أمرت محكمة مليشيات الحوثي بقتل (إعدام) عدنان الحرازي، رئيس شركة برودجي، بتهمة التخابر. تعمل شركة برودجي بشكل علني وبتصريح رسمي منذ عام 2006، مع المنظمات الدولية العاملة في اليمن مثل: اليونيسف، منظمة الأغذية العالمية، وآخرين. ومن بين أنشطة الشركة العمل كمقاول محلي ينفذ مشاريع هذه المنظمات، وتقديم الخدمات الإدارية واللوجستية، بالإضافة إلى المراقبة والإشراف على أعمال الجهات المنفذة لمشاريع المنظمات الدولية.
بعد الحرب، ومع تزايد نشاط المنظمات الدولية التي حلت محل العديد من أجهزة الدولة المنهارة، زاد نشاط الشركة بشكل كبير، وارتفع دخلها وأرباحها لتصل إلى ملايين الدولارات. هذه الأرباح الضخمة أسالت لعاب القيادات الحوثية التي اطلعت عليها، فأغلقوا الشركة، وأنشأوا شركاتهم الخاصة لتعمل محلها وتزاول نفس نشاطها. ولم يكتفوا بذلك، بل قاموا باعتقال رئيس الشركة وإخفائه لفترة طويلة في سجونهم، ونهبوا أمواله وأموال الشركة. وفي النهاية قاموا بتلفيق تُهمة التخابر، وحكموا عليه بالإعدام.
وتهمة التخابر، التي حوكم بها عدنان الحرازي، هي التواصل مع المنظمات وتزويدها بمعلومات تمس أمن الدولة. من المؤكد أن عدنان الحرازي وشركته قدموا معلومات و"تخابروا" مع منظمات مثل اليونيسف وبرنامج الغذاء العالمي والبنك الدولي وغيرها. ومن المنظمات التي تعامل معها الحرازي، هيئات وشركات أمريكية، كما ذكر منطوق حكم محكمة المليشيا، وهذا الأمر طبيعي، ولا يعتبر خطيئة وجريمة كما صورتها المليشيات؛ فأمريكا كما يعلم الحوثيون هي أكبر مانح للمساعدات في اليمن خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وفي بعض السنوات بلغ حجم المساهمة الأمريكية أكثر من 50% من حجم المبالغ المتبرع بها لليمن، ومن الطبيعي -والحال هكذا- أن تتولى مؤسسات وشركات أمريكية إدارة الكثير من برامج المساعدات الممنوحة من بلدهم. ومن يعرف كيف تتم هذه الإدارة في بلد مثل اليمن؛ فإن هناك حاجة لشريك محلي يتولى العمل في اليمن، ومن المحتمل أن شركة برودجي كانت إحدى الشركات التي تعاملت مع المؤسسات والشركات الأمريكية.
لا يعتبر الحوثيون الأموال الأمريكية محرمة، فحين خفضت أمريكا حجم مساعداتها العام الماضي، بكى الحوثيون وناحوا، وطالبوا أمريكا بالتراجع عن التخفيض، وهذا يعني أن الحوثيين بشكل مباشر وغير مباشر يتعاملون مع أمريكا وبرامج مساعداتها في مناطق سيطرتهم، فيما هم يعتبرون تعامل عدنان الحرازي مع مؤسسات وشركات أمريكية، جريمة كبرى وعملًا من أعمال الخيانة.
إلى جانب ذلك، جرم الحكم الحوثي شركة برودجي بأنها قامت بجمع معلومات وقدمتها للمنظمات الدولية، وما اعتبره الحكم جريمة، هو ممارسة طبيعية تقوم بها أية مؤسسة أو شركة تعمل في برامج الإغاثة. فعمل قاعدة بيانات بيومترية عمن يطلق عليهم الحوثيون "أحفاد بلال" (المهمشين)، والذي اتهمت شركة برودجي به، هو من صلب عمل أية منظمة تعمل في مشاريع الإغاثة، فكيف ستقوم المنظمات بصرف المساعدات لهذه الفئة أو غيرها، دون أن يكون لديها بيانات موثوقة عنهم، في دولة لا يوجد بها سجل مدني فعال، ولا وثائق يُعتمد عليها؟ فالبيانات البيومترية، التي يعارضها الحوثيون، تهدف إلى إيصال المساعدات لمستحقيها، بينما الحوثيون يرغبون في أن تبقى الأمور فوضوية من أجل أن يستولوا على المعونات، كما قال رئيس برنامج الغذاء العالمي عنهم "أنهم يسرقون الغذاء من أفواه الجوعى".
في عرف الأنظمة الطغيانية كالحوثيين، فإن معلومات عن: الجياع والمتسولين، وحرمان الأطفال من التعليم والغذاء، ورعاية النساء الحوامل، هي من أسرار الدولة الخطيرة، ويتم تصنيفها تحت تهمة التخابر. ووفقًا لذلك؛ تعتبر هذه الأنظمة أية دردشة مع سائح أو موظف أجنبي أو دبلوماسي، بمثابة "تخابر"، والتي تعني في قاموسهم كلمة تجسس، وإفشاء أسرار الدولة، حتى لو كانت الدردشة موضوعها أسعار البصل والثوم.
إن تهمة التخابر هي أبشع التهم التي تستخدمها الأنظمة الطغيانية. فهي لا تشبه تهمة التجسس وإفشاء أسرار الدولة، أو القيام بأعمال لصالح دولة أخرى للإضرار بالدولة، لأن هذه التهم يمكن تعريفها بدقة، ومن ثم معاقبة مرتكبيها. ولهذا نجد أن جميع دول العالم تُجرم مثل هذه الأعمال، بما في ذلك أرقى الدول الديمقراطية والليبرالية.
الجدير بالذكر، أن التهم المذكورة لا يعتد بها في الثقافة السياسية اليمنية؛ فكافة النخب السياسية، وبخاصة قادة الأحزاب السياسية وكبار موظفي الدولة، لم يتواصلوا مع الحكومات الأجنبية وأجهزتها الاستخباراتية فحسب، بل قاموا ومازالوا يقومون بأعمال التجسس وإفشاء أسرار الدولة، والارتزاق، وتنفيذ ما يؤمرون به من قبل الدول الأجنبية. والعديد من هذه النخب تقوم بهذه الأعمال بشكل علني، بل تتفاخر بها.
وفي هذا المقال لن أذكر كل قيادات الأحزاب والحركات السياسية اليمنية، بل سأشير فقط إلى قيادات الحوثيين، ومن بينهم عبدالملك الحوثي، إذ إن موضوع المقال يخصهم. فقادة الحوثيين، قبل أن يصبحوا سلطة الأمر الواقع في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، مارسوا كل الأفعال التي تقضي القوانين اليمنية بمعاقبتهم بالإعدام. فخلال تمردهم المسلح ضد الحكومة اليمنية قبل عام 2011، زودتهم إيران وحزب الله وآخرون بالمال والسلاح للتمرد على سلطة بلادهم. وبعد عام 2011، توسع الدعم الإيراني للحوثيين وأصبح علنيًا، بخاصة في المجال الإعلامي، إذ أنشأت إيران قناة المسيرة الفضائية من الضاحية الجنوبية لبيروت. وعليه فإن قيادات الحوثي تستحق أقصى العقوبات المنصوص عليها في كافة قوانين دول العالم، إذ إن تلقي أموال وأسلحة من دولة أجنبية بغرض التمرد على سلطات الدولة، هو أخطر جريمة ترتكب ضد أية دولة، لأنها تجمع بين الخيانة والتجسس والارتزاق والإرهاب.
لكن، بحسب قانون الحوثيين، فإن عدنان الحرازي مجرم خطير يستحق الإعدام، لأنه "تخابر" مع اليونيسف وبرنامج الغذاء العالمي، وزودهما بمعلومات خطيرة مثل: إحصاء عدد أحفاد بلال، على قولتهم، وأحصى عدد الأطفال الجائعين والمتسربين من التعليم، وعدد النساء اللاتي يمتن أثناء الولادة، وعدد المتسولين، وغيرها من المعلومات والأسرار التي تمس أمن الدولة.
تُقدم قضية عدنان الحرازي نموذجًا للسلوك الطغياني الذي يمارسه الحوثي، وعندما أقول "سلوك طغياني"، فهو ليس قدحًا في حقهم، وإنما هو توصيف علمي لسلوك النظم الطغيانية، ولهذا أتعمد وصفهم به. فالنظام الطغياني يختلف عن نُظم الاستبداد العادية، مثل الدكتاتوريات العسكرية مثلًا، من حيث نوعية الاستبداد والقمع وقسوته. ففي نظام استبدادي عادي، مثل نظام علي صالح مثلًا، كانت الممارسات التي كان يُتهم بها في التعامل مع الشركات، طلب النافذين عمولات لترخيصها، أو الحصول على نسبة من الأسهم. أما النظام الطغياني مثل النظام الحوثي؛ فإنه لا يكتفي بإغلاق الشركة التي يضع عينه عليها، وتشكيل شركة بديلة لتعمل عملها فقط، لكنه يقوم باعتقال صاحب الشركة، وينهب أمواله، ويلفق له تهمًا خطيرة، ومن ثم الحكم عليه بالإعدام.
إن تزايد أحكام الإعدام التي تصدرها مليشيا الحوثي لأتفه الأسباب، يؤكد خطورة ودموية ووحشية هذه الحركة. والأخطر من ذلك كله، أنها تزداد وحشية وطغيانًا مع تزايد قوتها ونفوذها. ولذلك علينا أن نتوقع منها المزيد من القمع والإرهاب في الأيام المقبلة، إلا إذا حدثت معجزة، وانتهت هذه الحركة، وحينها يرتاح منها البشر والشجر والحجر، وينجو عدنان الحرازي.