نعم نعم اعقلها وتوكل، ولكن لا تتواكل، خذ قرارك، لا تندفع غرورًا وغطرسة، خذ بالأسباب كاملة التي توجب عليك الإقدام على عمل يخرج عن المألوف، تغادر من خلاله خانات الشك وعدم اليقين من كل يحيط آنيًا ومع الأيام ومستقبلًا من متغيرات وموازين قوى تتغير ومصالح تتضارب وأمزجة تطالها لحظات ضعف، لحظات أنانية، إغراءات من هنا وهناك، بخاصة إن كنت قررت التوكل مدركًا خطورة ومآلات قرارك مستقبلًا، ومتطلبات عدم الانتكاس، فلحظات إعادة صياغة واقع ما له ما له وعليه ما عليه.
اختيار القرارات المصيرية ليس مزحة ولا لعبة، إنها تركيبة من التحديات، وتملك عناصر القوة والثبات والقدرة على تحمل المصاعب والمشاق، إنها لحظة ولادة لعقلية فذة تدخل مغامرة لإعادة صياغة تاريخ شعب ووطن وأمه... الأمر أبعد من مجرد ربط ناقة على جذع شجرة صلبة، ثم نتكل على الباري.
هنا نتحدث كمدخل لما هو تالٍ... هنا نتحدث عن العقلية الفلسطينية الفذة مقاومة وشعبًا، بعد أن اختبر التاريخ والآمال والوعود، ودفع ما دفع من أثمان، حان وقت إعادة تركيب حروف وعناصر المعادلة، معادلة من طراز جديد، فكانت معجزة طوفان الأقصى إعجازًا أسقط في يد العدو الصهيوني، إذ رأى طوفانًا فلسطينيًا من طراز جديد، كان ترجمة للمعنى الأعمق... اعقلها وتوكل، ولكن لا تتواكل، خذ بعمق وعقل واعٍ مستوعب ماهية ما أنت مقدم عليه... أنت في جحيم معركة تستطيع أن تغير فيها المعادلات لأنك تمكنت من الغوص في جوهر التحدي والأسباب المحيطة والمتوقعة، توكلك كان للتاريخ الحديث مفاجأة، غزة صارت حديث الكون، أيقظت ضميرًا إنسانيًا تم اعتقاله داخل جيتوهات هولوكوست انتهى مفعوله، والمعركة ماتزال سائرة في الميدان، نعم الكلفة باهظة، لكن الأرض الوطن المستقبل لم يطر في الهواء عبثًا، لم يصر مخيمات لجوء وتهجير وتشريد، بل بات تحديًا عنوانه نكون أو لا نكون.. وسقوط مشروع صهينة المنطقة عبر مشاريع التطبيع قد أصيب بنكسة، انتكس ولن تمر أضاببره كما أراد وخطط لها المسوق الكاهن الصهيوني كوشنير المتاجر عراب آخر الأزمان بحرمة الأوطان.
إننا على ثقة بأن من عقلها وتوكل... حين صاغ معادلات التحدي والصمود، قد حقق المستحيل، وبات الكون كله حتى مع خذلان مراكزه الصماء، بخاصة العربية الإسلامية منها، قد تحركت خارج جسده.. تحركت قوى وتيارات وشعوب تطالب بحق فلسطين كيانًا ودولة واستقلالًا، ولا بديل عن ذلك. تلك كانت المعجزة، وخيرًا فعل من عقلها وتوكل... وأطلق شرارة طوفان الأقصى يوم السابع من أكتوبر 2023، ولها نرفع التحايا والقبعات.
نأتي إلى ما بات يشكل هاجسًا ويثير قلقًا، فإن كان واجب التناقض مع العدو الصهيوني يتطلب من كل القوى الحية في بلادنا العربية شعوبًا وقوى سياسية وثقافية، اعتبار التناقض الأساسي مايزال مع دولة الكيان الصهيوني بكل ما يمثله من تحديات كانت ولاتزال، ومتطلبات المواجهة تتطلب تجيير كل القوى والجهود نحو هذا التوجه والمعنى، وأن تتكامل معه أي مشاريع ذات أبعاد استراتيجية مع استمرار مواجهة هذا التحدي الصهيوني.
هنا نشير إلى طوفان آخر طفا على سطح واقع المنطقة، وبدأت رياحه تهب من أرض أم المعارك، أرض مصر غالية علينا جميعًا، الأرض التي حطمت بصمودها خط بارليف ببسالة وعبقرية جندها وبسالة أرضها وشعبها، وهما من أكثر الشعوب رفضًا للتطبيع تحت أي مسمى من كل حدب وصوب أتى، ومن خلال أية زاوية يحاول العدو الصهيوني التسلل لأرض مصر، لكن شعب المحروسة بالمرصاد.
إذن، ما الذي جرى، مع تصاعد حديث عن انبثاق مركز للتكوين شهدته عاصمة المعز، وفي أحد أكبر معالمها معنى وأثرًا، حين احتضن هذا المركز -أي المتحف المصري- مؤخرًا مؤتمرًا سمي بالاجتماع التأسيسي لمركز التكوين كمركز للإبداع والتنوير وإعادة جواهر إعمال العقل بعيدًا عن السجن داخل تابوت المحرمات خوفًا من سقوط الثوابت، فقامت القيامة تطالب بإغلاق المركز قبل استفحال شره وضرره، كما تحركت أقلام وبعض الألسن تذم هذا المكون الجديد بإشارات يتطاير معها الشرر تحت إثم وإشارة ما بها وحولها لغط كبير رافقت تكوينه وتأسيسه، مشيرة تلك الأصوات إلى أن مركز التكوين هذا إنما يروج لمفهوم نوع جديد من سفر التكوين حين اتخذه شعارًا لبدء أعماله، وإذا ببعض ذوي العاهات يرمونه بالخروج عن الثوابت، بل وتكفيره لأن توجهاته تنحو نحو دعم مناخات التطبيع عبر تشجيع مبدأ الحوار مع المختلف في الشكل، وليس في المضمون والجوهر، في إشارة لتبني المركز لمفهوم التطبيع مع الكيان، وهو ما نحرص على أن يبادر المركز لدحضه، إذ لا مجال لأي حوار تحت أي مسمى معه.
شخوص عدة ذات اتجاهات معادية لإعمال العقل، توالى علو وغلو صوتها يتردد على منصات الإعلام والسوشيال ميديا، وأخرى من أقوال ما أنزل الله بها من سلطان.
هذه الأصوات التي تحدثت عمدًا وبجرأة، وادعت أن بعضًا من رواد وقادة المركز الأسماء اللامعة كالدكتور يوسف زيدان وغيره، يجاهرون بمواقفهم وآرائهم التي تتلبس أثوابًا بها عورات تنضح عداءً واستعداء لثوابت الأمة، دون دليل قاطع، مجرد اتهامات، ودونما اطلاع بينات يمكن البناء عليها، ولكن حكمًا على سوابق ومواقف قد أكل الدهر منها وشرب، وكالوا تهمًا لم يستثنوا أحدًا... فها هي فاطمة الناعوت من موقع ثقة وقوة تتصدى تقارعهم الحجة بالحجة، كم قد قالوا عن د. يوسف زيدان أشياء يشيب لها رأس طفل رضيع، ولمَ لا وهو -حسب قولهم- قد شكك بالنص القرآني الكريم: "سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله..."، وحسب قولهم فقد قال إن المسجد الأقصى المقصود بالآية الكريمة ليس المسجد الأقصى بالقدس، وانما مسجد يقع على مقربة أميال من مكة... تلك أمور تسوى بالتحقيق والتدقيق ويقين مما قال، خاصة وقد أثاروا أن حكومة العدو شكرته على حل هذا الإشكال التاريخي... لم يتركوا أحدًا، إبراهيم عيسى صاحب مولانا، وإسلام بحيري مدانان سلفًا، لأن جمهرة من حفظة النصوص خالفوهما، ود. حامد أبو زيد مفكرًا... جرموه مبكرًا، وحالوا بينه وبين زوجته، وهو الذي أثرى مكتبة الفكر العربي الإسلامي بجواهر ناقدة مضيفة إلى من سبقوه من أعلام كبار كعلي عبدالرازق، قبله الشيخ محمد عبده، وجهود علماء قرطبة، ولا ننسى إسهامات دكتور رفعت السعيد، وكذلك إسهامات حسين مروة وكثيرين ممن تناولوا ونقدوا بعلم ودراسة ودراية الثابت والمتحول في تراثنا.
هناك معضلة أخرى يتداولونها بحرص، مشيرين إلى أن هؤلاء إنما يسعون لبث قيم العلمانية كظاهرة معادية للدين، مؤكدين أن الدعوة لإعمال العقل في فهم النص وفق تطور الواقع والزمان خروج عن الثوابت... ألم أقل لكم إنها معركة طوفان من آخر أخطأت العنوان والسبيل.
لذا نقول إن من يحاول اختلاق طوفان آخر خلافًا لمفهوم طوفان الأقصى، إنما يعتبر ممن يحرفون الكلم عن مواضعها... وإن كانت هناك سلبيات رافقت قيام فكرة تأسيس مركز تكوين المشار إليه، لا يكون بالتكفير وبإلقاء التهم جزافًا بأن ثلة المؤسسين ثلة ممن يبحرون في مياه آسنة هدفها معاداة الإسلام وضرب ثوابت الأمة.
لذا نقول إن كان الأمر كذلك، فما أبقينا باليد كي ندافع وندفع قدمًا مع إعجاز طوفان الأقصى، ونحن نشهد بزوغ فجر جديد لم تحققه من أجيال دعوات من يكتفي بكيل التهم وتكفير الآخرين وإلغاء العقل وإعماله لحسن الاختيار، وهو يقرر فاصلًا تاريخيًا كان عنوانه بحق: اعقلها وتوكل، بعد أن تأخذ كل شيء في الحسبان منعًا للمفاجآت ولما هو أسوأ.
اعقلها.. وتوكل
2024-05-12