سأستهل مقالي هذا بفقرات من مقال سبق نشره، تناولت فيه مفهوم "الثورة"، لعلاقتها الوثيقة بهذا المقال (انظر الجزء الأول من كتابي "أوراق متفرقة"، ص352 وما بعدها).
جرت العادة لدينا أن نُطلق على أحداث متباينة اسمًا واحدًا، وهو "ثورة". فالانتفاضة والانقلاب والتمرد وحركات الاحتجاج، نضعها كلها في نفس المستوى، ونعطيها التصنيف ذاته والاسم نفسه، رغم تباينها، في دوافعها وأهدافها وتأثيرها ومداها. ولتحاشي هذا الخلط لا بد من ضبط المصطلحات، وإعطاء التعريف الدقيق لكل حدث، ليسهل التفريق بين الثورة، بما تنطوي عليه من تغيير شامل في حياة المجتمع، وبين انتفاضة عابرة، تظهر ثم تخفُت وتتلاشى، وانقلاب عسكري، لا يحدث تغييرًا سوى في أشخاص الحكام، وتمرد، قد يكون مصحوبًا بالعنف، ما يلبث أن يواجَه بعنف مقابل، ثم ينتهي، وتحركات سلمية مطلبية، أو احتجاجية على إجراءات معينة، تتوقف بمجرد إلغاء تلك الإجراءات، أو بعضها، وتلبية تلك المطالب، أو جزء منها.
فالحدث لا يرقى إلى مستوى الثورة، إلا إذا كان تأثيره على مختلف أوجه الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، شاملًا ومستمرًا. بحيث يُحدث قطيعة مع الأوضاع السائدة، ويمثل منعطفًا تاريخيًا وانتقالًا واضحًا من مرحلة تاريخية إلى مرحلة تاريخية جديدة. أما إذا انحصر تأثيره في مجرد الحصول على بعض مطالب المنتفضين أو المحتجين أو المتمردين، أو في تغيير شخصيات الحكام، عبر انقلاب عسكري، دون تغيير في طبيعة الحكم والسياسة والاقتصاد وحياة الناس، فإنه لا يرقى إلى مستوى الثورة، وما تنطوي عليه من تغيير شامل.
وبطبيعة الحال، فإن الانقلاب العسكري أو الانتفاضة أو التمرد يمكن، في حالة نجاحه، أن يتطور ويتحول إلى ثورة، تحدث تغييرًا شاملًا في المجتمع، كما حدث في بعض الانقلابات العسكرية، كانقلاب الضباط الأحرار في مصر، في 23 يوليو عام 1952م، وانقلاب الضباط الأحرار في اليمن، في 26 سبتمبر عام 1962م. فكلا الانقلابين تحولا، بعد نجاحهما، إلى ثورتين، أحدثتا تغييرًا عميقًا في المجتمع، وأثرتا على الأحداث التي أعقبتهما. في حين أن انقلابي 1948م و1955م في اليمن، بقيا انقلابين، أو بتوصيف أدق "محاولتي انقلاب"، أدى فشلهما إلى إنهاء أية إمكانية لتطورهما إلى ثورة، بالمعنى الذي أوضحناه.
وما يمكن قوله عن محاولتي الانقلاب المذكورتين، يمكن قوله عن انتفاضات الشباب العربي في بعض الساحات العربية. فقد تلاشت تلك الانتفاضات فجأة، ولم يتوفر الوقت الكافي لأي منها لتتحول إلى ثورة. وبغض النظر عن النوايا الطيبة للشباب المشارك فيها، والتضحيات الجسام التي قدمها، والآمال الكبيرة التي علقناها عليها، فقد أدى تلاشيها قبل أن تتحول إلى ثورة، بالمعنى الذي أوضحناه، أدى إلى تداعيات لم نحسب لها حسابًا، نتيجة انهيار مؤسسات الدولة، أو إضعافها، وعجز الانتفاضات عن إيجاد المؤسسات البديلة لها، القادرة على أن تحل محلها، وتحافظ على الأمن والاستقرار، وتمنع الانزلاق إلى الفوضى والاحتراب. وفي هذا السياق، لا يمكن أن نغفل الدور السلبي لبعض المكونات السياسية، التي تصدرت الانتفاضات أو التحقت بها، وكانت لها مشاريعها الخاصة، المتعارضة مع أحلام الشباب وطموحاتهم الوطنية.
لقد خرج معظم الشباب إلى الساحات خروجًا عفويًا، يحركهم الحلم، ويفتقرون إلى الشروط الضرورية لتحقيقه، وعلى رأس هذه الشروط: المشروع الوطني الواضح للتغيير المنشود، والتنظيم المتماسك الحامل لمشروع التغيير، والقيادة السياسية الوطنية المخلصة القادرة على تحقيق المشروع. لذا لم تتمكن الانتفاضات من أن تتحول إلى ثورة، وتلاشت كأن لم تكن. ولم يبقَ منها سوى الدروس التي يمكن أن نستفيد منها في المستقبل. وأبلغ درسين يمكن أن نتعلمهما منها، هما: أولًا، أن شباب الأمة يمثلون الأمل في تغيير الحاضر وبناء المستقبل، وعليهم، وعلى حماسهم واستعدادهم للبذل والعطاء والتضحية، يمكن أن نراهن، إذا تسلحوا بالوعي وسلِموا من حملات التضليل والتشويه، التي تخطط لها دوائر معروفة، وتروج لها وسائل إعلام تابعة لها وكتاب مسخرون لهذه المهمة. وثانيًا، ضرورة توفر شروط النجاح قبل التحرك للتغيير، وعلى رأس هذه الشروط، كما أشرنا، المشروع والتنظيم والقيادة.
ومع أن الثورات الكبرى في العالم، كالثورة الفرنسية، التي بدأت في عام 1789م، والثورة الروسية، التي بدأت في عام 1917م، والثورة الصينية، التي بدأت في عام 1927م، قد تم إنجازها باستخدام العنف، فإن الثورة لا تقترن بالضرورة بالعنف. فقد تحدث بالوسائل السلمية المدنية، وتحقق النهوض الشامل في حياة المجتمع دون إراقة الدماء، ودون تدمير وقتل وتشريد وسجون وانتقام متبادل.
ففي ماليزيا وبعض بلدان جنوب شرق آسيا، على سبيل المثال، قادت النخب السياسية المستنيرة عمليات نهوض شامل في بلدانها، أي ثورة شاملة، دون عنف ودون دماء. وأنجزت بالوسائل السلمية الهادئة، وبإعطاء اهتمام استثنائي للتعليم والبحث العلمي، وتطوير أجهزتها الإدارية وقطاعاتها الزراعية والصناعية والخدمية، وتنشيط علاقاتها التجارية بالأسواق العالمية، أنجزت تحولًا كبيرًا في بلدانها، في كل جوانب الحياة المعيشية والتعليمية والصحية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ونقلتها، خلال عقود قليلة من الزمن، من بلدان متخلفة إلى مستوى البلدان الصناعية المتقدمة في العالم. وهذا ما عجزت عن تحقيقه "الثورات العربية".
وفي هذه المقارنة، بين الثورات التي أنجزتها النخب المستنيرة في بعض بلدان جنوب شرق آسيا، وبين "ثوراتنا العربية"، علينا ألا نغفل دور العامل الخارجي المعيق والمدمر لأي تغيير ثوري حقيقي في الوطن العربي، نظرًا لما يحظى به الوطن العربي من ثروات طبيعية وموقع جغرافي متحكم في أهم خطوط المواصلات العالمية، إضافة إلى وجود الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، الذي زرعته القوى الاستعمارية في قلب الوطن العربي، وتحرص على استمراره وحمايته ودعمه دعمًا غير محدود، والمشاركة في جرائمه، أو التستر عليها سياسيًا وإعلاميًا، وإنكارها أو تبريرها إذا ما انكشفت، ليبقى هذا الكيان حارسًا موثوقًا به لمصالحها، ورأس جسر لتدخلاتها وتعزيز نفوذها في المنطقة. ولذا فإن نجاح أية ثورة عربية، بمعنى النهضة الشاملة، لا يمكن أن تسمح به القوى الاستعمارية، إلا إذا أُجبرت على ذلك، بالإرادة الشعبية العربية الموحدة، وبالقدرة السياسية والعسكرية، وبالقيادة التاريخية التي نفتقر إليها في الوقت الراهن.
وهناك أمر جوهري لا بد من التطرق إليه في هذا السياق، وهو الضوابط الأخلاقية. فإذا ما تمعنا في أحداث "الثورات العربية" وسياساتها ومعالجاتها لقضايا مجتمعها، وتعاملها مع شعبها، الذي تتحدث باسمه، ومواقفها تجاه مخالفيها، وتغييبها لمبدأ حرية الرأي والتعبير، ومصادرتها لوسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، وقلبنا النظر في ضروراتها التاريخية وأهدافها المعلنة، ما تحقق منها وما لم يتحقق، والطموحات الذاتية لقياداتها التي فجرت في ما بينها صراعات على السلطة، بلغت في بعض الأحيان حد استئصال بعضها بعضًا، وإلصاق كل طرف منها تهم العمالة والخيانة بالطرف الآخر، مع بذل كل جهد ممكن لتشويه سمعته والقضاء عليه معنويًا، إذا تعذر القضاء عليه جسديًا... إننا إذا ما تمعنا وقلبنا النظر في كل ذلك، فلا بد أن ندرك أهمية الضوابط الأخلاقية التي تحصن الثورة من نزعة التسلط، ومن الطموحات الشخصية التي تعوق مسيرتها، وتحول دون بلوغها أهدافها، وقد تؤدي إلى تراجعها، فتصبح، في بعض المراحل، وفي بعض المظاهر، أسوأ من النظام الحاكم الذي جاءت لتغييره.
من هنا تأتي أهمية الضوابط الأخلاقية لأية ثورة، إلى درجة أنه يمكن القول بأن "ثورة بلا أخلاق ليست ثورة". فالضوابط الأخلاقية هي التي تضبط علاقات قادة الثورة في ما بينهم، وتضبط علاقاتهم مع مختلف الأطياف السياسية المختلفة معهم، وتضبط علاقاتهم مع شعبهم. وبتعبير أوضح هي التي تحقق التطابق الضروري بين المبادئ والسلوك، بين الأهداف والوسائل، بين الشعارات والممارسة.
ومن مقتضيات هذا التطابق: أن نكون مخلصين للثورة ولمشروعها، منكرين لذواتنا، مضحين بمصالحنا الخاصة في سبيل المصلحة العامة، مبدئيين، قبل أن نتحدث عن المبادئ، ديمقراطيين، قبل أن نطالب بالديمقراطية، متسامحين مع الرأي الآخر، قبل أن نطالب بحرية الرأي والتعبير، عادلين، قبل أن نطالب بإحلال العدالة ورفع الظلم والاضطهاد والاستغلال، نزيهين غير فاسدين، قبل أن نطالب بمحاربة الفساد، صادقين مع شعبنا، قبل أن نتحدث باسمه. وخلاصة القول: لا بد أن نكون فاضلين، قبل أن ننبري لبناء مجتمع فاضل، وإحداث التغيير الإيجابي المنشود في حياته. ففاقد الشيء لا يعطيه.
ولكي تحقق "الثورات العربية" في المستقبل مشروع التغيير الشامل، الذي يضفي عليها صفة الثورة، لا بد من أن تستفيد من دروس الماضي، وتضع في اعتبارها الأخطاء والسلبيات التي حدثت فيه، وتعمل على تحاشيها. وذلك من خلال التربية السوية والتثقيف السياسي الواسع الأفق، ومن خلال التمسك بالضوابط الأخلاقية، التي تمكِّن من معالجة الأخطاء والسلبيات في بدايات ظهورها، أولًا بأول، ووأدها في مهدها. لأن التساهل مع الأخطاء والسلبيات والسماح ببقائها يؤدي إلى استفحالها، وبالتالي إلى انحراف الثورة عن مسارها، وابتعادها شيئًا فشيئًا عن أهدافها، وعن مشروع التغيير الذي استمدت شرعيتها منه. وهذا سيؤدي في نهاية الأمر إلى تحول الثورة إلى سلطة مستبدة، لا يستفيد منها سوى المتغلبين من قادتها، الذين تمكنوا من إزاحة خصومهم ومنافسيهم.
وأنهي هذا المقال بإشارة إلى أمر جوهري آخر، يضاف إلى الضوابط الأخلاقية، وهو العلم، الذي بدونه لا يمكن لأية ثورة أن تحقق نهضة شاملة. فالنهضة الشاملة علم قبل كل شيء، والجهل لا يمكن أن ينجز ثورة ويحدث تغييرًا ويحقق نهضة. والثورات تخفق عادة في تحقيق مشروعها، إما لافتقارها إلى الضوابط الأخلاقية المتناسبة مع نبل مقاصدها المعلنة، أو لافتقار قادتها إلى العلم، أو للسببين معًا.
الثورات العربية
2024-02-13