الزندانية: خلافة وتشدد وإرهاب
لم يكن الزندانيون عمومًا طلاب خلافة عربية، لأنهم لايزالون يرون حتى اليوم في العروبة عصبية مقيتة معادية للدين، أما الحرية والوطن والاستقلال فلم تكن من اهتماماتهم، وقد غابوا عن أي نضال يتصل بها، وظلوا يتحسرون على زوال دولة الخلافة العثمانية التي حانت وفاتها الطبيعية عام 1924 كأية إمبراطورية تشيخ، بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى. يتهم الزندانيون مصطفى كمال أتاتورك بتدمير الخلافة، وهي التي كانت آيلة للسقوط التلقائي منذ أن سميت بالرجل المريض قبل انهيارها بعدة عقود. أتاتورك وطنيًا هو مؤسس تركيا الحديثة وموحدها وباني نهضتها ودولتها العلمانية ومنقذها من استعمار غربي كان وشيكًا، ومن أطماع يونانية توسعية كانت مدعومة من فرنسا وبريطانيا استهدفت تفكيك تركيا عقب تلك الحرب. قاتل أتاتورك ليحافظ على وحدة تراب وطنه واستقلاله، ولنا أن نتصور مذلة دولة كانت إمبراطورية عظمى ثم تتحول إلى مستعمرة ومقسمة.
وعندما بدت نذر الحرب العالمية الثانية كانت تركيا هي الدولة المستقلة الحقيقية في منطقة الشرق الأوسط بقوة عسكرية ذات قيمة، ومع هذا آثرت الحياد في الحرب مستفيدة من تجربتها في الأولى التي هزمت فيها هي وحليفتها الرئيسية ألمانيا. برغم هذه الحقائق فإن للزندانيين يمنيين وغير يمنيين تاريخًا مُتخيّلًا لتركيا العثمانية ولأتاتورك حد الزعم باختلاق نسب يهودي له.
لايزال حلم استعادة الخلافة بقيادة عثمانية مهوى أفئدة وقلوب وعقول الزندانيين، وليس الشعوب التركية صاحبة الكلمة والمصلحة الأولى فيها. يقيم حاليًا في تركيا العلمانية عدد من الزندانيين اليمنيين بفضل أتاتورك، ويؤمل أن يتعلموا من النظام العلماني التركي الذي يقوده حزب علماني غير شقيق، يعزز الاعتقاد بأن العلمانية ليست ضد الدين، وأن يحاولوا جادين دراسة التجربة التركية منذ أتاتورك وحتى أردوغان، لتصحيح فهمهم ومفاهيمهم وثقافتهم عن العلمانية وتاريخ تركيا، ويقبلوا الأخير كما كتبه الأتراك وليس كما يتخيله الإخوان، ويصفحوا عن بعض ممارسات أتاتورك المتطرفة التي تلازم أية تجربة ونظام شاب. وفي هذا الصدد عليهم النظر إلى بداياتهم. والأهم ألا يعودوا إلى اليمن كما خرجوا منها، وأن يراجعوا مجمل عقيدتهم السياسية بعد معايشتهم للتجربة العلمانية التركية. إن العلمانية ليست إلحادًا، وهي لازمة للتطور والديمقراطية والتعايش واحترام الدين وقبول التنوع الديني والمذهبي واحترام الآخر ومساواة المرأة بالرجل وتهذيب الثقافة الذكورية وقبول حكم القانون والتعددية الحزبية والمواطنة المتساوية واحترام حقوق الإنسان. وهم أولًا وأخيرًا ليسوا أوصياء على الدين وعلى الناس.
إن معاداة الزندانيين للعلمانية المغلف بالدين مستمرة، لأنها تحبط مشروعهم للسلطة، وتحرمهم من إقامة دولة دينية يهيمن عليها جناحا "أهل الحل والعقد" من مشايخ الدين ومشايخ السياسة.
كان الزبيري في روايته "واق الواق" هو المبشر بحكم أهل الحل والعقد في اليمن، وقد ثابر على وضع مداميكه بعد عودته إلى صنعاء عام 1962 وحتى استشهاده عام 1965.
والزبيري هو الذي استقطب تلميذيه الزنداني وعبده المخلافي في القاهرة إلى تنظيم الإخوان في ظل صراعهم مع نظام ثورة يوليو الذي آوى الزبيري وأكرمه لعقد من الزمن، ولم يلقَ منه سوى جزاء سِنمّار.
إن دعوة الزندانيين إلى نبش قبر خلافة قامت بحد السيف، وارتوت بالدماء في مصر وسوريا واليمن ولبنان، توفر لهم مبرر استخدام نفس السيف ضد مناوئيهم. وبعد عقود لايزالون يحتقرون إرادة ومصالح الشعب التركي المعني بها قبل غيره، والذي يرى في غالبيته أنها ماضٍ وليست حاضرًا أو مستقبلًا.
وفي اليمن صمت الكل، ولم يقاوم أحد دعوة الخلافة التي لا تقل خطرًا عن الدعوة إلى عودة الملكية، وتعتبر ردة عن الجمهورية، لأن الأخيرة والخلافة نظامان سياسيان متباينان. إن دعوة الزندانيين للخلافة رفض صريح للجمهورية ولاستقلال اليمن، وازدراء لنضالات اليمنيين والتشكيك بقدرتهم على حكم أنفسهم بأنفسهم.
الإرهاب
لقد ظلت تهمة الإرهاب تطارد الزنداني حتى وفاته، وحرمته من السفر خارج اليمن. كان أكبر محامٍ ومدافع عنه هو الرئيس الراحل ع.ع. صالح. وبسبب دعم صالح وحمايته لم يحاول تبرئة نفسه من التهمة عن طريق العدالة اليمنية أو الدولية. وللزنداني سابقة في الإفلات من العدالة غداة اغتيال ضيفته المختطفة الشابة لينا مصطفى عبدالخالق في بيته بمسدس ابنته "الداعية" والشيخة بحسب الرواية السائدة. إن سيرته تعزز المزاعم بأنه مارس ورعى الإرهاب المحلي وفي أفغانستان، ومول اغتيالات في اليمن، وهو مع الشيخ الأحمر وصالح من آووا وجندوا ومولوا الأفغان العرب، ووفروا لهم معسكرات تدريب في اليمن لقتل يمنيين في حرب صالح -الإصلاح عام 1994 لوأد الوحدة وتجربة الحزب الاشتراكي. ويرتبط بالإرهاب وجهه الثاني، وهو ثقافة التشدد التي زرع الزندانيون بذورها السامة، لكي تعود اليمن والمنطقة العربية إلى ماضٍ ولّى ويستحيل استنساخه.
عبر محمود درويش عن نتائج عبادة الماضي بقوله: "لا غد لنا في هذه الصحراء إلا ما رأينا بالأمس". الأمس تاريخ وللعبرة، وليس كله صالحًا لا لليوم ولا للغد. واتصالًا بذلك لم يكن الزنداني متسامحًا في حياته مهما قيل غير ذلك، وهو الذي أصر وبقوة على أن يُسْلِم السيد فيكتور هندرسون، سفير بريطانيا في اليمن، بعد أن أسلمت زوجته التي رأى أنه لا يجب شرعًا أن تواصل العيش معه كـ"كافر". لم يتراجع الزنداني عن موقفه إلا نزولًا عند وساطة شيخ من "أهل الحل والعقد". أما السفير فقد قال بأن الزنداني لم يقدر له تسامحه لعدم اعتراضه على إسلام زوجته وصبره عليها وهي توقظه من منامه كل فجر لأدائها الصلاة. الزنداني في طفولته إذا صح أنه من مواليد 1 يناير 1942، كان متسامحًا حتى مع من قضى على انقلاب 1948 الذي فكر به وخطط له رفاقه في مصر بقيادة حسن البنا والجزائري الفُضَيل الورتلاني. أشاد الزنداني بتسامح الإمام أحمد حميد الدين عام 1953 وعمره إحدى عشرة سنة وأسبوعان، في قصيدة مدح تقول أبياتها الثلاثة الأولى:
زهت الكائنات في يوم عيد النصر يوم القريض والتغريدِ
هو يوم انتصار خير مليك في الورى خير مبدئ ومعيدِ
ملك الشعب بالسماحة والبر وبالعمل والتقوى وعِظمِ الجودِ
وجود الإمام كان بيت القصيد للقصيدة. الزبيري نظم قبل الزنداني قصيدة جاء في بيت منها:
ما ضرهم وهم من هاشم
لو أنهم كابن السعود كرامُ
الزنداني في ما بعد قطع علاقته بالتسامح ليفرض نفسه كوصي على الدين والدنيا، مقتديًا بنهج الزبيري في توظيف القبيلة سياسيًا ضد الدولة المركزية، الذي عبر عنه في رسالتين إلى الشيخين الأحمر وأبو لحوم (تراجع مذكراتهما). إن رهان الزنداني على القبيلة الشمالية وإيمانه بالعصبية الحركية جعله يفضل الانتماء إلى عترتها، رامياً وراء ظهره قرية "الظهبي" في الشَّعِر التي ولد فيها، وفضل عليها أرحب حيث العصبية أقوى شكيمة، وهي ما تحتاجه حركة الإخوان.
الخروج على ولي الأمر
في عام 1975 رفض الزنداني تعيينه بدرجة وزير لرئاسة مكتب للتوجيه والإرشاد العام من مهامه بحسب نص القرار "توعية المواطنين بمبادئ الدين الإسلامي ونشر أحكامه وأخلاقياته لكي يكون سلاحًا مانعًا من تفشي أي أفكار مستوردة تتعارض في جوهرها مع الدين والتقاليد والعادات، ويمارس المكتب نشاطاته بالتنسيق مع كافة الأجهزة في الحكومة والقوات المسلحة والأمن. يقول المهندس محمد عمر عوض في كتابه "القائد الأسطورة الشهيد إبراهيم الحمدي"، إن الحمدي بقراره هذا بلغ ذروة تدليله للإخوان المسلمين. ورغم ذلك كان الزنداني أول سلفي يرفض تنفيذ قرار ولي الأمر، رغم زعم الزندانيين بأنهم طوع أمره ولا يخرجون عليه.
برر الزنداني رفضه بأن الحمدي أراد شق الصف من خلال ضرب الرموز الفكرية التي يمثلها هو والتيارات التقليدية التي يقودها الشيخ الأحمر، وتحول الزنداني إلى عالم بالغيب بزعمه أن الحمدي أراد إبعاده عن الشيخ الأحمر كمرحلة أولى، ومن ثم استخدامه ضده في المرحلة الثانية، ووصف التعيين بـ"الغبش"، وأن خطة الحمدي في غاية من الدهاء أراد من خلالها أن يقصم ظهر العمود الفقري الحقيقي للحركة الإسلامية، القبيلة، و"الحركة الوطنية عمومًا"! وأراد، أي الحمدي، أن يصور الشيخ عبدالله بأنه إنسان قبلي جاهل وفوضوي يريد القبيلة ولا يريد المدنية والتقدم والتطور. إن رهان الزنداني وقبله الزبيري تمحور حول توظيف القبيلة التي آجلًا أو عاجلًا سيقلب الخلفاء الزندانيون لها ظهر المجن. في هذا الشأن لم نعلم عن الزنداني إشادة بالجمهورية وبالثورتين اليمنيتين، أو دعوة لإعادة توحيد اليمن، ولم يقل يومًا ما بأنه متمسك بمبادئهما.
ولم يسجل تاريخ الثورة أن شهيدًا من الزندانيين ضحى بحياته وهو يدافع عن الجمهورية أو شارك مع المقاومة الشعبية والجيش في هزيمة حصار صنعاء أو في ثورة 14 أكتوبر، وما نعلمه أن القاضي يحيى الفسيل (الإخواني) كان مع المحاصرين الملكيين، وأنه أفتى وهو في أحد الجبال المطلة على صنعاء بتكفير الزيدية. على الجانب الآخر نشط الزندانيون كثورة مضادة في حروب المناطق الوسطى وشرعب وغيرهما، وفي حرب عام 1994 ضد أهلهم في الجنوب وفي حروب صعدة.
د. مروان الغفوري ذكر في مقال له عن حزب الإصلاح وثورة سبتمبر، أن عبدالله أحمد العديني قال إن "الزبيري اكتشف حقيقة أن ثورة سبتمبر ثورة جاهلية (فكر سيد قطب. ملاحظة الكاتب)، فثار على الثورة الجاهلية، وانقلب عليها فقتلوه. يضيف أن الإخواني عبده سالم سلط الضوء على وقوف الإخوان ضد ثورة سبتمبر، واصطفافهم مع السعودية لإعادة النظام الملكي، ويقول ما يلي: "بعد قيام ثورة سبتمبر 1962، وإثر دخول القوات المصرية، كانت الحركة الإسلامية التي يمثلها حاليًا حزب الإصلاح، ضمن التحالف المناهض للسياسات الناصرية في اليمن، بدعم من جلالة الملك فيصل طيب الله ثراه".
القهر الاجتماعي الحديث زنداني النشأة
فرض الزندانيون على الناس سلوكهم، ملبسهم، ماذا ينبغي عليهم تعلمه. خلق كراهية للعلم والفلسفة، الحط من كرامة المرأة وتصويرها بأنها أس الانحلال ومصدر الخطايا، وإعفاء الرجل منها، نشر الثقافة الذكورية، وتصوير نساء اليمن كمواطنات غربيات يسرن في الشوارع "كاسيات عاريات"، وكلمتا كاسيات عاريات مستوردة، وهم الذين حاربوا "الفكر المستورد". هذه العبارة لم تسمع في اليمن إلا من أفواههم وميكرفونات جوامعهم التي اغتصبوا بعضها بالقوة، وحرض الزندانيون من يصلي في جوامعهم على عدم مشاهدة التلفزيون، وشنوا حملات على الأطباق اللاقطة للقنوات التلفزيونية الفضائية، لأن وظيفتها -في رأيهم- هي نشر الانحلال، وفي مساجدهم دعوا لإبادة الكفار عن بكرة أبيهم، وهم الذين تحتضنهم اليوم أكثر من عاصمة غربية ترفض تصنيفهم كإرهابيين.
تهمة الإرهاب
لم يكن اتهام الزنداني بالإرهاب بدون أساس، وبعد الحادثين الإرهابيين في 11/9 في أمريكا، برز اسمه في وسائل الإعلام الغربية كإرهابي ومحرض على الإرهاب وداعم للإرهابيين. وفي عام 2004 وضع مجلس الأمن في قراره رقم 1526 اسم الزنداني في قائمة الإرهاب الدولي رغم تحالفه مع أمريكا وحلفائها في تدمير أفغانستان التي كانت بلد تعايش وتسامح وتنمية واعتدال، وعمل على قبْيلتها وإعادتها إلى الحكم العصبوي حكم "أهل الحل والعقد". كان الزنداني يعي دور المخابرات الغربية "الكافرة" في أفغانستان الذي التحم مع أهدافها الأفغانية، وعندما حان الجد بعد التفجيرات الإرهابية في أمريكا عام 2001 لم يشفع له ماضيه، لأن المُشغِّل اعتبره أداة وظفت لمهمة محددة، وعندما تم الاستغناء عنه كان عليه التواري حتى يستدعى إلى خدمة أخرى. ولكن الزنداني بإيمانه الراسخ بأنه مبشر برسالة الهداية في مجتمع ضال لم يعر اهتمامًا لما اتهم به. ورغم طلبات أمريكا من الرئيس الراحل ع. ع. صالح تسليمه لها كي يلحق بضحاياه في سجن جوانتانامو بكوبا، فإن صالح قبض الثمن مقدمًا، ونجح في استخدامه هو وحزبه كورقة في صراعه ضد خصومه السياسيين، وعلى رأسهم الحزب الاشتراكي.
في 22 سبتمبر 2005، طلبت اليمن من مجلس الأمن وأمريكا رفع تهمة دعم الإرهاب عن الشيخ الزنداني رغم علم صالح ونظامه بتورط الزنداني فيه. أبو حمزة المصري المتهم بالإرهاب مثله قال عنه وعن صالح في 1 يونيو 1999، في حديث هاتفي مع جريدة "الشرق الأوسط"، بأن "الحكومة اليمنية فتحت معسكرات التدريب للأصوليين من داخل وخارج اليمن في المناطق المحيطة بعدن، ووعدت بإقامة دولة إسلامية تعمل بالقرآن والسنة بشرط مساعدتها ضد حكام عدن السابقين". وأضاف أبو حمزة أن "الشيخ الزنداني كان يشبه دورهم بالمجاهدين الأفغان ضد حكومة نجيب الله الشيوعي".
أما صالح فكان يرى الزنداني جزءًا لا يتجزأ من مشروعه لنظام "أهل الحل والعقد" عمود سلطته وبقيادته، وقد وفر له حماية شخصية ورسمية، وصحبه معه برًا لأداء فريضة الحج عن طريق صعدة في تحدٍّ واضح لواشنطن ورفض تسليمه لأمريكا لكيلا يخالف الدستور الذي ذبحه من الوريد إلى الوريد.
ليس بالجديد القول بأن الزندانيين كانوا، كما أعلن صالح، من أوراقه "كروته" وأدواته التي وظفها ضد قوى التغيير المتطلعة لبناء نظام جمهوري ديمقراطي حقيقي.