كل التقارير الوطنية والدولية تؤكد أن الحرب المدمرة في اليمن، والمستمرة لقرابة عقد من الزمن، أفرزت أزمة إنسانية هي الأسوأ في عالمنا المعاصر منذ نهاية الحرب الباردة، فوفقًا لتقارير مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية في اليمن "أوتشا"، فإن هناك حوالي 21.6 مليون شخص بحاجة للمساعدات الإنسانية وخدمات الحماية الاجتماعية،
وقرابة 4.5 مليون نازحين عن منازلهم وأملاكهم، إضافة إلى أن حوالي 17.6 مليون شخص يواجهون مشكلة انعدام الأمن الغذائي، وأن قرابة 2.4 مليون طفل يعانون من سوء التغذية والتقزم، بمعنى آخر فإن هناك حوالي 80% من سكان اليمن يصنفون أنهم فقراء ويعيشون تحت خط الفقر.
وفي دراسة شاملة عن اليمن صدرت حديثًا في نهاية عام 2023، أعدها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، بالشراكة مع جامعة أوكسفورد والبنك الدولي، تحت عنوان "قياس الفقر متعدد الأبعاد في اليمن"، تشير نتائج الدراسة إلى أن 82.7% من الأفراد في اليمن يعانون من الفقر متعدد الأبعاد، أي أن أكثر من ثمانية من كل عشرة أشخاص يعيشون في اليمن يعانون من فقر متعدد الأبعاد، ويشمل مؤشر الفقر متعدد الأبعاد على المستوى الوطني عددًا من الأبعاد والمؤشرات لرصد أوجه الحرمان التي يعاني منها الأفراد والأسر، ويتكون من ستة أبعاد هي: "التعليم والصحة وصحة الأم والطفل والخدمات ومستويات المعيشة والتوظيف"، إضافة إلى 17 مؤشرًا آخر، كما تبين الدراسة أن ظاهرة الفقر تنتشر أكثر في المناطق الريفية، وبنسبة تصل إلى 89.4% من الأفراد والأسر، بينما في المناطق الحضرية تبلغ 68.9%.
إن هذه الأرقام والمؤشرات تجسد حجم الكارثة الإنسانية التي سببتها الحرب العبثية خلال السنوات العشر الماضية، وتكفي أن تكون جرس إنذار خطير لكل من سلطتي صنعاء وعدن لإيقاظ ضمائرهم والعمل وفق أمانة المسؤولية الملقاة على عاتقهم في إنقاذ البلاد من هذه الكارثة التي تسببوا فيها عبر الممارسات الممنهجة لتوسيع دائرة الفقر بين السكان في كل من الحضر والريف، فسلطة عدن انتهجت سياسات اقتصادية متهورة أدت إلى التدهور الحاد في سعر صرف الريال والارتفاع الجنوني في أسعار السلع الاستهلاكية، مما فاقم من سوء مستوى المعيشة وانتشار مظاهر الفقر بين غالبية السكان.
وبالمقابل، فإن سلطة صنعاء اتبعت أساليب ممنهجة لتعميق حالة الفقر في مناطقها، وتجلى ذلك في عدد من السياسات المجحفة، منها: عدم الالتزام بدفع مرتبات مئات الآلاف من الموظفين العاملين في أجهزة الدولة، مما وضع معظمهم في دائرة الفقر، رغم تضخم الجبايات من الضرائب والجمارك والزكاة ولا أحد يعرف مصيرها، إضافة إلى توتير العلاقات مع المنظمات الدولية العاملة في مجال الإغاثة الإنسانية، مما دفع بعضها إلى تقليص أنشطتها، والبعض إلى إغلاق مكاتبها، والبعض الآخر جمدت أنشطتها، برنامج الغذاء العالمي مثالًا، مسببة فقدان الملايين من المحتاجين للمساعدات الغذائية التي كانوا يحصلون عليها، والزج بهم في أتون الفقر والفاقة. فضلًا عن الحظر الممنهج والمفروض على القطاع الخاص من توزيع الصدقات على الفقراء والمحتاجين، وبخاصة في شهر رمضان المبارك، مؤديًا إلى حرمان مئات الآلاف من المحتاجين وتعميق معاناة الفقراء والضعفاء.
وللأسف، فكلا السلطتين، استمرأتا استخدام الاقتصاد مجالًا وأداة للصراع في مجالات عدة أهمها: الصراع النقدي والمصرفي، وشل حركة تنقل البضائع، وإغلاق الطرقات وتقييد حركة البشر ، ومحاربة البنوك الشرعية على حساب توسيع نطاق شركات ومنشآت الصرافة التي أصبحت مجالًا لغسيل الأموال والمضاربة في العملة، وتركز السيولة المحلية فيها بدلًا عن البنوك، وكل ذلك أضاف أعباء مرهقة على حياة الناس ومعيشتهم.
وإجمالًا، فإن الحرب وعواصفها والسلطات وتخرصاتها قد جلبت للبلاد والعباد عاصفة جامحة من الفقر والحرمان طالت أربعة أخماس سكان اليمن، وهي أقوى من كل العواصف، من حزم وأمل وغيرها. وإذا طفح الكيل فقد تكون عواقبها مدمرة للكراسي والعروش، ومن المؤسف أن كلًا من سلطتي صنعاء وعدن تتعامل مع انتشار ظاهرة الفقر معاملة النعامة في دس رأسها في أبراج عاجية، منفصلة عن الواقع المعاش، بل إن البعض يصرح وهو منتفخ الأوداج ومتضخم الكرش، أن مظاهر الفقر مؤامرة من كيد الأعداء، هزلت ورب الكعبة...
إلى سلطتي صنعاء وعدن: عاصفة الفقر أقوى من كل العواصف
2024-04-06