزات أو منجزات غير الحروب والفتن والثارات ونهب المال العام وإفقار البلاد والعباد، وتفكيك الوطن وتدمير وحدته.
إعادة صياغة الوحدة اليمنية بصورة طوعية واختيارية يشارك فيها كل أبناء اليمن، وكل أبناء الطيف المجتمعي والحزبي والسياسي والثقافي، لا يكون إلا بإسقاط النظام، وهو ما استوعبه المحتجون المدنيون.
الملمح الأهم أن المجتمع الأهلي (القبيلة) وزعماء القبائل (المشائخ) وبالأخص المشائخ الكبار في حاشد أولاد الشيخ عبدالله الأحمر، وشيوخاً مهمين من بكيل، ومن مذحج وخولان: ناصر أحمد عباد الشريف، والشيخ خالد عبد ربه العواضي، ومن آل القردعي.. كلهم قد انخرطوا في الاحتجاج، متبنين مطالب الشعب، ورافضين خيار الحكم في البقاء في الحكم وتهديد الكيان اليمني.
أزمة الحكم والمعارضة
2011-03-07