أريد ما أمكنني من جهد أن أعصر الذاكرة للوصول إلى بواكير نهضة عدن، وخطاها الأولى نحو عصرها الذهبي، وللذاكرة خيانات تحدث ربما تنسينا التواريخ والأسماء.. أما الحوادث فتبقى ماثلة تحت الطلب حين استدعائها، وأطلب المراجعة والتصويب لو خانت الذاكرة، والعفو عند المقدرة.
التركي، أظن الاسم الكامل هو علي إسماعيل تركي، من أعيان عدن وباروناتها إن صح التوصيف.. بعد أجيال على ترك الكابتن ستافورد بتسوورث هينس، مكتشف عدن الحديث، ومحتلها، ظهرت طبقة كبيرة من البنائين العدنيين، مثل آل دنشو، جد بيكاجي قهوجي دنشو من الفرس، وحسن علي عجمي، وموضوعنا بيت التركي.. الذي سماه البريطانيون ملك الفنادق والفندقة ومطاعم الخمس نجوم.
The most popular Hotelist, or Hotel master & Restaurant owner & manager.
وكان فندق ومطعم المتروبول في كريتر، هو موقعه الأول، اشتراه من المقر القنصلي البريطاني The British council. وكان الأفضل في عدن كلها، بما يوفره من خدمات ووجبات.. وكان الأول في اليمن كلها الذي تعلوه حديقة معلقة بموائد للأطعمة فوقها للنزلاء Roofgarden.
وكان من حظي الدخول إليه ذات ليلة صيف، وتناول طعام العشاء، محاطًا بالهواء العليل بنسماته الطرية في صيف كريتر الصعب.. في مطعم التركي بالطابق الأرضي عرفنا لأول مرة مشروب الملك شيك، وآيسكريمات التنوع بالفواكه.. ومن أنجب عمال الخدمة لدى التركي، كان العم علي العرشي الذي افتتح بعد ذلك لوكاندة ومطعمًا شهيرًا خاصًا به على طريق الخساف (هو مطعم وفندق البحر الأحمر).
كان للتركي ابنة شهيرة نالت لقب ملكة جمال عدن، اسمها كاميليا، أو كمالا كما ذكرها ديفيد ليدجر في كتابه الشيق الشهير: "الرمال المتحركة". وقد تواردت أنباء عنها تحكي زواجها بأمير من سلاطين الفضلي في أبين، ورحيلها معه إلى إنجلترا.
غاب التركي وأسرته في غياهب الاغتراب إلى مملكة آل سعود، ولم نسمع من أخباره شيئًا إلا في زمن الوحدة اليمنية التي نصفها بالمباركة.. حين عاد إلينا ولد من أبنائه اسمه جمال التركي.. وأراد تعميد نفسه كشيخ من مشايخ عدن، وتم له ذلك بتعميد من شيخ مشايخ اليمن عبدالله بن حسين الأحمر.. والأمر يبدو كأنه مزحة طريفة، لكنها شقت طريقها في عالم الصفاط والهمبكة التي ولجت إليها عدن.. استعاد الشاب من أملاك أبيه المتروبول، وأيضًا مسكن السفير البريطاني سابقًا.. وكازينو جميلًا مجاورًا له من أملاكهم كان قد سكنه محمد صالح طريق الذي تولى مسؤولية مدير أمن محافظة عدن.. وسلمه لصاحبه بطيبة نفس.. استلمه الشيخ جمال التركي، وسكن فيه مع من أراد من أهله وأقاربه.. وكان جمال هذا لطيف المعشر، حسن الصحبة، كريمًا ومضيافًا، وقد تكرم بدعوتي ذات يوم إلى غداء ومقيل في بيته الجميل العامر.. ولكن دوام الحال من المحال، تكالبت على الشاب الطيب المصائب من كل حدب وصوب، كما يقول فصحاء اللغة.. كان النزاع يدور حول ملكية فندق المتروبول الذي قدم شريك في الملكية دعواه ضد التركي.. وتبودلت التهم والمكائد إلى أن أفضت إلى نشوب حريق هائل التهم مبني الفندق بالكامل.. وانتهت أسطورة أقدم فنادق عدن وأشهرها.. وبقي الشيخ جمال التركي بدون متروبول، يسير مسلحًا، وتصحبه حراسة حفاظًا على سلامته، لكن المكائد والاتهامات ظلت تلحقه إلى حيث يروح، وليس أهونها اتهامه بالمثلية الجنسية والمجون! وعرف عنه أنه يمضي كثيرًا من ليالي سمره على ساحل أبين.. إلى أن جاء يوم شؤم أغبر نقل فيه الناعي إلى الناس خبر العثور على جثة الشيخ جمال التركي مقتولًا في الخلاء على ضفاف ساحل أبين.. وكالعادة في اليمن لم تجرِ تحقيقات مقنعة ولا أخبار مفيدة عن كيف ومتى ولماذا.. وطويت بصمت صفحة حافلة بالوقائع والأحداث لواحدة من أشهر البيوتات العدنية.. من بناتها الأوائل الذين كانوا يملؤون الأسماع والأبصار.. وما كان يعرف زمان بفندق المتروبول أعيد بناؤه، وتحول إلى معارض بلهاء لبيع الأزياء والملابس.