نصفُ عامٍ كان يكفيني ويزيد لأُدرك أن إصابات العقل لن تُشفى للأبد، تبقى متواترة كوحيٍ مُربك مضطرب لا تفسره، لا تفهمه، ولا تجرؤ على ذلك. تلك الإصابات عالقة معك، ملتصقة بك مهما فارقت قسوة الذكريات قلبك المثخن بها.
لكن خلاياك العصبية ما إن تتضرر فأنت تذهب فورًا على متنِ قطارٍ سريعٍ دون عودة على متنِ رحلةٍ دائمةٍ مدفوعةِ التكاليف نحو أماكن فانتازية، ستشاهد فيها مخلوقات غرائبية وبشرًا أغرب. تلك الهلاوس المؤلمة ستمنحك دون مقابل شخوص روايات عديدة لن يكفيك عمرك المتبقي لتكتبها. تحتاج لحيوات متصلة بحياتك هذه، أو تحتاج لشجاعة البوح بها لكُتّاب آخرين ليسردوها عوضًا عنك في حيواتهم الزاهية. لست على ثقةٍ تامة ببراعة سردهم لها، فشخوص رواياتك لا تُزهر بالضوء، لكنك لا تملك خيارات أخرى.
- ما هذا الغباء الروائي؟ هل كان ضروريًا أن تموت البطلة في فصلها الأول؟
- نعم، بل كانت ضرورة أدبية ملحة، فخيالها كروحها كجسدها جامحٌ وهستيري جدًا. لم يكن إلا أن تفعل ذلك بنفسها قبل أن يواجهها الموت بوجههِ البشع وأنيابه المباغتة في باقي فصول الرواية.
لتلك البطلة كبرياء مقاتل الساموراي، فقبل أن يقع في قبضة الأعداء ها هو يطوي حياته على نحوٍ شجاع جدًا. عليهم فقط أن يجدوا جسده ميتًا، لا روحه المفعمة بالحرية.
تبدو الحرية مغرية جدًا في اتخاذ قراراتك الخاصة بنفسك، ليس فقط تلك المؤلمة منها، بل والقاتلة على حدٍّ سواء. ما هذه الدراما المخيفة! لماذا تصرخ البطلة على نحوٍ هستيري بطريقة مونك بعينين غائرتين وكفين ملتصقتين بوجه مخيف يشبه الجمجمة بفمٍ مفتوحٍ على مصراعيه، قبل أن تُشعل عود الثقاب وتحترق، وبينما تقضمها النيران تلوذُ بالصمت حين تتداعى تباعًا، وتتساقط أجزاؤها دون أيّة صرخة ألم.
أنت تعلم أنني لا أقوى على التطاول على قوانين الخلق ودورة الحياة، لا أجرؤ على ذلك. أقوم بعمليات قتلي الممنهجة أو الانتحار المخطط له ضمن أقلية محدودة جدًا من بين شخوص الرواية، وعلى مسرح جريمة محدود المساحة ممتد بين عشرة فصول وستمائة صفحة فقط. أنا أقبل الموت بين طياتِ الورق من أجل أن تنتصر فكرة الحياة في عقول القرّاء.
أثرثرُ لهم كلمات تُمليها عليّ الأشباح، وهي ليست عابثة بدورها، تهمسُ لي بكلماتٍ متراصة متماسكة تفتح في عقول من يقرأها أبوابًا مشرعةً للألم، فتحرّر القلب من سذاجته وكل سمات البلاهة الطافحة عليه.
بطلةُ الرواية عاشت حياة شاقة جدًا وهي ترغب بشكلٍ جادٍ أن تختصر كل طرق الحياة، وتُعبدها لأرواحٍ معذبة أخرى. قد يجدون في تلك الكلمات ملاذًا وملجأ. وقد يستخدمون حيلهم الذكية في التطاول الشجاع على الحياة. ليس قتلًا بالضرورة، دعكم من خيالي الدامي الدرامي الذي يقتلني دومًا، بل عليكم أن تمزقوا أحشاء الحياة. ولا تصدقوا إيمانكم الفجّ بالرضوخ والاستسلام حد اليقين، بل عليكم أن تمارسوا ضده بعض الكفر الحلو والتمرد اللذيذ من وقتٍ لآخر، علينا جميعًا ألا نكون أوفياء كفاية إلا لفكرة سخريتنا المستمرة من هذه الحياة.
أرغب بنفس الصرخة المونكية كبطلتي تمامًا، أتوق لها، أتحرق شوقًا لجراءة تأديتها دون أي مخاوف أو قيود مهما كانت. صرخة ساخطة على كل شيء، وبأعلى الصوت، ولكن على النقيض تمامًا.
صرخة للحياة، لا الموت. لن تذوي بعدها أو تتداعى. صرخة لإيقاظ الضمير الذي مات طويلًا، صرخة حسرة وندم واكتشاف أخير للذات المتعبة في توهجها المؤلم وهي تذوي تمامًا قبل انطفائها الأخير، لكنها لا تنطفئ. صرخة الحياة هذه قد تأخذ أشكالًا ومواقف مختلفة، لن يطلق أحدكم العنان لتخيلها ما لم يكن قد خاض موتًا مماثلًا وقريبًا جدًا، أو لديه من الهلاوس ما تكفيه لتُشعل فيه رغبةً جامحةً للحياة بعد أن لوّح لها مودعًا وبابتسامة ساخرة جدًا قبل ثوانٍ فقط. صرخة مونك تشحذك بالوحدة، بالعزلة والخذلان، فالعالم قد تركك على نفس الجسر، ولوح لك مودعًا. أنت تقف وحدك مواجهًا قلقك الوجودي، فزعك، كآبتك، رعبك، هلاوسك، وكل الصرخات المتتابعة التي تسمعها في أعماقك وحدك دون سواك.
نفس الصرخة التشكيلية تُذكرك بصرخة أخرى شهيرة، لكنها سينمائية. وهي التي أطلقها مايكل كوروليوني (آل باتشينو) في المشهد الأخير من الثلاثية الساحرة "العرّاب". الصرخة الأطول على الإطلاق، الأكثر صدقًا، والأعمق ألمًا وندمًا، والأشد توهجًا وإبداعًا. أن تعود لك الحلقة المفرغة من الموت والرعب الذي منحته الآخرين في حيوات سابقة.
ها أنت تعود للمواجهة الأخيرة مع ضميرك الإنساني المضطرب، تقتلك تباعًا كل الرصاصات التي أطلقتها سلفًا نحو أجساد آخرين مقابل الرصاصة الوحيدة التي اخترقت صدر أغلى من تحب. ابنته المدللة "ماري" في نفس الفيلم. لا أدري لمَ تتملكني رغبة شديدة في ذات الصرخة أيضًا كلما شاهدتها. هي ذات الرغبات الصارخة بداخلي لصفع الحياة في محاولة نهوض أخيرة. أن تمنحها قبلات كثيرة بعد الصفع إياه.
أنت تتفاوض الآن، وتطرح كل أوجاعك على الطاولة. أيتها الحياة ابتعدي بحذرٍ أو اقتربي بكل جنونك. في كِلا الحالتين لا أهابك. لديّ أسبابي الخاصة جدًا والكثيرة للمقاومة. لن أضعها هنا على الطاولة في التفاوض الأخير.
لا أرغب في كشف كل الأوراق الرابحة. أرغب دومًا في الإثارة والتشويق لكل الأحداث القادمة بيننا. سنتقايض أشياء عديدة، ورغبات مكتظة بالقلق والفزع، بالانتقام أيضًا، من يدري! هل يبدو الآن صوت المحبة صارخًا في أعماقي؟ ربما، لذا سأُعلق، وبشكل نهائي، رغبتي بالانتقام منكِ حتى لا أخدش قداسة الإنسان بداخلي. فكما أفهم أن الكراهية أو الحبّ عواطفُ لا نملك أمام تدفقها أو انسيابها بداخلنا شيئًا، لكن يبقى الانتقام الرغبة والقرار الأكثر وعيًا، والذي نملك أمامه دومًا فرصة ما للتخلي عنه. ليس كل التخلي مؤلمًا. وليس كل الانتقام مريحًا، قد يكون مريحًا لبعضِ الوقت فقط. لكن بالمقابل يُفقد الإنسان بداخلنا بريقه لزمنٍ طويل. نحن الكُتّاب نمارس انتقامًا مختلفًا ومشروعًا ومسؤولًا. نحن نكتب وفقط.
أيتها الحياة ما رأيك سنتبادل أيضًا نصوصًا مشتركة وصرخات مشتركة -كتلك- بيننا، لكن مع شرطٍ أخير؛ أن تبدأ صرختي قبلك.. الآن، بعد قليل.