بعدما ينام الليل في احضان عدن.. تصحو السينما ايام ذروة مجدها، وتشعل قناديلها.. في البداية لم اذهب انا إلى السينما، هي التي جاءت الي في خمسينيات القرن الجميل الماضي.. كان من مباهج عدن ان خدمات البلدية تصل إلى تقديم عروض سينمائية في الحوافي.
وصلت إلى حارتنا سيارة العرض السينمائي، لاندروفر مجهزة بآلات العرض السينمائي، وتنصب الشاشة لتعرض الفيلم على وجهين.. وعلى تراب الارض نتجمع عيال الحافة في ليلة عيد تسلب الوجدان وتستولي على القلوب.. "اول غرام" على ما أذكر كان اول فيلم عربي مصري اشاهده لعبت بطولته سامية جمال.. وحفرت صورتها في ذاكرة السنين مع تشارلي شابلن والويسترن وبقية الجماعة.. تلك الايام حتى الكتب كانت توصًل الينا في قوافل مكتبة ليك الشهيرة.. كان المجد كله عندنا.. ولنا.
ثم ذهبنا إلى السينما.. كان الذهاب إلى سينما "الشرق" في مبعدة من الشيخ عثمان، في الخلاء بعد فراغ ممتع نقطعه بين المدينة وموقع الدار كلما رقد الليل في حضن عدن، مرة في الاسبوع أو أكثر.. عشقت السينما بجنون، كانت امتع اوقاتي هي السويعات التي امضيها في حضرة ذلك الفن العظيم.
سيرة عنترة بن شداد كانت على الدوام من المرويات المحببة عند الناس، من ايام الحكواتي في ليالي السمر وإلى أيام نيازي مصطفى مخرج أشهر افلام عنتر وعبلة، فريد شوقي وكوكا بنت بدو صحراء سيناء التي تزوجها نيازي واسند لها دور عبلة، ولم تدخل التاريخ بغيره.. شخصية عنترة كانت طاغية في وجدان الناس اكانت حقيقة ام اسطورة.. المهم ان الناس يعشقونها..
أشهر سيارة نقل امريكية دخلت عندنا اسمها انترناشيونال، فحرف العامة الاسم وقالوا: بابور عنتر ناش!! عنتر اسم لامع وملتهب.. إذا قلت عن المناضل علي احمد ناصر بهذا الاسم فلن يعرفه أحد.. لكن قل علي عنتر فيعرفه الجميع، هو الاسم الكودي الذي اختاره لنفسه وعرف به من ايام النضال وما سمي بالكفاح المسلح.. عنتر بن شداد كان اروع الافلام التي قدمتها السينما من بين4 افلام عنه.. عنتر وعبلة، وعنترة، وعنتر يغزو الصحراء، وهذا الاخير.. الاول كان بصياغة سيناريو لنجيب محفوظ من بطولة ذلك الممثل الضخم الذي أنسى اسمه دائماً.. هو زوج الممثلة ميمي شكيب.. (ذكرني قارئ عزيز "محمد موسى" بالاسم بعد النشر.. هو سراج منير)..
المهم.. عمارة الزيادي الي ما تنطفي له نار ولا ينقطع له ثأر.. وهات العطر يا ولد، أبدع في الدور ابن الدمرداش نور الذي مثله، ودور شيبوب كان دائماً من نصيب سعيد أبوبكر.. كان نيازي مصطفى قد تفوق على نفسه في هذا الفيلم الذي جمع فيه كل ما يحبه الناس من ابداع السينما.. الاغاني كانت ممتازة من بيروت بمشاركة نجاح سلام وفرقة الغناء الفنية اللبنانية.. وعنتر جاي عنتر جاي، أقلع لك عين وتقلع لي عين ونعيش عور احنا الاثنين، هكذا يغازل شيبوب محبوبته.. أهم عناصر نجاح ذلك الفيلم الذي لعب بطولته فريد شوقي بعدما دهنوا وجهه بصبغة ورنيش الباليس الاسود!
وجوز عيني جوز، وانا بلا جوز أو مانا جوز والله ما عادناش ذاكر.. كانت الاغاني كذلك طاغية، ومن اهم عناصر نجاح ذلك الفيلم الذي غلف السيرة، أو الاسطورة بطابع كوميدي مميز لم يبتذل أو يخرج عن السياق.. وقد كان اول فيلم يمتد عرضه في كل مرة عندنا لأسبوع بتواصل تام يوماً بعد يوم ولا يمله الجمهور بل ان بعضهم يحفظ حواره كلمة كلمة... قالوا ان مستر حمود قد اعتقل عنده الفريدين، الاطرش، وشوقي، وبنى عليهما مجده السينمائي.
وهكذا.. كلما نام الليل في حضن عدن، تصحو السينما وتشعل قناديلها كلها، ويولد السحر تحت دخان البخور الصاعد من المجامر.. والمقاطر.. واعواد الند.. وهات العطر يا ولد.