ما شاء الله عليها.. كمال وجمال.. جمال زايد على المعلوم.. دخلت مؤسستنا 14 أكتوبر المجيدة.. كانت أركان المبنى كانت تهتز تحت وطأة قدميها. "ما تبطل وامشي بحنية لا يصير زلزال!". ما شاء الله عليها.. قال البواب: شيء.. شيء! أما السيد علي الضحياني فقال: حسينة ولحيمة! وقال السفيت، من عمال الصف اليدوي: هكذا يكون الجمال.. وإلا فلا..
كنت أتابع من بلكونة مكاتبنا فوق، مشية ذلك الجمال الصاخب.. يمشي ملكًا.. واثق الخطوة.. بلا شيذر ولا خنة ولا مقرمة ولا حجاب ولا يحزنون.. وبالميني جيب.. موضة تلك الأيام المباركة.. وبالشعر المنكوش في تناسق وانسجام.. وبيدها تصحب ولدًا أصغر منها سنُا، لعله أخوها لعل.
وعلى الدرج الخشبي صعدت، وإيقاعات خطواتها تعزف.. وكلما اقتربت زادت الإيقاعات، وتسارعت ضربات القلوب.. وازدادت المخاطر.. وصوب مكتب الأستاذ سالم زين توجهت.. مثلها فقط تؤشر.. ولا تنطق إلا وقت الحاجة.. استقام حارس الباب وفتح لها الباب بلا سؤال.. ودخلت تجر الولد معها لمقابلة الأستاذ سالم زين.. وشنشني شن.. هدأت نفوسنا ورجعنا إلى دنيا الآدميين من أحلامنا الملائكية.
بعد نصف ساعة تقريبًا، دخل علينا الحارس، ووجه يده نحوي تتقدمها إصبعه كأنها رمح، وقال: أنته.. قم.. الأستاذ يباك..
يباني أنا؟ قلت.. وأضفت: لكن أنا شفت عنده ضيوف! قال بغلظة: مش شقلي أنا، قم انتبل! (شغلي يلفظها هكذا بالقاف.. أما انتبل فأظن المقصود بها.. اسرع.. أو شد حيلك أو سمثنج لايك ذات).
دخلت للأستاذ سالم.. لم يكن على ملامحه غضب أو فرح، كان بين البينين!
والفاتنة واقفة أمامه بكل جلال جمالها.. وبجانبها الوليد الظريف الذي تبدو على ملامحه بعض البلاهة: أيش فعلت.. أيش فعلت؟ بادرني بهذا اللهم اجعله خير!
أشارت الفاتنة الحلوة نحوي، وقالت بامتعاض: هو هذا؟ لازم يتربى ويتعلم الأصول.. أسكتها الأستاذ.. وشرح لي الموقف بالتفصيل.. قال:
هذي هي بنت الراجل اللي أعلن تبرؤه من ابنه.. وهذا الولد هو أخوها.. ابنه يعني.. هو صاحب العنية.. وتقول باترفع عليك قضية في المحكمة لو ما صححت الكلام اللي نشرته عن هذي المسألة.. كيف تشوف؟
قلت: أشوف غشاش.. قصدي أنه مستحيل أكتب كلام يناقض الكلام الذي نشرته في مقابلتي مع العم يعقوب، هذا كان كلامه.. وقد أخذت منه بتوقيعه وبصمته موافقة على النشر من باب الاحتياط، وموجودة معي.. أما لو كانت تشتي ترفع قضية فترفعها على أبيها.. وأنا باكون حاضر للشهادة..
استرجع الأستاذ سالم زين كامل حكمته.. وقال: شوفي يا بنتي.. هذا الكلام كله مابا ينفعش القضية، بل با يكبرها أكثر وأكثر.. يعني محكمة وجرجرة.. أو اعتذار في الجريدة عاده إلا بايزيد الطين بلة.. فهمتي.. يعني بايخلي اللي ما علم يعلم.. واللي ما يشتري يتفرج.. وأنت بنت عاقلة وفاهمة أنه كثرة الشوشرة ما باتسبب إلا فضيحة.. وإحنا نشوف أنه ستر الحال هو ترك الموضوع في مكانه بدون زيادة.. وأفضل أنكم تتصالحوا مع الوالد.. ويمكن هو يتراجع عن كلامه.. وباخلي سعيد هذا -وأشار نحوي- يروح معاكم عند الوالد، وتسدوا هناك على ما يرضيكم.. قلت بسرعة: ياريت يا سالم.. ثم استدركت: ياريت يا أستاذ سالم.. من عيوني.. ثم تفحصت في الأخت الفاتنة الجاية مخصوص لهذا الموضوع من داخل جيبوتي كما قالت، وتجرأت وسألتها: أيش اسمك الكريم؟ أجابت باستهتار عظيم: مش شغلك! قزعتنا الليدة اللي سبقت بجمالها الأخاذ جمال الفنانة الشاملة شيريهان اللي عرفناها بعد عقد من الزمان.. الله عليها.. بايكون اسمها أكيد هكذا.. شاهيناز.. شيهريان.. ناريمان.. صافيناز.. حاجة كذا تناسب كل جمالها اللي حط رحاله في جسم واحد..
هدأت الفاتنة اللي ما شرفتناش باسمها الكريم.. وجلست في آخر المكتب عند الجدار.. وجرت معها أخاها الصامت اللي ولا فتح فمه بنخس، مع أنه هو صاحب العنية!
ناداني سالم زين لأقترب منه، وهمس لي:
الليلة بعد ما تخلصوا شغل الجريدة بالليل، بامر عليكم انته ومحمود الحاج وعلي قباطي معزومين عندي عشاء باشلكم البريقة إلى كازينو الضالعي هناك... مكان عجيب ماشي كماه.. أنا باكلم الأستاذ محمود.. بعدما تكملوا شغل الجريدة.. ثم التفت إلى ضيفتنا صاحبة جيبوتي، وقال: تمام يا كريمة؟ خلاص سدينا؟
قامت بزعل وجرت الولد معها، وقالت: خلاص.. ولا عاد أشتي من أبتكم شيء.. ومشت بنفس الخطى الواثقة تدق الأرض دقًا.. الله يحفظ جمالها ودلالها وخطاها.. خرجت خطوة خطوة.. والمؤسسة فاغرة فاها... الله الله.. ما تبطل وامش بحنية لا يصير زلزال!