السياسة التركية الجديدة.. محاولة أولية للفهم (1-4)
* عبدالله سلام الحكيمي
اكتسبت الخطوات والمواقف الأخيرة للسياسة التركية الجديدة؛ المتجهة شرقا صوب العالم الإسلامي، وفي وسطه العالم العربي، زخما هائلا ومثيرا ليس على مستوى المواقف وردود الأفعال الرسمية فحسب، وإنما -وهذا هو الأهم والأبرز- على مستوى شعوب العالمين الإسلامي والغربي، التي قابلت وتفاعلت مع تلك الخطوات والمواقف على نحو حماسي منقطع النظير، رفعت فيه أعلام تركيا وصور قادتها في المسيرات والمظاهرات والمهرجانات التي شهدتها الدول العربية وغيرها من دول العالم الإسلامي، بل وفي مجتمعات غربية، وانطلقت الخطب والتصريحات من كل جهة مرحبة ومبتهجة ومساندة، في جو عام شكل التفافا وتلاحما شعبيا واسعا حول تركيا وحتى قيادتها السياسية، وخاصة الشعوب العربية المقهورة المقموعة التي استعادت من ذاكرتها الجمعية المتراكمة أمجاد وعظمة الدولة والإمبراطورية العثمانية، وكان العرب جزءا من كيانها الكبير، وتجاوزت حالة الإحباط واليأس والقنوط السياسي الناتج عن عجز وسلبية أنظمة حكمها تجاه القضايا القومية المصيرية، وخاصة قضية فلسطين، وعن أساليب القمع والاضطهاد والتغييب الممارس ضدها من قبل أنظمتها، وعزلها عن المشاركة والتفاعل والنشاط حول قضاياها وهمومها وتطلعاتها الخ..
ولقد أحست تلك الشعوب، وللوهلة الأولى مباشرة، إحساسا عميقا وكأن تركيا، بخطوات ومواقف سياستها الجديدة الحيوية والفعالة، تمثل طوق نجاة ومخلصا لها من وهدة السلبية والتغييب واليأس، بل وبارقة أمل لمعت في أفقها المظلم بإمكانية استعادة عزها ومجدها الغابر واستعادة شرفها وكرامتها المهدورة بتركيا ومن خلالها ومعها، بل وحتى تحت لوائها وقيادتها!
كان المشهد متأججا بالاندفاع والحماس والإثارة، ومشوبا بعاطفة دينية مستمدة من سجل الدولة العثمانية وتاريخها ودورها في العالم الإسلامي، والعربي في مقدمته. ولم ينحصر هذا الشعور في مستوى العامة من الجماهير فحسب، بل تعداه ليشمل قيادات ورموزاً سياسية وحزبية ومثقفة من النخب المتميزة. وكان اقتحام السياسة التركية الجديدة لقلوب وعقول الشعوب العربية وغيرها من شعوب العالم الإسلامي، اقتحاما جازما حين اتخذ رئيس الحكومة التركي ذلك الموقف الشجاع والجريء والصادق في مواجهة العنجهية والصلف والعدوان الإسرائيلي الظالم والبشع ضد الشعب الفلسطيني المحاصر في قطاع غزة، ومناصرته للشعب الفلسطيني المظلوم، امتدادا لموقف مشابه إزاء عدوان إسرائيل على لبنان وشعبه، ومناصرة الحق المشروع في المقاومة والصمود، ووصولا إلى مأساة سفن الحرية التركية الساعية لفك الحصار اللاإنساني الجائر لقطاع غزة، وتقديم المساعدات الإنسانية لشعبه المحاصر من كل الجهات، وسقوط شهداء أتراك بفعل الجريمة الإسرائيلية الشنعاء في ضرب تلك السفن الإنسانية بالقوة المسلحة الغاشمة.
والواقع أن تلك المواقف الجريئة والشجاعة لتركيا بقدر ما أسهمت بفعالية في فضح عدوانية إسرائيل وجرائمها ضد الإنسانية، وعزلها دوليا، فإنها أسهمت، أيضا وبشكل غير مباشر، في كشف عورة عجز وسلبية وخنوع مواقف أنظمة عربية، تعاملت مع المأساة الإنسانية المروعة للشعب الفلسطيني بلامبالاة واستخفاف وسلبية مريعة، ولم تحرك ساكنا في مواجهة ووقف العدوان الاسرائيلي البشع وجرائمه الرهيبة في حق الشعب الفلسطيني ووطنه المسلوب، وكأن الأمر لا يعنيها من قريب أو بعيد، وكأنها ليست مسؤولة مسؤولية مباشرة ورئيسية في ضياع الوطن الفلسطيني كله إبان حرب عام 1948 وحرب 1967.
فما هي حقيقة ودوافع وغايات السياسة التركية الجديدة المتجهة شرقا؟!
في محاولتنا الأولية هذه للفهم، نقول إن تركيا، بعد سقوط الخلافة العثمانية عقب الحرب العالمية الأولى في 24 مارس 1924، اتخذت لنفسها نهجا صارما ومتكاملا في بناء دولتها الجديدة والحديثة، يقوم على جملة من الأسس والمرتكزات، أهمها علمانية الدولة، وهي علمانية مفرطة ومتطرفة الى أقصى الحدود، بحيث عزلت الدين عزلا كليا عن الدولة والمجتمع معا، رغم أن العلمانية الأوروبية الأصل كانت بالأساس تعمل على فصل الدولة عن الكنيسة وليس عن الدين، وترتب على هذا المرتكز قطع وإنهاء كافة أشكال وصور ومضامين تاريخها الماضي، وأدارت ظهرها –كلية– عن تراكمات وخبرات وأوضاع وثقافة حوالي 700 عام هي فترة الدولة أو الإمبراطورية العثمانية، وأشاحت نظرها عن العالم الإسلامي وعمقها ومجالها الحيوي الاستراتيجي في الشرق، واتجهت لبناء نموذج سياسي أوروبي الثقافة والنظم والسياسات، معتبرة نفسها جزءا لا يتجزأ من أوروبا أساسا، وبالتالي جزءا من العالم الغربي، سياسة وثقافة واقتصادا ومجتمعا وتعليما... الخ.. وأقامت مع "إسرائيلـ" أوثق العلاقات التحالفية الاستراتيجية، كعضو في حلف "الناتو" الغربي المساند لإسرائيل والداعم لها تاريخيا، ولم تحتل علاقاتها بدول العالمين العربي والإسلامي سوى مرتبة ثانوية غير مهمة. والواقع أن تركيا، باختيارها لتلك السياسة المتجهة كلية نحو "أوروبا والغربـ"، غاب عن بال مخططيها الاستراتيجيين –آنذاك– إدراك حقيقة موضوعية أساسية تشير حقائق الجغرافيا والتاريخ والثقافة بوضوح وجلاء إلى أن دور تركيا ومجالها الحيوي الاستراتيجي بل ومصالحها تكمن أساسا في الشرق العربي والإسلامي، ولا يمكن لها القيام بأي دور ذي أهمية في أوروبا والغرب إلا اذا انطلقت من دورها وحضورها الفاعل في الشرق الإسلامي عموما. ويبدو أن تركيا عبر تلك السياسة القديمة، قد فقدت فرصة تاريخية ثمينة جدا لقيادة دول الشرق الإسلامي والعربي، قيادة كانت تركيا ولا تزال مهيأة ومؤهلة لها، بالنظر إلى خبراتها وتجاربها بالغة الثراء المتراكمة من مسيرة الدولة العثمانية الطويلة جدا من حيث الزمن والدور، وبالاستناد إلى موقعها الجغرافي الفريد كسقف للمنطقة كلها، وقاعدتها العلمية والصناعية ومواردها الاقتصادية وثقلها السكاني المتميز نوعيا عن سائر دول المشرق الإسلامي العربي. وإذا أضاعت تلك الفرصة التاريخية فإنها أضاعت أيضا على شعوب وبلدان العالم الإسلامي العربي فرصة الانشداد الى نموذج جاذب تمثله تركيا تتحذ لنفسها في فلكه مدارات النمو والتقدم والنهضة الحضارية، لا يحاكي أو يكرر نموذج الدولة العثمانية الآفلة بالتأكيد، ولكنه يخلق تكتلا إقليميا واسعا وكبيرا وثريا، تقوده تركيا وفق صيغ أكثر حداثة ومعاصرة.
ومع ذلك، ورغم أن الدولة التركية التي تأسست وبنيت على أنقاض الدولة العثمانية، وعملت بكل السبل والوسائل وبجهود مكثفة متواصلة لقطع كل علاقة أو صلة تربطها بتاريخها العريق والطويل وثقافتها المتغلغلة الجذور والمتأصلة عبر مئات السنين في مجتمعها، واجتثاث كل ما يربطها بماضيها وتراثها ومكوناتها الحضارية الماضية، إلا أن الشعب التركي، في غالبيته الساحقة، لم يكن مستعدا ولا قادرا على فك ارتباطه بمكوناته وجذوره الثقافية والدينية والاجتماعية، بل ظل دائما، بتأثير نزعة حفظ البقاء، يعمل على توثيق ارتباطه بكل تلك المكونات والجذور بوسائل وأساليب متعددة ومتداخلة، وظل شديد الارتباط بما اعتبره هويته الوطنية المتكونة تاريخيا وحضاريا عبر مئات السنين، هوية اعتبرها عنواناً لمجد عريق وتاريخ حافل وبالغ الثراء والخصوبة والحيوية، صنعه هو بإيمانه وتضحياته الجسيمة ومعاناة وعذابات أجياله المتعاقبة.
ولقد فات على منظري الدولة التركية الحديثة آنذاك إدراك الحقيقة الموضوعية الثانية، والتي تؤكد أن مسألة الهوية الوطنية للشعوب المؤسسة على قاعدة ثقافتها ومعتقداتها وتاريخها المشترك الضارب بجذوره في عمق الواقع النفسي والمادي للإنسان، يستحيل إلغاؤها بعملية اجتثاث واستئصال سريعة، وبقرار فوقي وهوى سياسي ظرفي مهما بلغت قوة وجبروت وقساوة القوى القائمة عليها أبدا، وذلك درس التاريخ الذي ما فتئ يتأكد أمام أسماعنا وأبصارنا وعقولنا من خلال مسيرة شعوب الأرض وتجاربها الطويلة منذ فجر التاريخ وحتى اليوم.
ولقد أثبتت مسيرة تاريخ الدولة التركية الحديثة بما لا يدع مجالا للشك أن خيارها السياسي الاستراتيجي الذي وجه علاقاتها نحو "النموذج الأوروبي –الغربي"، باعتبارها جزءا منه وامتدادا له، وإهمال دورها في مجالها الحيوي في الشرق الإسلامي العربي، لم يكن خيارا صائبا وموفقا لا من حيث مقتضيات الجغرافيا المحددة لموقع تركيا ومجالاته الحيوية، ولا من حيث مقتضيات التاريخ الممتد لدور تركيا (الدولة العثمانية) لحوالي 700 عام متواصلة، وما أفرزه من أوضاع ووشائج وعواطف عميقة الجذور، ولا أيضا من حيث المصالح والمنافع والامتيازات الوطنية العليا للدولة التركية، وعلى امتداد ما يزيد عن ال50 عاما من الاندفاع التركي شبه الكلي للارتباط بأوروبا (الاتحاد الأوروبي) والانضمام إلى عضويته، وجدت الدولة التركية أخيرا أمام الحقيقة الصادمة أنها غير مرحب بها في النادي الأوروبي، وأن الاتحاد الأوروبي مصمم تماما على رفض انضمام تركيا الى عضويته بسبب ما يرونه من انتمائها الإسلامي وكثافتها السكانية الكفيلة بالإخلال بالهوية المسيحية لأوروبا! دون وضع أي اعتبار لعلمانيتها وفصل الدين عن الدولة وعضويتها في حلف الناتو وعلاقتها الاستراتيجية مع "إسرائيلـ" الخ..
وعلى وقع تلك الصدمة السياسية، راحت الدولة التركية، بقيادتها المدعومة شعبيا، والواعية سياسيا، تعيد النظر في أسس ومقومات ومرتكزات استراتيجيتها الوطنية العليا، في ضوء ما أفرزته تجربة الدولة التركية على مدى 5 عقود من نتائج ودروس وعبر، واستنادا إلى عملية استشراف واستيعاب للمتغيرات الدولية والإقليمية، وتشخيص دقيق للواقع التركي وقدراته وإمكانياته وقواه الاقتصادية والثقافية والعلمية والسياسية والعسكرية، مع ما توافر لها من عقلية فذة تملك قدرات وكفاءة عالية من حيث التفكير والتخطيط الاستراتيجي الدقيق والعميق متكاملة في شخصية البروفيسور أحمد داود أوجلو، الذي اختارته قيادة سياسية رشيدة ومخلصة وواعية، لإدارة السياسة الخارجية التركية الجديدة التي كان له شخصيا إسهام أساسي في بلورتها وصياغتها، ومنحه سلطات وصلاحيات إدارتها ووضعها موضع التنفيذ.. فما هي معالم السياسة التركية الجديدة المتجهة شرقا؟
ذلك ما سنتناوله بإذن الله تعالى في حلقة قادمة.
بريطانيا في 25 يونيو 2010
السياسة التركية الجديدة.. محاولة أولية للفهم (1-4)
2010-07-12