صنعاء 19C امطار خفيفة

الإنتلجنسيا اليمنية: الوعي الإشكالي.. وانسداد الأفق!( 2 2)

2010-12-20
الإنتلجنسيا اليمنية: الوعي الإشكالي.. وانسداد الأفق!( 2 2)
الإنتلجنسيا اليمنية: الوعي الإشكالي.. وانسداد الأفق!( 2 2)
                         (ملاحظات على جدار الأزمة الراهنة)
هائل سلام
(إلى روح فيصل بن شملان... الإنسان، القيمة، والموقف. حقاً إن أعظم منجزات العمر، أن يخلد المرء عملاً ما، ينفع الناس. إليه في كنف بارئه الأعلى.. ذكرى عرفان ومحبة، من أحد الناس).
(الوحدة والحرب): التعالي بالسياسة.. وتسييس المتعالي:
من دولتين وشعب واحد، إلى دولة واحدة بشعبين –حسب البردوني– من "الوحدة اليمنية" إلى "اليمن الموحد". من "الاتحاد" إلى "التوحيد"، خطوة، لا شك مؤسفة، إلى الوراء وضد منطق الوحدة.
مثلث حرب صيف 1994، المشؤومة، انقلاباً على الوحدة وعلى المشروع الذي بشرت به. إذ نسفت الطابع التعاقدي للوحدة، وألغتها –عملياً– كفعل طوعي، اختياري، قبل به شريكا الوحدة، أو طرفاها، باعتبار كونها وسيلة لتحقيق غايات وأهداف نبيلة. تتمثل –أساساً– بإزالة انشطار الذات اليمنية، بـ"إعادة اللحمة" إلى الهوية الوطنية، بما يحفظ انسجامها، كمقدمة ضرورية لتحقيق آمال وطموحات وأحلام وتطلعات أفراد الشعب اليمني، في بناء دولة يمنية، عصرية، تقوم على أساسٍ من "المصلحة العامة"، والمساواة، والعدالة، وتكافؤ الفرص، بين، وأمام، جميع اليمنيين، وبما يكفل تفجير طاقات الشعب، بغية النهوض والتقدم. وهي ذات الغايات والأهداف التي ناضلت من أجلها أجيال من اليمنيين عبر القرون. وإذ جاءت "الوحدة"، فعلاً، عام 1990، بما حملته من مضامين، كثورة يمنية، ثالثة، مبشرة بولادة، جديدة، لـ"الشخصية الوطنية" المكتملة الهوية، والملامح، والقسمات، المتسقة مع ذاتها، تاريخاً، وجغرافيا، وانتماء، فقد جاءت، الحرب المشؤومة تلك، وحولتها إلى فعل توحيد قسري، حيث ألغت "الشريكـ"، الطرف الآخر، في التعاقد الوحدوي، وألغت معه كل مضامين المشروع التاريخي، الذي كانته (الوحدة)، وأجهضت، بحماقة رعناء، كل آمال، وتطلعات، وأحلام وأماني اليمنيين، التي مثلت "الوحدة"، شرطاً تاريخياً لتحقيقها. فمن شركاء أنداد بـ"الوحدة" إلى غالب ومغلوب بـ"التوحيد"، انهار الحلم وبدأ الكابوس.
إن الوحدة كالسلام. لا تبقى وتدوم، إلا إذا كانت وحدة أنداد –بحسب جمال حمدان- وبما هي فعل (اتحاد) رضائي بإرادات حرة، فإن الوحدة تتناسب، عكسياً، مع القوة ومنطق القوة. وإذا كان الغالب والمغلوب لا يصنعان سلاماً، فهما أيضاً، وللسبب نفسه، لا يصنعان وحدة. الوحدة، فعل (سياسي) وليس (عسكري)، يتناسب طردياً مع منطق "الاتحاد"، وعكسياً مع منطق "التوحيد". ولأن الحرب المشؤومة تلك، قد ألغت الشريك في "الاتحاد" الطوعي، الرضائي، وحولت "الوحدة" إلى "توحيد" قسري، قائم على القوة والغلبة، فقد تناسبت الوحدة (التي كانت)، عكسياً، مع منطق القوة، وجاء "الحراكـ". ما يعني أن الغالب –بمنطق الاتحاد وفلسفة الوحدة– مغلوب، ولو بعد حين.
الوحدة "قيمة" وليست "غنيمة"، ولأن قيمتها ليست في ذاتها، بل في ما تبتغيه من أهداف وغايات، أي باعتبار كونها "وسيلة" لتحقيق أهداف وغايات متوخاة من قبل طرفيها معاً (وفي الأساس، من قبل أبناء الشعب كافة)، فهي إذن، شأن "سياسي" يخص الناس (= الشعب الكان ممثلاً من قبل طرفيها السياسيين). وفعل التوحيد (العسكري) حول الوحدة من "قيمة" إلى "غنيمة"، وبمنطق الغنيمة، تحولت الوحدة من "وسيلة" إلى "غاية". وتقديس "الوسيلة"، بتحويلها إلى "غاية"، هو تقديس لمجموع المصالح المتمثلة بـ"الغنيمة"، والدفاع عنها (= عن الغاية) هو دفاع عن هذه الغنيمة، وليس دفاعاً عن قيم ومثل عليا. (العصبية الممسكة بزمام الأمور في البلد، والمتحكمة بمصائره، لا تتحرك إلا بتأثير مفعول القبيلة ذاته، الذي هو "الغنيمة" كمحدد أساسي، غالب في سلوكها السياسي، و"القبيلي" بحكم التنشئة والتكوين(6)، على استعداد دائم للموت من أجل الغنيمة والدفاع عنها والمحافظة عليها، لكنه، على الرغم من استعداده الحربي الدائم للموت دون الغنيمة، ليس على استعداد لخوض أية حرب دفاعاً عن قضية أو مبدأ من أي نوع، إذا لم تؤطرها القبيلة، وتحركها الغنيمة. [احتلال إريتريا لجزيرة حنيش، كمثال، إذ لم تحرك ساكناً، للدفاع عن مبادئ السيادة، والكرامة الوطنية، بل عكس المتوقع، تعاملت مع الأمر، ببرود، ولامبالاة، ولا اكتراث بزعم أن ذلك حكمة])!
ذلك، معناه، بطبيعة الحال، إقصاء الشريك/ الآخر، وإلغاؤه تماماً، ومد "رقعة" النفوذ، إلى المحافظات الجنوبية، والتعامل معها كجغرافيا فارغة، أي كأرض بلا شعب، كما قيل بحق. غير أن تقديس "الوسيلة"، بتحويل الوحدة إلى غاية، (= إلى غنيمة) دونما اعتبار لمصالح الناس (في المحافظات الجنوبية خصوصاً)، الذين هم أصحاب المصلحة في الوحدة (كمشروع سياسي مستهدف من قبل الطرف الجنوبي)، هو نوع من التعالي بالسياسة، على الناس، الذين يفترض أن توجه السياسة لمصلحتهم ولخدمتهم. وتسييس للمتعالي (= الله، جل في علاه) قولاً بأنه مع "الوحدة"، وبأنها محمية بإرادته... حدث ذلك، ابتداءً، من تسمية الحرب ذاتها بـ"حرب الردة والانفصالـ". وتسييس المقدس، المتعالي (= الله/ الدين) في السياسة، على هذا النحو، يسيء لـ"الدين" وللسياسة معاً. والتعالي بالسياسة هو استعلاء على الناس، يدفع بهم، إلى خارج السياسة، وإلى الكفر بها، وإلى الاضطرار إلى التعبير عن آرائهم ومواقفهم بوسائل غير سياسية (= غير مؤطرة سياسياً). ولكن، بما أنهم محقون، ويمشون (= مستمرون)، فسيجدون طريقهم، ولا شك، إلى السياسة. فالمشي يصنع الطريق، كما يقال. وإذا كانت الحرب قد جاءت، كانحراف عن الوحدة، ومنطق الاتحاد، فلا بد من إفشال أهدافها، وإلغاء آثارها، إذ كل انحراف إلى زوال، ولو طال به الزمان. يتعين فقط، على الإنتلجنسيا اليمنية، عموماً، وإنتلجنسيا المعارضة، خصوصاً، أن تختار، أن يتم ذلك في إطار "الوحدة" أو على حسابها؟! ذلك أن الوحدة كـ"تفاعل سياسي" خلاق، لا تدوم وتستمر، إلا إذا كان هذا التفاعل –بمصطلحات النحويين– كتفاعل المضاف والمضاف إليه، لا كتفاعل الفاعل والمفعول به. وشعار "الوحدة أو الموت" الذي رفعه، ويرفعه، الغالب/ المغلوب، شعار ميت، إذ هو يتوافق مع منطق حفاري قبور، ولا يمكن تصور صدوره عن وحدويين. فالوحدة، بما هي فعل اتحاد، عفوي، طوعي، يقوم على الحرية والاختيار، تنتمي إلى الحياة، وتعلي من قيمتها، وقيمها، وتتناسب عكسياً، كذلك، مع فكرة الموت، ومنطق حفاري القبور. وعلى الإنتلجنسيا عموماً والمتباكين على الوحدة من القائلين بما يصفوه بـ"الثوابت"، إن كانوا وحدويين حقاً، رفع شعار مضاد، في مواجهة شعار الموت هذا، شعار حياة، للناس وللوحدة معاً، كشعار "الوحدة أو الفوضى الحاكمة، (= النظام الحاكم)" مثلاً، اعتباراً بأن سياسات هذا النظام/ الفوضى، هي التهديد الحقيقي للوحدة، وبأن الوطن، والوحدة أهم منجزاته وقضاياه على الإطلاق، "ثابت"، والنظام الحاكم، وبالأحرى، "الفوضى الحاكمة" متغير، وأن الوطن باقٍ، والنظام/ الفوضى، إلى زوال. وكم كان لافتاً ذلك الشعار الذي رفعه البعض من المنتمين لما يسمى بالحراك، أو المحسوبين عليه، وفحواه "التغيير أو التشطير"، الذي، غفلت –أو تغافلت– إنتلجنسيانا، عن التقاطه، والتعامل معه بواقعية سياسية، وبحس وطني مسؤول، بجعله شعاراً وطنياً، شاملاً، جنوباً وشمالاً. إن عدم الإصغاء لأنين الناس، في المحافظات الجنوبية، وعدم التضامن معهم، بما يكفي، وكما ينبغي، على أبناء وطن واحد، وشعب واحد، في مواجهة سلطة "الاختلالـ"، قد دفع أولئك الناس، إلى كفر مطلق بالسياسة، والتعامل مع هذه السلطة بوصفها –مع شديد الأسف- كسلطة "احتلالـ"! ووقوع الإنتلجنسيا في "فكـ" الارتباك، تجاه "القضية الجنوبية" قد دفع أصحاب القضية إلى المطالبة بـ"فك الارتباط". ولا زالت، فصول "الكابوس" تتوالى.
وبالمثل، تعد حرب صعدة، المنسية، مثالاً آخر، للتعالي بالسياسة، إذ هي، بدوراتها الست، حرب مجهولة الدوافع، والأهداف، والنتائج. فمع كونها حرباً وطنية (وطنية كجنسية وليس كقيمة)، إلا أن الغموض لا زال يلفها، على كل المستويات، أسباباً، وتكاليف، وضحايا، وآثاراً. فالسلطة ذهبت إلى الحرب، وأدارت دوراتها الست، (مع عدم وجود ما يلغي المخاوف، من إعادة اندلاعها، في دورات، جديدة)، بسرية مطلقة، إذ اكتفت بإطلاق وصف "التمرد، والمتمريون" على ما أسمي بـ"الحوثيين"، مطلقة يد وسائل الإعلام الرسمية، في شن حملة إعلامية، شعواء، لتبخيس الطرف الآخر، وشيطنته، باستخدام مكثف للأحكام النمطية: سلالية، ظلامية، ملكية،... الخ، ولم تكلف نفسها عناء التداول بشأن تلك الحرب، حتى على صعيد مؤسسات الدولة ذاتها. هكذا، في (تمرد) سافر، على الشرعية الدستورية، التي تزعم الدفاع عنها وحمايتها، ممن تصفهم بـ"المتمردين". ذلك أنها لم تتعامل مع هذه القضية، وفق مقتضيات الشرعية الدستورية، بتوجيه الاتهام إلى قيادات معينة في جماعة الحوثي واستدعائهم للمثول أمام القضاء، في محاكمة تصان فيها حرية الدفاع، حسبما تقتضيه الشرعية الدستورية ذاتها، بل راحت إلى منطقة الأحداث، وكأنها مكلفة بتنفيذ أحكام بالإعدام، (ولم تعلن لائحة اتهام، إلا في الحرب السادسة، وعلى استحياء).. حاجبة، على ناس هذي البلاد، حقائق الواقع في الصراع الدائر، وكأنها غير مسؤولة أمام الشعب، عن إدارة الدولة وتصريف شؤونها. وتعامل الناس، والإنتلجنسيا في الطليعة، مع ذلك، وكأن الحرب تدور في أمريكا اللاتينية، وليس في محافظة من محافظات البلاد، وكأن الضحايا، من الجانبين، ليسوا من أبناء الشعب، وكأن الحرب لا تمول من ميزانية الدولة، على حساب التنمية والاقتصاد الوطني! وكأن "الحوثيين"، بصرف النظر عن الموقف منهم سياسياً، جماعة كوماندوز، هبطت إلى صعدة من السماء، أو جاءت من دولة أخرى، وليسوا بعضاً من أبناء الشعب، وجزءاً من نسيجه الاجتماعي! وكأن التهتك، والتمزق، والتشرد والموت، والخسائر، والآثار الخطيرة، وويلات الحرب كافة، لا تطال بلدنا، مجتمعاً ودولة!
أي أن الناس، وفي طليعتهم، الإنتلجنسيا، لم يقفوا في وجه تلك الحرب، والمطالبة بوقفها، والكشف عن معطياتها، أسباباً، ودوافع، وأهدافاً ونتائج، وآثاراً، بما يكفي، وكما ينبغي، على أبناء وطن واحد، تجاه بعضهم! بل ومن العجب، أن من يحلو لهم تشبيه الوطن، بـ"السفينة، الطائرة، والقطار"، لا يستحضرون مقولاتهم، هنا، باعتبار ما جرى، ويجري، في المحافظات الجنوبية، وصعدة، هو خرقاً للعقد الاجتماعي، وللشرعية الدستورية، أي –بحسب مقولاتهم– خرق في قاع (السفينة، الطائرة، والقطار)، وكأن مقولاتهم الزائفة تلك، لا يجب أن تستحضر إلا في مواجهة الأصوات المطالبة بالتغيير، حينما يكون "الحكم" على المحك، في موضع تساؤل، من قبل المقهورين. أما حينما يكون التهديد بخرق السفينة، وبهلاك الطائرة، والقطار، متأتياً من ربان السفينة وملاحيها، قائد الطائرة وطاقمها، سائق القطار ومعاونيه، فلا يجب أن تستحضر تلك المقولات، التي يتأتى زيفها –على أية حال- من كون أن "الوطن" ليس سفينة، ولا طائرة، ولا قطاراً، ولا يمكن اختزاله حتى إلى مطارات، وموانئ، وسكك حديد، ولا إلى صحارى وجبال وهضاب، وسهول وأودية، ومسطحات مائية،... إذ هو، مع كونه جغرافيا، تاريخاً، وانتماء، إلا أنه، فوق ذلك، وبعده، في مبتدئه وخبره، في مبناه ومعناه (علاقات) إن صلحت صلح، وإن فسدت فسد.
ومع "القضية الجنوبية" و"قضية صعدة"، نلاحظ أن ما درجت الإنتلجنسيا، منذ سنوات، على وصفه بـ"تسوية الملعبـ"، هو خطأ، فها قد أتاها، بهاتين القضيتين، ما يقتضي حقيقةً، تسوية الملعب...
ف"التفاوض" من أجل إصلاح النظام الانتخابي (= ما كانت تصفه بتسوية الملعب)، هو أمر آخر، لا يدخل ضمن تسوية الملعب، بل ضمن ما يمكن وصفه بـ"الاتفاق على قواعد اللعبة". فإذا كانت "اللعبة" هي الديمقراطية، وتحديداً الانتخابات، فإن "الملعبـ" هو كامل التراب الوطني، فيما أن كافة المسائل الداخلة ضمن النظام الانتخابي، هي "قواعد اللعبة". لنقل إذن، إنه إلى جانب الحاجة إلى "اتفاق على قواعد اللعبة"، -بحسب تفضيلات إنتلجنسيا المعارضة- لدينا الآن، ما يقتضي –ضرورةً– "تسوية الملعبـ"، أي ما يوجب حل القضية الجنوبية وقضية صعدة.
فأيهما يتوجب إنجازه أولاً؟!
للإجابة على هذا السؤال، علينا أن نلاحظ أولاً، أن عملية مراجعة وتقييم تجربة الانتخابات، (من قبل إنتلجنسيا المعارضة نفسها) بغية التوصل إلى معرفة ما إذا كانت، الانتخابات، تصلح، في ظل الوضع القائم، كوسيلة للتغيير أم لا، من شأنها أن تنهي السؤال من أساسه، إذا ما انتهت، تلك العملية، إلى نتيجة مفادها، تعذر أحداث التغيير المنشود، بواسطة الانتخابات، لأي سبب. إذ تصبح، في هذه الحالة، مسألة الاتفاق على قواعد اللعبة، مسألة مستبعدة من مجال التفكير، أو على الأقل، مؤجلة، إلى أجل غير مسمى. أما إذا جاءت النتيجة بالإيجاب، فعند ذاك، يتوجب، إعادة طرح السؤال، والبحث عن إجابة له، من زوايا مختلفة، في ضوء مفاعيل الأزمة، في الواقع، ومعطياته. ولكن، في جميع الأحوال، فإن جمع المسارين –أي الاتفاق على قواعد اللعبة، وتسوية الملعب– في عملية واحدة، أي بالتزامن، (كما هو حاصل، في ما يسمى بالحوار، مع الحاكم)، هو أمر متعذر، إذ تكتنفه صعوبات جمة، تهدد بالفشل، على المسارين، معاً، ترجع أساساً إلى مواقف أطراف الأزمة، النظام الحاكم، أساساً، من جهة، والحراك، والحوثيين، من جهة أخرى.
لذلك، وبالنظر إلى أن اتفاقي، فبراير 2009، ويوليو 2010، لا يشيران، لا صراحة، ولا ضمناً، إلى "القضية الجنوبية" و"قضية صعدة"، بوصفهما من قضايا "الحوار"، فإن النص الاتفاقي، على تشكيل لجنة للتهيئة والإعداد للحوار الوطني (الشامل)، في الاتفاق الأخير، ليس له من معنى، سوى تلغيم "الحوار الوطني الشاملـ" هذا، ونسفه، قبل أن يبدأ.
وإذا كان الاستخلاص القائل، بأن حل أزمات البلد يكمن في التغيير، هو استخلاصاً سائغاً وسديداً دون مراء، فإن على إنتلجنسيا المعارضة عموماً، وعلى رأسها قيادات أحزاب اللقاء المشترك، وقد أجابت في مشروع رؤيتها للإنقاذ، على السؤال: التغيير لماذا؟! أن تجيب، الآن، على السؤال الأهم: التغيير كيف؟! وهذا يعيدنا –من جديد– إلى التفكير بأساليب التغيير، على نحو أكثر جدية، هذه المرة، بعقول وإرادات، منفتحة، غير مهتابة ولا مرتابة، ودون دجل أو وجل. ذلك أن "الاتفاق على قواعد اللعبة مع الحاكم"، يصبح أمراً مستبعداً، أو ينبغي استبعاده حتماً، باعتبار أن حل هاتين القضيتين، وبتعبير مشروع رؤية الإنقاذ، "وقف الانهيار"، هو أولوية قصوى. ولتعذر ذلك، من خلال أي حوار أو تفاوض مع الحاكم، المنكر أصلاً للأزمة وأطرافها، فالمتعين، ضرورةً، التفكير بحل يكفل "وقف الانهيار"، والتغيير في آن، باعتبار أن وقف الانهيار، متعذر بالمطلق، دون تغيير. فكيف السبيل إلى التغيير ووقف الانهيار في آن؟!
(دجل المؤتمر.. وجل المشترك): أوهام الاستقرار.. أشواق التغيير:
من "الاختلاف" إلى "الائتلاف" خطوة مهمة، ولا شك، وسياسية بامتياز، مثل إنشاء تكتل "اللقاء المشتركـ"، نقلة نوعية، بحق، في العمل السياسي/ الحزبي في البلاد، بشر بميلاد تكتل سياسي قوي، أنعش الآمال بإعادة التوازن إلى المعادلة السياسية، وبإعادة الروح إلى "السياسة" كفعل (وطني) مسخر لمصلحة الناس، وبفتح نوافذ التغيير في أفقها. غير أن إبحاره الهادئ، في بحر الأزمات الذي تتخبط فيه البلاد، حالياً، هو مثار عجب وعتب حقاً!
العجب، متأتٍّ من كون أن المعروف (فلسفياً)، أن الكل أكبر من مجرد مجموع أجزائه، فيما يبدو أن "التكتلـ" لا زال، حتى الآن، يمثل مجرد مجموع أحزابه فحسب، بمعنى أنه، إذا كان، فيزيائياً، أن الكل هو مجموع أجزائه، باعتبار أن الأمر يتعلق بـ"المادة"، الجامدة أصلاً، فإن الأمر يختلف (فلسفياً)، باعتبار أن الأمر هنا يتعلق بالإنسان، من حيث هو مادة وروح (= مشاعر، عواطف، طاقات، قدرات، رؤى، أحلام، آمال...)، وبالتالي فإن "التكتلـ" ينبغي أن يتجاوز مجرد مجموع أجزائه/ أحزابه، ليصير أكبر، من خلال (الزخم) الذي يتعين أن يخلقه، التماسك الكتلوي، كمكون أساسي، وكقطب جاذب، يكبر باستمرار. فرغم (الزخم) الذي بدا عليه "اللقاء المشتركـ" خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة (2006)، الجدير فعلاً بالتنويه، إلا أن التكتل عاد، ليبدو أقل مما كان عليه حينذاك، إذ لم يزد زخمه، كما كان متوقعاً، بل ولم يحافظ عليه، حتى في حدود ما كان عليه آنئذٍ. أما العتب، فمتأتٍّ، من كون أن (كمون) الوهج، وانحسار الزخم، المأمول، لا يرجع إلى تحسن مطرد، في أوضاع البلد، كما لو أن الحاكم قد بادر إلى حل الأزمات، ولم يبقَ للتكتل، ما يقوله، ويفعله، كمعارضة رئيسية. بل إن الأوضاع في تدهور مستمر، والأزمات في تفاقم دائم، وعلى نحو ما أوضحته "رؤية الإنقاذ الوطني" ذاتها، ولا مزيد على ما بينته. ومن المفارقات، في هذا الشأن، أن "التكتلـ" نفسه، ساهم إلى حد كبير وحاسم، في تعرية السلطة، وفضح سياساتها المدمرة، إلى حد فقد معه الناس الأمل، نهائياً، بقيام السلطة بحل أزمات البلد، ويئسوا، تماماً، من أي إصلاحات، حقيقية، تقوم بها السلطة، التي أصبحت، هي نفسها –بتعبير إنتلجنسيا المعارضة ذاتها– "البؤرة الأكبر لإنتاج، وتفريخ واستفحال الأزمات". وبالتالي، فكلما تفاقمت الأزمات وتناذرت، استحضر الناس –وهنا المفارقة– "المشتركـ" وليس السلطة، ووضعوه موضع تساؤل. فاليأس المطلق من أية إمكانية للإصلاح، من قبل السلطة، جعل الناس يراهنون على المشترك، باعتباره معقد الأمل في التغيير المنشود، والخروج بالبلد من أزماته المستفحلة. وفي المقابل فإن "المؤتمر"، من حيث هو "حزب الحاكم" وليس "الحزب الحاكم" كما قيل، بحق، أي من حيث كون، تنظيماً هلامياً، موسمياً، ديكورياً، غير مؤسسي، ملحقاً بالحاكم، وتابعاً له، فلا طائل منه، سوى "مسرحة" السياسة، و"أسطرة" الزعيم، إذ هو –كتابع- يمارس السياسة كـ"مسرحية" هزلية، غير عابئ، ولا آبه، بما ينجم عن ذلك من آثار خطيرة على وضع البلد واستقراره. وباعتبار كونه كياناً (إيحائياً)، غير حقيقي، يتألف، ليس من مجموعة من (الأعضاء) الفاعلين، كما ينبغي لحزب، بل من مجموعة من (الممثلين)، بالمعنى الفني (= المسرحي) للكلمة، المكلفين للقيام بـ"أدوار" مسرحية محددة، دون أي خروج عن "النص"، فذلك يجعله –كحزب لا كأفراد– خارج "النص"، أي خارج الرهان على التغيير، تماماً.
واجب "المشتركـ"، إذن، ويبدو أنه قدره أيضاً، أن (يقود) الجماهير إلى التغيير، لا مناص، إذ ليس بوسع الإنسان أن يختار قدره، أي تنصل، تلكؤ، تردد، تخاذل، تقاصر... هو بمثابة "تحدٍّ" لأحكام القدر. يفترض بقيادات أحزاب اللقاء المشترك، أن تحزم أمرها لتعلن "التحدي السياسي" كطريق للتغيير والخلاص. وعليها أن تدرك أن مجرد التحذير من انهيار الدولة، وانزلاق البلد إلى الفوضى، وإلقاء المسؤولية في ذلك على الحكم القائم، لا يعفي إنتلجنسيا المعارضة، عموماً، وهي على رأسها، من تحمل مسؤوليتها الوطنية، في إنفاذ حلول الإنقاذ، وأن "مشروع رؤية للإنقاذ الوطني"، وإن كان قد مثل، فعلاً، رؤية تشخيصية سليمة، وجهداً علمياً مشكوراً، إلا أن ذلك لا يكفي، ولا يعفي، من تحمل المسؤولية الوطنية، عملياً، بتنفيذ حلول ومقترحات التغيير. ذلك أن فائدة العلم الوحيدة، هي –بحسب نيتشه– في كونه يسلحنا من أجل العمل. وباعتبار أن إيجابية التفكير، تلد، أو أن عليها أن تلد، إيجابية العمل. و"العودة" إلى جماهير الشعب تبدو، ممكنة فقط في إحدى حالتين: إما لاستنهاضها، وحشد طاقاتها، وتعبئة جهودها، وقيادتها إلى التغيير، وإما للاعتذار لها، إقراراً بالعجز، وإعلانها، بحل أحزابها، لتقرر، أي الجماهير، ما تراه، على اعتبار أنه "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها"، وما من إمكانية لتصور أية حالة أخرى، وفق منطق العقل، والسياسة، والأخلاق.
وإزاء حكم موغل في الخراب، تبدو التحذيرات القائلة بسقوط البلاد في حال رحيل الحاكم، أقوالاً مغرضة، إذ لا هدف لها، أو منها، بالنظر إلى ذلك، سوى المحافظة على بقاء الحاكم في الحكم، لأطول فترة ممكنة، بغير اكتراث بحال البلد نفسه. فأي مخاطر قد تنجم عن رحيل الحاكم (وأقول قد، لكونها مسألة احتمالية، على أية حال) ستكون نتيجة لسياسات الفساد والإفساد التي انتهجها الحاكم نفسه، كوسيلة لبقائه في الحكم، منذ عقود، وليس نتيجة مباشرة لرحيله. هذا مع أن المخاطر، المحذر بها تلك، هي أمور مؤكدة، في حال استمر الحاكم في الحكم، ونذرها ماثلة للعيان. ثم إن الحاكم راحل، راحل، إن لم يكن بفعل قوى التغيير، فبسبب، أخطائه، هو نفسه، وإلا فبفعل قانون الحياة القاسي، قانون الشيخوخة والموت. وبالتالي فإن ضمانة عدم انهيار الدولة، وانزلاق البلد إلى الفوضى والاضطراب، ليست في بقاء الحاكم في الحكم، بل هي في وجود قوى وازنة، حية، منظمة ومؤثرة. وأية قوى في الساحة، لن تكون كذلك، إلا إذا جابهت الحكم القائم، وتصدت لسياساته الإفسادية، وتحملت المسؤولية الوطنية المتمثلة بالتغيير، وإنقاذ البلد من الانهيار.
ولنعلم أن العلاقة بين المستبد والشعب، هي في نهاية المطاف، علاقة ملتبسة، (= مأزومة)، فلكون أن الاستبداد يأتي حسبما سلف البيان، كانحراف عن قيم ومعايير المجتمع، فضلاً عن عدم الكفاءة والجدارة والاستحقاق، فإن المستبد، وبتأثير "قلق المصير"، يعمد إلى أن يلبس الشعب ثوب المجنون، ويفخخ البلد، متمسكاً بخيار وحيد، (خيار شمشون)، ولا سواه. وبالتالي فإن علاقته بالشعب، مأزقية، حتماً، تتضمن، بالضرورة، صراعاً، لا بد أن ينفجر في لحظة ما، على شكل تحدٍّ أو عصيان أو تمرد، أو غضب... يقابله، قمع وتنكيل وإرهاب. وشعارات "الاستقرار" التي يرفعها الحاكم وحزبه، في مواجهة مطالب التغيير، هي محض أوهام، ذلك أن مفهوم الاستقرار لديهما هو البقاء في الحكم، ولا يهمهما وضع البلد نفسه، ما لم يمس بقاءهما فيه. ولكن دون اهتمام، ودون انتباه إلى أن تفاقم الأزمات، سيقضي على الحكم وعلى الاستقرار معاً. وقد يقال في مواجهة نضال المعارضة السلمي، المطلوب، إن الوطن فوق الجميع –وهذا صحيح– ولكن ذلك ليس إلا لكونه، بالذات، ملك الجميع. وقد قيل، بحق، "وطن لا نحميه لا نستحقه". وإذا كان الوطن بحاجة إلى الحماية على الدوام، فهو أحوج ما يكون إليها، الآن.
وصحيح أن النضال (من أجل) القيم، والمبادئ، والمثل السامية، هو أمر في غاية النبل، وأن النضال (ضد) أي أحد هو أمر مخيف، حقاً. ولكن الصحيح أيضاً، هو أن النضال (من أجل) لا ينفصل -في لحظة ما، مع الأسف– عن النضال (ضد) قوى، جماعات، أحزاب... (تناضل) هي الأخرى، ومن موقع أفضل، ضد تلك القيم والمثل والمبادئ. لهذا يبدو التغيير، أمراً بالغ الصعوبة والتعقيد، ولكن علينا، في هكذا أحوال، ألا نركن إلى حسابات "العقلـ" وحده، رغم أهميتها، إذ هناك وسائل أخرى للإدراك: الحدس، الغرائز، العواطف، الأحلام، التطلعات، ... فلا يوجد طريق، سالك، آمن ومضمون للتغيير 100%، بحسابات العقل وحده. العقل، يقلل، ولا شك، من نسبة المخاطر في أي عمل، ولكن دائماً ما يبقى هناك هامش للمخاطرة، بنسبة قد تقل أو تكثر، في أي عمل إنساني، كبير. فالمخاطرة تبرر الربح في علم الاقتصاد، على سبيل المثال، إذ يقال "الربح أجر المخاطرة"، بمعنى أن مشروعية الربح، تتأتى من كون أن التاجر، وهو أكثر الناس حرصاً وتحوطاً، واعتماداً على حسابات العقل، يخاطر في إنتاج أو توزيع سلعة ما، واستحقاقه للربح إنما يتأتى من كونه أجراً أو مكافأة لمخاطرته. وفي السياسة، وهي الاقتصاد المكثف –بحسب ماركس– فإن التغيير هو مكافأة عن المخاطرة، المتضمنة، في النضال، سعياً إليه. وحتى، دينياً، الجنة هي جزاء ومكافأة، للمؤمنين الذين آمنوا بربهم بـ"الغيبـ"، وليس للذين رأوها رأي العين. وكم من المناضلين (والمغامرين) في التاريخ، استطاعوا، بمحض التصميم، بلوغ أهداف كبرى. وفي المنعطفات الكبرى، وتحت سقف الأزمات، إما أن نسيطر على أذهاننا، أو تسيطر علينا، ف"تشاؤم العقلـ" لا يغالبه، حسب غرامشي، إلا "تفاؤل الإرادة".
وإذا استعرنا من ميلان كونديرا، فكرته عن "الحدث العرضي"، فسنقول إن الاستبداد بما هو انحراف عن القيم والمعايير، محل التوافق الجمعي، للمجتمع ككل، فهو يأتي، كحدث عرضي، ليس كنتيجة ضرورية لما قبله، ولا ينتج عنه أي أثر مفيد. ولهذا فهو يحدث خارج التسلسل السببي، الذي هو التاريخ، والمفترض أن يزول، كما تزول مصادفة عقيمة.
خاتمة/ فاتحة: "عقد اجتماعي" بأي معنى؟! "حوار" بأية شروط؟!
ورد في الكتاب الوثائقي، الصادر عن الأمانة العامة للجنة التحضيرية للحوار الوطني، ص9، ما نصه: "... اعتبرت الدعوة، بداية الحوار، ضرورة وطنية... وحددت الدعوة، نهاية الحوار، الخروج بعقد اجتماعي جديد، يعيد تنظيم العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس صحيحة، والعلاقة بين الحاكم والمحكوم على أسس الشراكة الكاملة لكل المواطنين في السلطة والثروة العامة"، وهذا يفسر، على ما يبدو، "الإصرار" على ما يسمى بـ"الحوار" مع الحاكم، الفعلي، القائم. غير أن هذا يعد خطأً مميتاً، سياسياً، إذ فضلاً عن أنه، ما من إمكانية للقول، بحوار أو تفاوض، بين الدولة والمجتمع، اعتباراً بأن "الدولة" شخصية اعتبارية، من أشخاص القانون الدولي العام، تشمل، وفق تعريف هذا القانون لها، الأرض، والشعب والحكومة، فإن القول بـ"عقد اجتماعي" "يعيد تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم..."، يمنح الحاكم صفة ثابتة، ليست له، ولا لأي أحد، أياً كان، ويتخالف، كلياً، مع أسس "نظرية العقد الاجتماعي"، المستقاة، في الأصل، من فلسفة القانون الطبيعي، كما صاغها فلاسفة العقد الاجتماعي، وعلى رأسهم جان جاك روسو.
ففكرة "العقد الاجتماعي"، وفق هذه النظرية، وهي فكرة مفترضة، أصلاً (= متخيلة) تقوم –باختصار شديد– على أساسٍ من الجمع، والتوفيق، بين أمرين متعارضين: الحرية المطلقة للإنسان، من جهة، والطبيعة الاجتماعية له، من جهة أخرى. فبما أن الإنسان يولد حراً، وفق فلسفة القانون الطبيعي، وهو كائن اجتماعي بالتعريف "لا يستطيع أن يحيا إلا في وسط اجتماعي"، كان لا بد أن يتنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم، لكيان أكبر، يعلو الجميع (= اللوفياتان، بحسب جون هوبس)، ينظم الحريات، والحقوق المتعارضة، ويكفل ممارستها في آن (= دولة المصلحة العامة). ومن هنا الطابع التعاقدي للدولة، بوصفها ناتجة عن عقد اجتماعي، بين مختلف أفراد، وفئات، وشرائح (اجتماع) بشري معين، اقتضته المصلحة العامة لهذا الاجتماع، ليحدد أسس الدولة، وينظم العلاقة في ما بين سلطاتها، وليبين طريقة اختيار الحاكم، ومدة ولايته، وصلاحياته، ... الخ. وبموجبه، فإن الحاكم هو نتاج للعقد الاجتماعي، وليس طرفاً فيه، فهو إنما يستمد صفته، وشرعيته كـ"حاكم"، من كونه جاء بالكيفية، وبالشروط، المنصوص عليها في العقد. ولهذا فإن العقد (= الدستور) أسمى من الحاكم بطبيعته، لكونه هو من أوجد الحاكم، لتحديده لطريقة اختياره، وهو من يمنحه الصفة، والشرعية، ويحدد له صلاحياته، وسلطاته، واختصاصاته... الخ. والحاكم وفقاً لذلك، يمارس السلطة بوصفه نائباً عن المجتمع/ الشعب، ولصالحه، ومن ثم يكون لهذا الأخير، الحق في مراقبته ومساءلته وعزله. وللتقريب، يمكن القول بأن الدولة (= دولة المصلحة العامة) تشبه، إلى حد كبير، "الشركة"، ف"العقد الاجتماعي" يشبه "عقد الشراكة"، والمجتمع/ الشعب يشبه "الجمعية العامة للشركة"، والحاكم/ الحكومة يشبه "مجلس الإدارة". وبما أنه لا يتصور وجود حوار أو تفاوض، بين الجمعية العامة للشركة (تحت التأسيس)، وبين مجلس الإدارة، بشأن عقد الشركة (= عقد الإنشاء/ التأسيس)، باعتبار أنه ما من وجود سابق، لمجلس الإدارة، على وجود العقد، وإنما هو، أي المجلس، ناتج عن العقد، ومنبثق عنه، فكذلك، لا يتصور قيام حوار أو تفاوض، بين المجتمع والحاكم، وفق نظرية العقد الاجتماعي، اعتباراً بأنه لا وجود لـ"حاكم" سابق على العقد الاجتماعي. والحديث عن هذا، أو ذاك، من الناس، بوصفه "حاكماً"، حسبما هو شائع بين الناس، إنما يتم باعتباره، أي الحاكم، حاكماً فعلياً (= كأمر واقع)، وليس باعتباره كذلك، وفق مفترضات نظرية العقد الاجتماعي، وتلك مسألة أخرى.
وفكرة "العقد الاجتماعي"، بهذا المعنى، توحي بـ"حلـ" ممكن، نظرياً وعملياً، حسبما يؤمل، على نحو يكفل منع ما وصفته رؤية الإنقاذ بـ"الانهيار" و"تسوية الملعبـ" و"الاتفاق على قواعد اللعبة" في آن. وذلك بحوار، حقيقي، بين قوى التغيير، وعلى رأسها، اللقاء المشترك، وكافة القوى والشرائح، والفئات، الاجتماعية، بما فيها قوى الحراك، والحوثيون، أساساً. ولكن ليس من أجل "تشخيص الأزمات"، والاقتناع بحلول الإنقاذ، بل من أجل الاتفاق على أمرين أساسيين: تحديد أسس "عقد اجتماعي"، بخطوط عريضة، ولكن جوهرية، وتكوين تحالف وطني عريض، وصياغة إستراتيجية وطنية للتغيير، كشرط إجرائي، ضروري، لوضع العقد الاجتماعي موضع التنفيذ (= صياغة الدستور، وفق الأسس المتفق عليها بين كافة قوى التغيير، والمكونات الاجتماعية الأخرى). وهذا قد يقتضي، بطبيعة الحال، الاتفاق مع قادة الحراك، في الداخل والخارج، على صيغة ما من صيغ الوحدة، وصحيح أن الوقت، ربما، يكون قد تأخر على ذلك، ولكن الصحيح كذلك، هو أن تأتي متأخراً، خيرٌ من أن تأتي في الساعة ال25 (= بعد انتهاء كل شيء، وفوات كل الفرص).
الأمر، عملياً (= في الواقع) ليس بالسهولة التي يبدو عليها، نظرياً (= على الورق)، هذا أكيد. ولكن الأكيد أيضاً، أنه ما من عمل عظيم إلا وتكتنفه الصعاب، وتحيط به المخاطر، وتتخلله التضحيات، (يفترض أن من شأن الإستراتيجية أن تقلل وتخفف ذلك، إلى أدنى حد ممكن).
وبشأن "الحوار"، فعلى الرغم من أنه لا يتصور حل الأزمات بالحوار، ولا حتى بالتفاوض، مع النظام الحاكم -ولا أي نظام حاكم- باعتبار أن القضايا، التي يفترض –هنا- أن تكون موضوعاً للحوار، وعلى الأصح، التفاوض، والمحددة في رؤية الإنقاذ، ليست مسائل مطلبية عادية، كالمطالب النقابية، برفع الأجور أو بحقوق معينة، بل هي تتعلق بقضايا تمس مباشرة النظام الحاكم نفسه، أي أنها قضايا لا يمكن التنازل عنها، من قبل طرف، ولا القبول بها، من قبل الطرف الآخر.
على الرغم من ذلك، إلا أنه يمكن للمرء أن يقبل بالتفاوض، كخيار للحل، ولو على مضض، جرياً مع أشد الناس تشاؤماً وتخوفاً وخشية، مما قد يسببه التغيير من مخاطر وخسائر وآثار، ومع أشدهم تفاؤلاً بإمكانية إقناع "الحاكم" بتقليص سيطرته، تدريجياً، وصولاً إلى إقناعه، بالقبول، كلياً، ببناء الديمقراطية (الحقيقية)، وبمعنى آخر، القبول بالتفاوض، كخيار للتسوية بين مطلبي؛ الاستقرار من جهة، والتغيير من جهة أخرى، ولكن ذلك، يوجب على أولئك الناس، أن يدركوا أولاً، أن أي "اتفاق" يمكن التوصل إليه، مع الحاكم، لن تتحدد بنوده، وفقاً لمبدأ "العدالة"، الذي يفترض وينبغي، أن يسود في التفاوض، ولا وفقاً لمبدأ صحة آراء ومواقف، هذا الطرف أو ذاك، بل ستتحدد، حتماً، وفقاً لـ"قوة" و"قدرة" هذا الطرف أو ذاك، من أطراف التفاوض. بمعنى أن التوصل إلى تسوية، عن طريق التفاوض، لا يتم على أساسٍ من تقييم صحة أو خطأ القضايا والمواقف، موضوع الحوار، ولا على أساس قلة أو كثرة مناقشتها، بل على أساسٍ من تقييم، حتمي، لقوة هذا الطرف أو ذاك، أي على أساس "ميزان القوى" السائد بين الأطراف، وثانياً أن عملية التفاوض ذاتها تمنح الحاكم شرعية كالتي توفرها له عملية المشاركة في الانتخابات. وعليهم، ثالثاً، قبل الدخول في أي تفاوض، أن يجيبوا على الأسئلة الآتية: ما هي القضايا أو المطالب، التي يمكن التنازل عنها، كشرط لإنجاح التسوية، وفق ما يقتضيه مبدأ التفاوض ذاته؟! وما هي قضايا ومطالب الحد الأدنى التي لا يمكن النزول عنها؟! وما الذي يضمن قبول الطرف الآخر بها؟! وما هو الحل، في حال عدم قبول الطرف الآخر بقضايا ومطالب الحد الأدنى تلك؟! وكيف يمكن تجنب عدم خلط، أطراف التفاوض، بين القضايا موضوع التفاوض، وعملية التفاوض ذاتها؟! وكيف ستكون أوضاع البلاد، بعد التسوية؟ هل ستكون الحياة أفضل، مما ستكون عليه، لو تم اللجوء إلى خيار النضال السلمي؟! وما الذي يضمن التزام الطرف الآخر، بالعمل وفق بنود التسوية التي يمكن التوصل إليها؟! وما العمل في حال لم يلتزم بذلك مستقبلاً؟! وما الذي يضمن التزام الطرف الآخر، بمبدأ التفاوض ذاته، وعدم الانقلاب عليه؟!...
الهوامش:
1: إنتلجنسيا، هي بحسب قاموس ويكيبيديا، كلمة روسية تم تداولها منذ دولة القياصرة ثم انتشر استخدامها في الثقافة البولندية لاحقاً، وبدأت تظهر بالإنجليزية في ق19، وتعني نخبة المثقفين، الذين يلعبون دوراً في تنمية ونشر الثقافة، ويكون وعيهم متقدماً، ويقوم على الشعور بالانتماء إلى تربة أوطانهم، وهم شعلة التغيير، ومن مختلف الخلفيات الأكاديمية، فقد يكونون فنانين، مدرسين، أطباء، مهندسين ومحامين... الخ. ويميل البعض إلى استخدام هذا المصطلح ليعني المثقفين السياسيين بصفة خاصة. (وتجدر الإشارة هنا، إلى أني استفدت كثيراً من قراءات سابقة لمؤلف الدكتور مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي، بحث في سيكولوجية الإنسان المقهور، مركز الإنماء العربي ط4، 1986، وأدين لهذا الكتاب المهم، بعدد من الأفكار التي وظفت –بتصرف– في مقدمة هذه الملاحظات).
2، 3، 4: من الكتاب الوثائقي، الصادر عن الأمانة العامة للجنة التحضيرية للحوار الوطني، المتضمن لمشروع "رؤية للإنقاذ الوطني".
5: لمزيد من التفاصيل عن القبيلة والغنيمة، راجع مقالنا "الغنيمة: القبيلة ونمط إنتاج اقتصاد الغزو"، المنشور في صحيفة "النداء"، العدد 20، تاريخ 3 أغسطس 2005.
6: بحكم التنشئة والتكوين، ليس في هذا أي قدح أو ذم، ولا أي موقف تحيزي مسبق تجاه القبيلة، إذ الإنسان، بوجه عام، هو ابن بيئته، وكل بنية اجتماعية تنتج عقلية تتصف بذات خصائص تلك البنية، تعمل على إعادة إنتاجها وتعزيزها.

إقرأ أيضاً