"السلام هو غياب العنف"
كانت هذه هي الرسالة العامة لورشة العمل التي حضرتها في بلفاست عام 2018، حول النزاع في أيرلندا الشمالية.
وهي رسالة معضلة في الواقع.
لأن السلام المستدام، القائم على مصالحة حقيقية، وإنهاء الفصل القائم بين الجماعات المحلية الدينية المتحاربة، لم يتحقق بعد.
السلام المستدام لم يتحقق بعد.
لقد استمر تقاسم السلطة منذ اتفاقية بلفاست عام 1998، لكن العنف شبه العسكري، التوترات الاجتماعية، والصراع، كل هذا مازال قائمًا.
حتى اليوم، يعيش أفراد المجموعتين المتخاصمتين الرئيسيتين، الروم الكاثوليك والبروتستانت، في مجتمعات منفصلة متوازية، كل في قوقعته، منفصلين في الأحياء السكنية، في المدارس وفي المرافق الصحية.
وقد أوضح أحد المتحدثين في ورشة العمل للمشاركين والمشاركات، أن الشاب أو الشابة من الكاثوليك الرومان قد يلتقيان بنظرائهما من البروتستانت عندما يبلغان الثامنة عشرة من عمرهما.
هو سلام بارد قائم على مبدأ "الاحتواء المستمر للأزمات"، حيث تم استبدال "الأزمات الكلية الدائمة" بـ"الأزمات الصغيرة المتكررة".
فهل هذا أساس لسلام مستدام؟
السؤال ليس بلاغيًا. بل له آثار حقيقية على عملية السلام في النزاعات الإثنية وفعالية حل النزاعات.
والأهم من ذلك، له عواقب واضحة على حياة المدنيين والمدنيات في العديد من مناطق النزاع، بما في ذلك الشرق الأوسط. وليس أدل على ذلك من الحرب الأهلية في اليمن، التي دخلت عامها العاشر. إذ لايزال المدنيون فيها، رجالًا ونساءً، أطفالًا وشيوخًا، يتحملون العواقب الوخيمة لسنوات من المواجهات العسكرية، وممارسات الجماعات المسلحة، وحالة ما بين البينين القائمة، أي الـ"لا سلام ولا حرب".
لا بد للحرب أن تصل إلى نهاية. وعاجلًا أم آجلًا ستلجأ أطراف النزاع إلى التفاوض. ومع ذلك، يبقى السؤال المطروح: هل سيكون اتفاق السلام هذا مستدامًا؟
صنع السلام التقليدي والسلام المستدام
لا يقتصر انعدام المصالحة واستمرار العداء بين المجموعات على عملية السلام في أيرلندا الشمالية. في الواقع، سيجادل بعض الباحثين في صنع السلام وحل النزاعات بأنهما سمة من سمات الجهود التقليدية لصنع السلام.
فعلى سبيل المثال، تجادل ناسيا هادجيورجيو بأن العنصرين الأكثر شيوعًا في صنع السلام التقليدي المستخدم للإشارة إلى سلام "مستدام" و"ناجح"، هما انخفاض مستوى العنف وتنظيم "انتخابات حرة ونزيهة". وبعبارة أخرى، عندما تعرّف بعثات السلام التابعة للأمم المتحدة "السلام المستدام" فإنها تشير إلى "قدرة أطراف النزاع على نقل الصراعات السياسية أو الاقتصادية من ساحة المعركة إلى إطار مؤسسي يمكن فيه حل النزاعات".
هذا التعريف سليم، لكنه غير كافٍ لسببين. أولًا، إن الإطار المؤسسي المصمم لتحقيق "سلام مستدام" في الحروب الأهلية العرقية الإثنية غالبًا ما يرسخ هويات الجماعات العرقية بدلًا من حلها، وبالتالي يمهد الطريق لنزاعات مستقبلية. والسبب الثاني هو أن غياب العنف ليس سوى مقدمة لمزيد من "النزاعات الصغيرة".
فعلى سبيل المثال، أتاحت "الديمقراطية التوافقية الطائفية" التي أعيد العمل بها في لبنان بعد الحرب الأهلية (1975-1990)، تقاسم السلطة بشكل رسمي بين مختلف الطوائف الدينية، وعلى أساس غير رسمي بين العائلات والعشائر داخل هذه الطوائف. وعلى الرغم من أن السلطة كانت لامركزية وشاملة للجميع، إلا أنها عززت الهويات الجماعية التي تسببت في الحرب في المقام الأول، كما أعاقت أية عملية بناء سلام موجهة نحو المواطن، وعززت ديناميكية سياسية بين الراعي والعميل Patron- Client. في الواقع، لقد أبقت الدولة ضعيفة -كساحة للتنافس السياسي على التوزيع اللامركزي لموارد الدولة- وخلقت حافزًا للطوائف الطائفية لحماية وتوسيع نطاق استقلالها المؤسسي الذاتي.
كان أكثر ما يلفت النظر في اتفاق السلام في لبنان هو غياب أية عملية مصالحة من شأنها أن تعالج الحرب نفسها، أو جذورها التاريخية، أو ما حدث خلال سنواتها الخمس عشرة. لماذا تعمّد الطرفان تجاهل إمكانية أية مصالحة ذات مغزى، والتصرف كما لو أن الحرب لم تحدث قط؟ كان السبب هو خوفهم من "إيقاظ الوحوش النائمة". لقد أصبح هذا الغياب التام للمصالحة يطارد لبنان اليوم؛ ويمكن لأي شخص أن يراه في المأزق السياسي الحالي في البلاد.
ثانيًا، إن وجود مؤسسات تقيم "انتخابات حرة ونزيهة" ليس ضمانًا للسلام. والواقع أن تقديم الانتخابات قبل الأوان قد يسهم في زيادة تصعيد العنف.
لننظر في التجربة الكولومبية. فقد درس كل من آبي ستيل وليفيا شوبيغر ما يحدث عندما يستخدم المفاوضون خيارات سياسية لمعالجة المظالم وإنهاء النزاع من خلال تعميق المؤسسات الديمقراطية وتعزيزها. ووجدتا أن هذه المقاربة يمكن أن تؤدي في الواقع إلى تصعيد العنف أثناء الحرب، وتسمح للجماعات المسلحة وحلفائها باستتباع المؤسسات الديمقراطية بشكل فعال، مما يقوض المشاركة والتمثيل الفعليين للمواطنين العاديين. وبعبارة أخرى، إذا تم تطبيق اللامركزية في ظل ظروف خاطئة، فإنها يمكن أن تسهل استيلاء الجماعات السياسية والإجرامية المسلحة على المؤسسات الديمقراطية.
وهكذا، وكما تُظهر هذه الأمثلة، فإن التدابير التقليدية لصنع السلام لم تسفر بعد عن سلام مستدام.
ويذهب ستيوارت ج. كوفمان إلى حد القول بأن المقاربات الحالية للحروب الأهلية العرقية عادة ما تفشل، لأنها تستند إلى "فهم غير كافٍ لكيفية عمل الهويات العرقية، ولماذا يحشد أفراد الجماعات للحرب، وكيف يمكن حشدهم من أجل السلام". وغالبًا ما يفترض الدبلوماسيون والمحللون أن أطراف النزاع أطراف فاعلة عقلانية تدرك تكلفة الحرب وبالتالي تفضل السلام. وبناءً على هذا الافتراض، يعزون العنف فقط إلى الصراع على المصالح الملموسة، وإلى انهيار النظام المؤسسي. لذا فهم يميلون إلى التركيز على المصالح والمؤسسات، وبالتالي يفشلون في معالجة "السياسات الرمزية المشحونة بالمشاعر" التي ينطوي عليها تحديد تلك المصالح والمؤسسات، والسعي إليها ومناقشتها.
ولكن من الممكن التوصل إلى حل وسط، كما نرى في المجلد الثالث من المجلة الدولية لمبادرات السلام. إذ يعترف المؤلفون بالأبعاد والمراحل المعقدة لصنع السلام، ويقترحون نهجًا يخلق جسورًا بين بناء السلام وبناء الدولة. ويقول غرايم سيمبسون إنه في كثير من الأحيان، يُنظر إلى المصالحة -التي تُعرّف بأنها عملية بناء أو إعادة بناء العلاقات التي تضررت بسبب الصراع العنيف- على أنها تكميلية أو هامشية، أو على أنها إلهاء دخيل أو طموح طوباوي.
ومع ذلك، فإن للمصالحة قيمة عملية كبيرة لأنها تقع في ذلك التقاطع الحاسم بين جهود بناء السلام وبناء الدولة. ومن هذا المنظور، يرى سيمبسون أن صنع السلام يجب أن يتجاوز الجهود التكنوقراطية لبناء قدرات الدول "القوية" بدلًا من الدول "الهشة"؛ فالمطلوب بدلًا من ذلك هو بذل مساعٍ سياسية أكبر لتحويل العلاقات الملتبسة بين الدولة والمجتمع، وهو ما يسميه تنمية "الثقة المدنية".
نوع العنف في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ما بعد الربيع العربي
قد تبدو المناقشة أعلاه مجردة ونظرية. إلا أنها تنطوي على آثار واقعية مهمة على النظام الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مرحلة ما بعد الربيع العربي واستدامة السلام في اليمن وما بعده.
كان للربيع العربي عام 2011 نتائج متباينة في البلدان التي شهدت انتفاضات شعبية. ففي البلدان التي تتميز بتقاليد عريقة في أجهزة الدولة المركزية ووجود هوية وطنية قوية، مثل تونس ومصر، كانت النتيجة عملية دمقرطة هشة تحولت إلى سيطرة رئيس مركزية، وعودة إلى الاستبداد العسكري على التوالي.
أما في بلدان مثل اليمن وسوريا وليبيا، التي تتميز بحداثة دولها وعدم وجود هوية وطنية راسخة وانقسام المجتمع على أسس قبلية أو دينية أو طائفية أو لغوية و/أو جهوية أو أي من هذه البلدان، فقد كانت النتيجة انهيار النظام السياسي والحرب الأهلية والتشرذم.
لفهم النزاعات الحالية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وتصميم عملية سلام مناسبة، فإن لكل سياق أهميته.
فالصراعات القائمة في الشرق الأوسط، وتحديدًا في اليمن وسوريا وليبيا والسودان، تشترك في خاصية هامة: الطبيعة الإثنية لصراعاتها. فالمظالم والإقصاءات الجماعية التي تسببت فيها، تقوم على أساس هويات دينية، طائفية، مناطقية، و/أو قبلية. وهي مظالم وإقصاءات تعود إلى زمن بعيد في التاريخ. ومع ذلك، تختلف مسارات هذه المظالم والجهات الفاعلة في مشروعي البحثي الأخير، درستُ نتائج الانتفاضات العربية في عام 2011، وطرحتُ السؤال: لماذا أدت هذه الانتفاضات في دول مثل سوريا وليبيا واليمن إلى اندلاع حروب أهلية فيها؟ نفس السؤال يمكن طرحه اليوم عن السودان.
وقد اقترحتُ مقاربةً سياقيةً، سميتها مدخل الواقعية السياقية، التي تميّز بين أنواع الدول في المنطقة وعملية تشكيل (تكوين) دولها (state formationوسياقاتها الإقليمية والدولية (Regional and International Context).
واقترحت فرضية، أن التفاعل بين الأنواع المختلفة لتكوين الدولة (أي طبيعة الدولة المعنية وتاريخها) والتنافس الإقليمي، يمكن أن يفسر الحروب الأهلية في دول مثل اليمن وسوريا وليبيا، كما يمكن أن يفسر الحفاظ على النظام البحريني رغم انقساماته الطائفية. وتظهر مصر وتونس تنويعات أخرى من أنماط الدولة والهوية الوطنية، التي مكنتهما من الصمود في وجه الصدمات التي تعرض لها نظاماهما.
أثمر هذا المشروع البحثي عن كتابين؛ الكتاب الأول ركز على تكوين الدولة من مدخل الواقعية السياقية، وطبقته على حالة اليمن تحديدًا. وسيصدر هذا الكتاب في يوليو من هذا العام عن دار نشر جامعة أكستر الأكاديمية، تحت عنوان: "الحرب الأهلية اليمنية: الربيع العربي، بناء الدولة، وعدم الاستقرار". الكتاب الثاني أعكف عليه حاليًا، ويتناول الجزء الثاني من المدخل، ويتعامل مع السياق الإقليمي والدولي لهذه الحرب.
وهو ما يقودنا من جديد إلى الحرب الأهلية اليمنية.
الحرب الأهلية اليمنية التي بدأت عام 2014، هي واحدة من الحروب الأهلية العديدة التي شهدها اليمن قبل الوحدة عام 1990 وبعدها. هو تاريخ طويل متجذر من عدم الاستقرار السياسي في شمال اليمن وجنوبه على حد سواء.
لماذا؟ لماذا تميز التاريخ السياسي لليمن بعدم الاستقرار والحروب المتكررة؟
هذا السؤال يتطلب دراسة تكوين الدولة فيها، وأن ندقق في مسارها وسياقها في الماضي والحاضر، وبطريقة تتجاوز المظالم الاجتماعية والاقتصادية وتوسيعها مع تلك الناشئة عن المظالم الإقصاءات الجماعية (group grievances and exclusions)، والتي غالبًا ما تنبع من الخوف والكراهية.
إذا نظرنا عن كثب إلى تاريخ اليمن وإرث الدولة اليمنية، تجدر الإشارة إلى عدد من الحقائق:
أولًا، اليمن كحيز جغرافي لا يتطابق مع اليمن ككيان سياسي. فاليمن الجغرافي كان دائمًا أكبر من مختلف الأشكال والتكوينات السياسية العرقية والقومية التي كانت متواجدة فيه في نفس الفترة الزمنية. وكان هذا صحيحًا منذ القدم.
ثانيًا، لم يتوحد اليمن في شكله الجغرافي الحالي إلا مرة واحدة في تاريخه القديم، ومرتين في تاريخه الحديث بأكمله.
فكر في الأمر على أنه مجموعة من أبناء العم عالقين في منزل ورثوه من أحد الأجداد القدامى. وبدلًا من العمل معًا لخلق مجتمع داخل هذا المنزل، يهيمن أحدهم ويصر على كسر إرادات الآخرين. وبمرور الوقت، يملي نظرة متسلطة مخيفة للعالم، ويتصرف في نهاية المطاف كمتنمر، وفي النهاية يلتهم كل الموارد المتاحة. من هنا سيكون من الطبيعي أن يقرر أبناء العمومة الآخرون الخروج من البيت المشترك. والقول بأنه كان من الممكن إدارة هذا البيت بشكل أفضل، وبطريقة أكثر إنصافًا، هو أيضًا احتمال وارد، ولكنه ظل نادر الحدوث.
ثالثًا، تتناقض السردية الواردة في التاريخ الحديث عن "جنوب موحد" مع الواقع التاريخي والسياسي للمنطقة قبل الاستعمار البريطاني وأثناءه. كما أنها تتناقض مع واقع الصراعات الجماعية المتكررة في جميع أنحاء دولة جنوب اليمن بين عامي 1967 و1990.
رابعًا، على مدى تاريخ اليمن الحديث، غالبًا ما كان ينظر سكان الشمال والجنوب على حد سواء إلى الدولة على أنها تمثل شريحة واحدة فقط من المجتمع؛ شريحة عرقيّة إثنية. وأن الدولة تحولت إلى أداة لخدمة هذه الشريحة لا غير، تقصي غيرها من شرائح المجتمع. لذا كان الخوف وعدم الثقة سمة العلاقة بين الدولة والمجتمع.
خامسًا، كانت الدولة هشة للغاية لدرجة أنها لم تكن قادرة في كثير من الأحيان على توفير الخدمات الأساسية للسكان، بما في ذلك العدالة والأمن. وكثيرًا ما استخدمت النخب الحاكمة مؤسسات الدولة لاستخراج الموارد لمصلحتها الخاصة.
إذا وضعنا التاريخ جانبًا، وحاولنا وصف الصراع اليمني الحالي، تصبح المسألة اكثر صعوبة. خاصة وأن الصراع والجهات الفاعلة فيه تتغير باستمرار، رمال متحركة، هكذا يبدو الصراع من بعيد.
ومع ذلك، يكمن في صميم الصراع:
صراع على السلطة داخل النخب الأساسية في المشهد اليمني المنقسم؛
إقصاءات مناطقية مقرونة بمظالم جماعية؛ انهيار دولة هشة؛ وإذا أضفنا البعد الإقليمي وتدخلات الأطراف الإقليمية الفاعلة مثل السعودية وإيران والإمارات، إلى الصورة، يصبح لدينا حرب أهلية بين فصائل متنافسة من القوى الاجتماعية والسياسية اليمنية، وكل منها يتحالف مع جماعات إقليمية/ طائفية/ قبلية/ إسلامية متنافسة.
عدم الاستقرار السياسي في اليمن على مر التاريخ كان نتاج المظالم الجماعية المتداخلة التي ظلت متراكمة وتطفو على السطح بشكل متكرر، ويعكس عملية تكوينات متعددة للدولة (لا أتحدث عن يمن واحد، بل عن يمنات عديدة، داخل الشمال، وداخل الجنوب، وفي الشمال، وفي الجنوب)، فشلت في نهاية المطاف في إنتاج دولة حديثة بالفعل، ونخب سياسية اجتماعية تتميز بمحددات إثنية (وتستغل هذه المحددات في الوقت نفسه) تتقاتل في ما بينها بشكل دائم عبر التاريخ اليمني. هذه العناصر الأربعة -المظالم الجماعية المتداخلة، وتشكيلات الدولة الفاشلة، والمحددات الإثنية لنخبها، والتدخلات الإقليمية- هي جوهر المعضلة اليمنية.
إن فهم النزاع على هذا النحو له تداعيات مباشرة على أية عملية سلام وعمليات التدخل الإنساني والإنمائي.
فالسلام المستدام في اليمن يجب أن يعالج هذه العناصر الأربعة؛ وسيتطلب تجاوز نمط حل النزاع البسيط، الذي يوقف العنف ولا يعالج أسبابه، والذي فشل حتى الآن، وسيفشل من جديد، في معالجة المظالم الجماعية المتداخلة والجذور التاريخية للأزمات المتكررة في اليمن.
يجب أن تعترف بأن الانقسام داخل البلاد (المناطقي والطائفي والقبلي) قد تم تكريسه بشكل منهجي من قبل النخب الأساسية/ أي من قبل الدولة نفسها. ونتيجة لذلك، فإن التوزيع غير المتكافئ للموارد لم يكن مجرد مسألة أولويات أو تفضيلات سياسية أو إهمال. بل كان مرتبطًا جوهرًا بالتنافس التاريخي، والعداء وحتى الكراهية.
فثمة مناطق وأقاليم بعينها تم تهميشها وإقصاؤها عمدًا. وبعبارة أخرى، فكما أن للعنف -مثل اندلاع الحروب الأهلية- تاريخه ومظالمه، فإن الإقصاء الاقتصادي يحمل أيضًا منطقًا قويًا.
هناك مشكلة جدية في المقاربة الدولية للأزمة اليمنية. إذ غالبًا ما تكون عمليات السلام التي تعالج الحرب الحالية في اليمن عالقة في "الحاضر". أي أنها تسعى إلى إيجاد حلول "للأزمات الحالية" بأشكالها الحالية، ولا تنظر إلى أبعد من ذلك. هذه المقاربة تشبه إلى حد ما محاولة علاج أعراض المرض، وترك أسبابه دون معالجة.
ولكن إذا أردنا تحقيق سلام مستدام، علينا أن نفهم هذا التعقيد في تكون الدولة اليمنية، تاريخها، ونمط السلطة فيها. هذا الفهم هو مفتاح صنع السلام وحل النزاعات لسبب بسيط: لا يمكن لأحد أن يفهم صراعات اليوم دون معرفة جذور هذه الصراعات والمظالم الجماعية المرتبطة بها.
فـ"الماضي"، على حد تعبير الكاتب ويليام فولكنر، "لم يمت أبدًا". "في الواقع، هو ليس ماضيًا حتى".
نحن بحاجة إلى تصميم إطار عمل للسلام يمكنه سد الفجوة بين بناء السلام (المصالحة) وبناء الدولة. وبعبارة أخرى، يجب أن نذهب إلى ما هو أبعد من بناء قدرات الدولة اليمنية "الهشة"، وأن نسعى إلى تحويل العلاقات المشوبة بين الدولة والمجتمع، أي تعزيز ما يمكن أن نسميه "الثقة المدنية".
وللقيام بذلك يجب أن نفكر خارج الصندوق.
التفكير خارج الصندوق
هل الدولة الاتحادية هي الإطار المؤسسي المناسب لليمن؟ الجواب لا إذا كانت ستعيد إنتاج الإطار المؤسسي التوافقي الطائفي اللبناني. فالدولة الفيدرالية التي تفعل ذلك ستعمل على ترسيخ هويات المجموعات الإثنية، وستمهد الطريق لصراعات مستقبلية. وهذا لن يكون مستدامًا. إن تقديم رؤية أوضح لكيفية قيام مثل هذا النظام في الظروف الحالية، خارج حدود هذه المداخلة (وهو موضوع مشروع بحثي آخر). ومع ذلك، وبغض النظر عما إذا كانت نهاية الحرب الأهلية ستسفر عن دولة فيدرالية أو دول منفصلة، فإن تحويل العلاقات الملتبسة بين الدولة والمجتمع، وتعزيز ما يمكن تسميته بالثقة المدنية يجب أن يكون في صميم هذا المسعى.
من خلال العمل على المستوى المحلي ومعالجة العامل القبلي، يمكن للباحثين الاستفادة من التجارب الإقليمية الناجحة في معالجة التمردات القبلية ودمجها في هيكل الدولة. ومن الأمثلة على ذلك معالجة سلطنة عمان للحرب في إقليم ظفار. فهي تُظهر كيف يمكن للدولة أن تعمل حول البنية القبلية وبناء الثقة وتنتهي بعلاقة مباشرة بين الدولة ومواطنيها.
كما أن التفكير خارج الصندوق يستلزم كذلك تطوير أدوات وساطة تعالج المظالم الجماعية العميقة الجذور بطريقة تأخذ بعين الاعتبار سياق وجذور وأبعاد السلطة وتاريخ هذه المظالم. هناك منشورات علمية جديدة وغنية تقترح أدوات لحل النزاعات يمكن أن تكون مفيدة في هذا الصدد، والتي تربط بين سرديات هذه المظالم وخطوات رأب الصدع.
وأخيرًا، فإن التفكير خارج الصندوق يستلزم أيضًا طرح سؤال: من الأقدر على مرافقة هذه العملية؟ لقد لعب معظم أطراف النزاع في اليمن، وبخاصة من يستخدم خطابًا طائفيًا، دور المفسدين في أي جهد نحو سلام مستدام. فهم يستفيدون من هذه الحرب، ويستمرون في استخدام الخطابات والسرديات الإثنية عن الحرب بشكل متعمد. ويعمل هذا الخطاب على تعبئة جماعاتهم، ولكنه يزيد من انقسام المجتمع واستقطابه على أسس عرقية طائفية. وغالبًا ما تكون القوى الإقليمية أطرافًا في النزاع، ولها مصالح راسخة في دعم بعض الأطراف المحلية على حساب أطراف أخرى.
هذه أسئلة صعبة، ولكن يجب طرحها لتجنب أخطاء الماضي في جهود حل النزاع في اليمن، والتي اكتفت في كثير من الأحيان بمعالجة أعراض الأزمة، مما جعل البلاد عرضة للصراعات المتكررة.
ستنتهي الحرب الأهلية في نهاية المطاف. ولكن إذا تم تفادي الانهيار التام لليمن في ذلك الحين، فينبغي علينا الامتناع عن تكرار نفس النمط متوقعين نتيجة مختلفة. ولإحلال سلام مستدام ومعه عملية عدالة انتقالية دائمة (بغض النظر عن الإطار المؤسسي المختار)، سيكون من الحكمة فهم ماضي اليمن، وتجنب إعادة بناء نفس المؤسسات والديناميكيات المسؤولة عن تلك الصراعات والمستفيدة منها. ومرة أخرى، فإن لهذا النهج دلالات وإسقاطات على النزاعات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
قد تبدو آخر ملاحظة لي بمثابة محض خيال. لكنها تدخل في صميم عدم الاستقرار المتكرر في اليمن. إن كسر الشراك الذي يبُقي اليمن في حالة صراع يتطلب دولة عادلة ومحايدة بطبيعتها. دولة تحترم كرامة وحقوق مواطنيها ومواطناتها. دولة تقف على مسافة واحدة من جميع من جميع اليمنيات واليمنيين بكل تنوعهم.
والأهم أن بناء هذه الدولة، ومعها السلام المستدام، مرهون بالإرادة اليمنية ذاتها. بإرادة أبناء وبنات اليمن. لا بالطرف الإقليمي أو الدولي الخارجي.
نحن من نصنع السلام، والوطن العادل. نحن لا أحد غيرنا.
وصنع السلام يتطلب التزام جميع أطراف النزاع الفاعلة بهذا السلام. اقتناعهم به. وهو أمر لا نراه اليوم على أرض الواقع.
فلا يمكن لأي قدر من الوساطة، أو التيسير، أو التدخل الدولي، أن يساعد اليمن، طالما أن هذا الالتزام من أطراف النزاع في اليمن بعيد المنال.
ليس غياب العنف هو ما أسعى إليه. إنه السلام الدائم. سلام مستدام.
لا أكثر، ولا أقل.