ردود الفعل تجاه الجريمة التي ارتُكبت بحق المواطنين في مدينة رداع، كادت تُجمع على إدانتها، مع تباين في حدة الإدانة وفي طريقة التناول.
وسوف نتخذ من الموقف الذي عبرت عنه جماعة نداء السلام في بيانها الصادر في اليوم التالي لوقوع هذه الجريمة، مدخلًا لمحاولة فهم ظاهرة تهديم بيوت الخصوم، انتقامًا من شخص ما، يُصنف على أنه شخص معادٍ، وانتقامًا بالتبعية من أسرته بكاملها، التي تعاقب بحرمانها من سكنها وتركها في العراء، في مخالفة صريحة للتوجيه القرآني "ولا تزر وازرة وزر أخرى".
فقد طالبت جماعة نداء السلام السلطة في صنعاء، كما ورد في البيان، "بوضع حد لمثل هذه الممارسات الشائنة، وإصدار تعليماتها الواضحة بتحريم تفجير مساكن المواطنين في أي مكان، ومهما كانت الأسباب، حفظًا لدماء وأرواح اليمنيين وكرامتهم وممتلكاتهم وحقوقهم الإنسانية".
فما الذي يدفع طرفًا من أطراف الصراع إلى تفجير بيوت خصومه، فيوقع بذلك عقابًا جماعيًا على الأشخاص المقصودين وعلى أفراد أسرهم أيضًا، في مخالفة صريحة للتوجيه القرآني كما أشرنا، وللقيم الإنسانية؟
إنني أدرك أن الإجابة على هذا السؤال تحتاج إلى بحوث معمقة، تلم بالعوامل التاريخية والثقافية والاجتماعية والنفسية الكامنة وراء هذا الفعل والأفعال المماثلة، التي تكررت ممارستها في الحاضر الذي نعيشه، وفي الماضي أيضًا. ومع ذلك فسأحاول أن أشير، مجرد إشارة سريعة، بقدر ما يسمح به مقال قصير، إلى ما يمكن أن يكون أهم عامل من العوامل الكامنة وراء هدم بيوت الخصوم، وهو العامل الثقافي، الذي يتحكم بخصوماتنا، ويوجه سلوكنا دون أن ندرك، ويطبعها بطابع حدي يبلغ درجة التطرف، الذي يخرجنا عن حالة التوازن والاعتدال، ويحول دون إعمال العقل ومراعاة القيم الدينية والأعراف والتقاليد الاجتماعية.
لقد لاحظنا مدى تأثير العامل الثقافي في تفكيرنا وسلوكنا، وعشنا تجلياته المؤسفة، سواءً أثناء الحرب التي فُرضت علينا، أو في التعامل مع الشأن العام، أو في إدارة أجهزة ومؤسسات السلطات المتعددة في المناطق اليمنية المختلفة، أو في الكتابات التي تخندقت هنا وهناك، مع أو ضد، وبشكل مطلق وحاد، وغلَبت على بعضها صفات التراشق اللفظي والمماحكات والعناد والتعصب والنظرة الأحادية، التي لا تقبل أي وجهة نظر مخالفة، أو حتى وجهة نظر أقل حدة، ولو لم تكن مخالفة. كل هذا بفعل العامل الثقافي، الذي يولد شحنًا طائفيًا مناطقيًا عشائريًا فجًّا، يستدعي شحنًا مضادًا، بطبيعة الحال.
فالثقافة التي سادت لدينا في الماضي ومازالت تسود في الحاضر، هي ثقافة النزوع إلى امتلاك السلطة بقوة السلاح والغلبة، والانفراد بها، واستبعاد الآخرين منها. وهي ثقافة قديمة سادت في كل المجتمعات البشرية، وعُززت لدينا في اليمن خلال السنوات الماضية، بدعاوى طائفية وسلالية ومناطقية، عرفها مجتمعنا اليمني من قبل، ولكن ليس بهذه الصورة الفجة التي نراها اليوم.
وهذه الدعاوى، رغم اختلافها، يجمعها هدف عام، هو إثبات التميز والخصوصية، كذرائع للوصول إلى السلطة والاستئثار بها، أو استنبات سلطات ولو في مساحات محدودة من الجغرافيا اليمنية، تتيح للنخب المتصدرة لها، أي لهذه الدعاوى، يتيح لها أن تحقق نزوعها إلى امتلاك السلطة وممارستها بأي صورة من الصور، وفي الغالب دون الاكتراث بمصالح المواطنين ودون الاهتمام بمتطلبات حياتهم الضرورية.
هذه الثقافة، المتضمنة تسويغ السعي إلى امتلاك السلطة، ولا أقول الوصول إلى السلطة، الذي يمكن أن يصبح متاحًا عبر الآليات الديمقراطية إذا احتكمنا إليها، هذه الثقافة تخلق حالة من التوترات الداخلية، التي تؤدي غالبًا إلى الاقتتال، وما يتولد عنه من فرز واصطفافات وتصنيفات واستهانة بدماء الخصوم وأرواحهم وأموالهم وتدمير مقومات حياتهم، بما في ذلك بيوتهم التي تؤوي أسرهم. وعلى هذا النحو، وبتحفيز لا شعوري من هذه الثقافة، تغدو ظاهرة هدم البيوت فعلًا مشروعًا في نظر البعض، وضرورة من ضرورات الصراع، وعاملًا من عوامل الحسم.
فالممارسات المستنكرة وغير المقبولة، التي تسندها دعاوى تسوغ وتعزز النزوع إلى امتلاك السلطة والاستئثار بها، وتصنيف المخالف في خانة العدو، الذي يجب استئصاله، أو إضعافه في الحد الأدنى، وجعله غير قادر على المنافسة، هي ممارسات يكمن وراءها العامل الثقافي بالدرجة الأولى.
فما نشاهده اليوم من تصرفات صادمة، إنما هي تجليات للثقافة السائدة، قبل أن تكون مجرد مقتضيات سياسية وعسكرية وأمنية عابرة. وتأتي في هذا السياق ظاهرة هدم بيوت الخصوم، وهي ظاهرة ليست جديدة، فقد مورست في الماضي، وتمارس في الحاضر، وستمارس في المستقبل، إذا لم نعمل على وضع حد لها، ونمنع استمرارها. وذلك من خلال بذل الجهود الجماعية لنشر ثقافة وطنية دينية إنسانية سليمة، تعززها تشريعات قانونية، تحرم وتجرم هدم البيوت ونهب ممتلكات الآخرين، وما يماثلها من أعمال إجرامية.
وأخلص من محاولة الفهم هذه، إلى أن الجريمة التي حدثت في مدينة رداع لا يمكن النظر إليها على أنها مجرد فعل فردي، حتى وإن بدت كذلك. فالفعل الفردي لا يمكن أن يحدث بهذه الصورة، إذا لم تحركه ثقافة غير سليمة، تسوغه وتزينه في نظر مرتكبه، وتدفعه إلى ارتكابه. وهي ثقافة ضارة، يتوجب علينا جميعًا أن نعمل على استبدالها بثقافة أخرى، يحكمها العقل، وتُبنى على مبادئ الحق والعدل، وتؤكد على المسؤولية الفردية، بمعنى محاسبة الفاعل وحده لا أسرته، وبما يتناسب مع حجم الفعل، لا يتجاوزه، وفي إطار القضاء، لا يخرج عنه ولا يتجاهله. وعلى هذا النحو لا تُترك الأمور للاجتهادات الشخصية، وللأمزجة الفردية، التي تميل إلى الارتجال، وإلى توقيع عقوبات فورية، هي أقرب إلى الانتقام الشخصي، وأبعد ما تكون عن المحاكمات القضائية العادلة، بل أبعد ما تكون حتى عن المحاكمات الميدانية، المعمول بها في ظروف استثنائية جدًا خلال الحروب. فالمحاكمات الميدانية النادرة الحدوث، لا تتضمن على أي حال، رغم استثنائيتها، عقوبة هدم بيوت المعاقَبين.
هذه مجرد محاولة للفهم تنطوي على أفكار، لا أظنها قابلة للتحقق في حالتنا الذهنية الراهنة، قبل أن نغير ما بأنفسنا، ونضبط خلافاتنا وصراعاتنا بضوابط العقل والقيم الأخلاقية، وبمعايير المصالح الوطنية العليا، ونتنبه إلى خطورة الثقافات المشوَّهة التي تؤثر في إدراكنا، وتوجه سلوكنا، وتزين لنا أخطاءنا، وتحجب عنا حقائق الواقع، وتصرفنا عن الالتفات إلى المخاطر الكبرى المحيطة بنا وبشعبنا، المهددة لوجودنا جميعًا دون استثناء. فلا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
محاولة للفهم
2024-03-25