انتشرت أسواق البالة في اليمن خلال السنوات الأخيرة، بصورة لم يألفها اليمنيون من قبل. وتسببت الحرب المشتعلة في البلاد منذ نحو 9 أعوام، بتردٍّ اقتصادي متسارع على مختلف الأصعدة، وأدى توقف صرف مرتبات غالبية موظفي الدولة، إلى تراجع حاد في القيمة الشرائية لليمنيين الذين لجأوا إلى أسواق البالة لشراء احتياجاتهم من الملابس والأثاث المنزلي، بخاصة في فصل الشتاء القارس.
وعلى الرغم من أن أسواق البالة (محال بيع الملابس المستعملة) تضم ملابس ذات ماركات جيدة، فضلًا عن أسعارها الزهيدة قياسًا بالملابس الجديدة، إلا أن هناك مخاوف من أضرار صحية وبيئية قد تتسبب بها هذه الملابس التي لا تخضع لشروط السلامة من قبل الجهات المعنية، بخاصة تلك التي تدخل البلاد عبر التهريب.
بحثًا عن الجودة والأسعار الزهيدة، كانت "أم أفنان" تجوب محال بيع الملابس المستعملة في منطقة باب اليمن بالعاصمة صنعاء، علها تجد ما يقي أبناءها الخمسة من برد الشتاء القارس، وتناسب مع موازنتها المالية المتواضعة. المرأة الخمسينية التي تعمل معلمة في إحدى المدارس الخاصة، قالت إن إمكانياتها المادية لا تسمح لها بشراء ملابس شتوية جديدة لأبنائها، وأردفت وهي تمسك بأحد الجواكت: "قيمته في المحلات الجديدة أكثر من 7 آلاف ريال (الدولار يساوي 530 ريالًا في صنعاء)، وأشتريه هنا بـ1500 ريال فقط، وخامتها أفضل من الصيني الموجود في محلات بيع الملابس الجديدة". وأضافت بحنق: التجار يستوردون ملابس صينية رديئة، ويبيعونها بمبالغ باهظة، طمع وجشع بلا حسيب ولا رقيب، ونحن بلا مرتبات منذ سنوات".
عدا أم أفنان، تشهد أسواق البالة اليمنية إقبالًا متزايد، وحضورًا لافتًا لم يعد حكرًا على الفقراء فقط، بعد أن انضم متوسطو الدخل وميسورو الحال إلى قائمة مستهلكي الملابس المستعملة.
وإن كان تردي الوضع الاقتصادي لغالبية المواطنين سببًا في إحجامهم عن ارتياد أسواق الملابس الجديدة، إلا أن افتقار الأخيرة للجودة والماركات العالمية سبب آخر في توجه متوسطي الدخل، إلى أسواق البالة لاقتناء حاجياتهم من الملابس.
أناقة المتجر وإغراءات الثوب الجديد التي تتمتع بها معظم محال بيع الملابس الجديدة، لم تدم طويلًا أمام جودة الملابس الأمريكية والكورية والأوروبية والخليجية التي تعج بها أسواق البالة اليمنية، والتي تعد ماركات نادرة وشبه معدومة في أسواق الملابس الجديدة، بعد أن صارت الصين القبلة التي يولي غالبية التجار والمستوردين اليمنيين وجوههم صوبها بحثًا عن الثمن البخس، وإن كان على حساب الجودة والمواصفات.
يقول إبراهيم صالح، وهو طالب في كلية الهندسة بجامعة صنعاء، إنه كثيرًا ما يرتاد أسواق البالة التي تعرف في اليمن باسم "الحراج"، للبحث عن نوعية جيدة من الملابس التي لا يجدها في معارض الملابس الجديدة. ويرجع إبراهيم عزوفه عن شراء الملابس الجديدة إلى رداءة ما تعرضه محلاتها التي تستورد معظم بضائعها من الصين، وبمواصفات قال إنها رديئة للغاية يحددها المستورد اليمني للمصانع الصينية مقابل تخفيض أسعارها.
ويضيف: "على الأقل ملابس البالة ليست مقلدة الصنع، وبإمكاني شراء ما يناسبني وأنا مطمئن لحقيقة بلد المنشأ، وبأسعار مريحة".
أما صلاح الزنم، فله أسبابه الخاصة لارتياد أسواق البالة.. صلاح الذي يعمل في إدارة العلاقات العامة بإحدى الشركات الخاصة، يقول إن "البرستيج" الذي تفرضه طبيعة عمله يجعله يبحث عن ملابس بجودة عالية ومظهر راقٍ، مضيفًا:" لا أستطيع الحصول على ملابس ذات ماركة عالمية تتناسب مع مرتبي الشهري إلا في هذه الأسواق".
ولأسباب مشابهة مع اختلاف في طبيعة العمل، يشتري راجح (نجار بناء) ملابسه من أسواق البالة. فالشاب الذي يقترب من عقده الثالث عادة ما يزور أسواق الملابس المستعملة لشراء الجينز الأمريكي والملابس الأخرى التي تتمتع بالقوة والمتانة، التي تتناسب مع طبيعة عمله الشاق.
النساء.. تسابق لاقتناء الأفضل
وللنساء أيضًا وجهتهن الخاصة نحو أسواق البالة التي تفرد مساحات واسعة لمتطلبات المرأة من ملابس وأحذية وإكسسوارات. ولأن النساء أكثر اهتمامًا بالمظهر، ومجاراة للموضة، فلا سبيل غير أسواق البالة، الأمر يصير حتميًا بالنسبة للطبقة الفقيرة والمتوسطة.
عدد من الفتيات ممن التقتهن "النداء" في سوق "عنقاد" للملابس المستعملة بصنعاء، تهربن من الحديث عن أسباب زيارتهن لأسواق البالة، غير أن سامية (28 عامًا) قالت إنها وصديقاتها يترددن على أسواق البالة بشكل شبه أسبوعي، لاقتناء أنواع جميلة ونادرة من الملابس والإكسسوارات.. مضيفة أنها وضعت رقم تليفونها عند أحد تجار البالة للاتصال بها عند وصول أنواع جديدة من الملابس، كي تحضر قبل نفاذ الأفضل منها. وتابعت: "مافيش معانا فلوس نشتري ملابس جديدة ماركة، فنلجأ إلى هذه الأسواق"، وأردفت مازحة: "وبعدين قد إحنا بنقول إن ملابسنا اشتريناها من المعارض الجديدة أو من الخارج".
أنواع البالات
وتصل الملابس المستعملة إلى اليمن على شكل حزم كبيرة تسمى "بالات" تحوي أصنافًا من الملابس المختلفة المقاسات والأنواع.. ويقوم التجار بفتح هذه البالات وفرز محتوياتها، ومن ثم غسلها وكويها وعرضها للبيع، والبعض الآخر يبيع هذه الملابس بشكل مباشر، ويتولى الزبائن عملية الغسل والتنظيف.
بعض هذه البالات تحتوي على ملابس جديدة أو قريبة من ذلك إلى حد كبير (إما لتغير موضتها في بلد المنشأ، أو أنه تم تصديرها لتصفية محلات تجارية كبرى في البلدان المصدرة). وهو ما يدفع عديدين أمثال سامية إلى ترك أرقام هواتفهم لدى التجار للاتصال بهم عند وصول البالات، علهم يفوزون بملابس لا تمكث بعد عرضها طويلًا.
إلا أن بعض التجار يقومون بفتح البالات في منازلهم، وفرز الجديد والراقي منها وبيعه بأثمان خاصة، ومنهم من يقوم بإرسالها إلى محلات بيع الملابس الجديدة لتغليفها وبيعها هناك كملابس جديدة، وهو ما شكا منه عدد من المواطنين في أحاديثهم لـ"النداء".
ونفى صالح الريمي -أحد تجار البالات بسوق عنقاد- الاتهامات بعرض ملابس مستعملة على أنها جديدة، لكنه أقر بعملية فرز البالات، وعدها ممارسة مشروعة، لأنها تضم أنواعًا مختلفة من الملابس، من حيث الجودة والطلب عليها.
وقال في حديثه لـ"النداء": مثلما نبيع ملابس داخل البالات بأسعار زهيدة لأنها غير مرغوبة، نقوم أيضًا برفع أسعار الملابس التي تتمتع بجودة عالية، ولاتزال أسعارنا قليلة قياسًا بتجار الملابس الجديدة".
ويرجع الريمي، إقبال المواطنين على شراء الملابس المستعملة، إلى أسباب اقتصادية، فضلًا عن رغبة البعض في اقتناء ملابس تتمتع بالخامة الجيدة، على عكس ما هو متواجد داخل محلات الملابس الجديدة، التي تكتظ بالصناعة الصينية المقلدة، حد تعبيره.
تجارة رائجة
وتنشط أسواق البالات في اليمن بشكل ملحوظ ومتنامٍ، في الأعياد وعند حلول الشتاء، حيث تتحول البالات إلى مهرجانات كرنفالية صاخبة بالألوان.
وتستورد اليمن الملابس المستعملة من أمريكا وتركيا وكوريا الجنوبية، ودول أوروبية، وكذا من بعض دول الخليج التي دخلت مضمار الدول المصدرة لتجارة البالة في السنوات الأخيرة، وعلى وجه الخصوص المملكة العربية السعودية.
تفتقر وزارة الصناعة والتجارة في سلطة الحوثيين وسلطة الحكومة المعترف بها دوليًا، للأرقام المتعلقة بحجم تجارة الملابس المستعملة في اليمن، لكن بيانات مركز التجارة الدولية تكشف عن ارتفاع قياسي في نسب استيراد هذا النوع من الملابس بعد الحرب التي اشتعلت في البلد عام 2015م.
وفيما بلغت واردات اليمن من الملابس المستعملة خلال العام 2013م، مبلغ 1.73 مليون دولار، وصل حجم الاستيراد خلال العام 2019 إلى 4.6 مليون دولار.
ويتم تصدير النسبة الأعلى من الملابس المستعملة إلى اليمن عبر الموانئ الإماراتية.
أمراض جلدية
ومثلما أن لهذه الأسواق زبائنها ومريديها، فلها معارضون أيضًا لأسباب صحية، وفقًا لتحذيرات الأطباء، الذين يرون في الملابس المستعملة ناقلًا خطيرًا للأمراض المتنوعة، بخاصة عند عدم اتباع إجراءات السلامة.
وهو ما يؤكده الدكتور علي البراشي، استشاري الأمراض الجلدية وتجميل البشرة، الذي يقول إن العديد من الأمراض قد تنتقل عند ارتداء الملابس المستعملة، ومن بينها الأمراض الفطرية، فطريات الجلد والشعر، إلى جانب الأمراض البكتيرية، وفي مقدمتها البكتيريا العنقودية والسبحية، والتي تسبب أمراضًا جلدية عدة.
ويضيف البراشي في حديثه لـ"النداء": تتسبب الملابس المستعملة أيضًا بأمراض الطفيليات الخارجية التي تضم حشرات مرئية وغير مرئية، والتي تؤدي إلى الجرب والتينيا وأمراض جلدية متعددة.
ويوضح أن شراء واستخدام الملابس المستعملة، ممكن، ولكن يجب اتباع إجراءات النظافة القصوى كالتعقيم الحراري والضوئي بالأشعة فوق البنفسجية، وتعريضها لأشعة الشمس، وغسلها بالمياه الساخنة، لضمان القضاء على البكتيريا والفطريات التي تتفاعل مع الجسم، وتسبب العديد من الأمراض.