صنعاء 19C امطار خفيفة

إضاءة من التاريخ الوطني: عبدالحق الأغبري

إضاءة من التاريخ الوطني: عبدالحق الأغبري

بادئ ذي بدء، يسعدني أن أسلط الضوء على قامة وطنية مشهود لها في ميادين المعرفة، والحكمة، والنبالة، والدبلوماسية: صفات تجلت معانيها وتجسدت بشخصية "الشيخ الفاضل عبدالحق محمد عبدالله الأغبري"، شيخ الأغابرة، ناحية القبيطة، محافظة تعز.


الشيخ عبدالحق مع حفيده فهد الشيخ عبدالحق مع حفيده فهد

يعتبر "الشيخ عبدالحق محمد الأغبري" من المصلحين الاجتماعيين، ومن الذين أسهموا وعززوا مسيرة الأسفار لطلب العلم والمعرفة انعتاقًا من العزلة إلى الانفتاح.. وكان يرى أن السبيل الوحيد لتجاوز أحوال اليمن الصعبة، يتمثل بتدريس أبناء المجتمع اليمني عامة، مع صب اهتمامه الخاص على منطقته وما جاورها بخاصة، وبالقدر الذي يستطيع التحرك فيه في ظروف صعبة، وكان أول ما لفت انتباهه قرب منطقته من (الحاضرة عدن في جنوب اليمن -المستعمرة البريطانية سابقًا)، والتوجه بعدئذ إذا أمكن إلى أرض الله الواسعة لإكمال دراستهم وتحسين ظروفهم المعيشية، ثم العودة لخدمة وطنهم، فكان له مبتغاه.

وليس بغريب أن يكون أبناء الأغابرة، والأعروق، والأعبوس، والأثاور، والقبيطة، والأعمور، والمقاطرة، والأحكوم، والأصابح، ودبع، وبني شيبة، وقدس... الخ، من السباقين في الأسفار إلى سائر الأقطار.

وفي ظل تلك الأوضاع المعقدة، وجد الشيخ الفاضل عبدالحق الأغبري أيضًا ضالته المنشودة في تشجيع الشباب لمعرفة أوسع، وآفاق أرحب في مجال العلوم الحديثة، من منطلق إدراكه أنه لن يتأتى قيام أية نهضة في اليمن إلا من خلال الأسفار والكد والاجتهاد تيمنًا بقول الإمام الشافعي، رضي الله عنه:

ما في المقام لذي عقل وذي أدبِ

من راحة فدع الأوطان واغتربِ

سافر تجد عوضًا عمن تفارقه

وانصب فإن لذيذ العيش في النصبِ

إني رأيت وقوف الماء يفسده

إن سال طاب وإن لم يجرِ لم يطبِ

والتبر كالترب ملقى في أماكنه

والعود في أرضه نوع من الحطبِ

هكذا كان الشيخ الفاضل الخالد الذكر يحث أبناء المنطقة وما جاورها على الأسفار إلى سائر الأمصار، لما لها من فضائل ومنافع في ميادين العلوم والمعارف، ثم الرجوع إلى الديار بما هو مثمر ومفيد لليمن لإخراجها صوب مستقبل أفضل يجاري الدول المتقدمة، وللموضوع قصة واقعية من قبل أهل الأغابرة، حكاها آباؤنا عن أجدادنا من أهل المنطقة عمومًا، حول اغترابهم في الحبشة، كما يلي:

"قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، كان عدد من أبناء الأغابرة قد هاجروا إلى الحبشة، وحين صاروا من رجال الأعمال، والتجارة هناك، أقدم الإمبراطور هيلا سيلاسي بحجز بعض أموالهم، ولم يكونوا على دراية بما يفعلون، ولمن يلجؤون ويرفعون شكواهم في ذلك الوقت. علم الشيخ عبدالحق بالأمر، فقرر السفر وشد الرحال إلى الحبشة برفقة أحد أبناء الأغابرة (أحمد عبدالله الأغبري)، من محلة الحميدي، المغترب وقتئذٍ في "جيبوتي"، ثم طلب الشيخ عبدالحق عند وصوله مقابلة الإمبراطور هيلا سيلاسي.


وبمساعدة من المهاجرين الأغابرة هناك، ومنهم أخوه (مقبل الكبير)، تمكنوا من تبليغ مراسيم الإمبراطور، وتحديد موعد للشيخ مع الإمبراطور هيلا سيلاسي، جاءت الموافقة على التو، فدخل إليه مرتديًا زيه الشعبي المتميز بجنبيته، ومصافحًا رافع الرأس، حسب وصف من حضروا اللقاء.

سأل الامبراطور ترجمانه: من الرجل؟ أجابه الترجُمان: "سلطان"، وشيخ قبيلة التُّجار المحجوزة أموالهم. أعجب الملك بفحوى حديثه، وهيئته، واعتداده بنفسه، وكلامه المتزن المقنع، وحسن اهتمامه برعيته، وهدفه الإنساني من رحلته الشاقة من اجل مقابلته، لإطلاق محجوزات التجار، فأمر الإمبراطور بالإفراج عن أموالهم فورًا، كما تبادلا الهدايا، فأهداه الشيخ "جنبية" ثمينة، وفي المقابل أهداه الإمبراطور "نابي فيل"، وهي من أفضل الهدايا التي كانت تقدم، في ذلك الوقت، لكبار الزوار والضيوف.

وفي هذا الخصوص، علق يومها الراحل المغترب الأديب "محمد عبدالواسع الأصبحي" المعروف ب"الخويل"، والسفير لدى "جيبوتي" لاحقًا، على هذه الزيارة قائلًا: لم يستطع أحد أن يُرجع حقًا، مثل ما فعله الشيخ الأغبري.

وفي نفس السياق، ورد أيضًا أن "الإمام" علم من الناس بسفر "الشيخ" عبدالحق إلى "الحبشة"، وبتفاصيل المقابلة مع الإمبراطور هيلا سيلاسي، وبعد عودته استدعاه وطلب منه عندما قابله أنه يفضل أن يبلغه في المرات القادمة قبل سفره إلى خارج البلاد للاطمئنان عليه".


والسؤال، هل يعقل أن "الإمام أحمد بن حميد الدين" المقيم في صالة (تعز)، وعلى مسافة 45 ميلًا من "حيفان"، كان لا يدري عن سفر الشيخ؟ هذا مستحيل، وإنما كان المرام من حجب الإمام معرفته عن سفر الشيخ إلى الحبشة (إثيوبيا) تمويهًا للمواطنين ليس إلا. وكان الهدف الفعلي للزيارة هو استكشاف واستشفاف نتائج الزيارة إلى الحبشة سلبًا أو إيجابًا.

ولحسن الطالع، حققت الزيارة، نجاحًا طيبًا، وأثمرت بعلاقات جيدة ترقى إلى مستوى التمثيل الدبلوماسي بين البلدين.

وقد ورد أن الشيخ عبدالحق قام بالواجب البروتوكولي بنقل تحيات الإمام أحمد بن يحيى حميد الدين، ارتجالًا، تمثلت بفصاحة اللسان، وبلاغة الخطاب، وحسن الأداء، صفات عكست نفسها على تعامل الإمبراطور معه أثناء الزيارة.

حقًا، إنه عومل مراسيميًا معاملة السلاطين في الحبشة (إثيوبيا)، وقد حضر المقابلة بعض مسؤولي السفارات في إثيوبيا (فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا)، وكأن الزيارة قد خطط لها رسميًا كما يستشف. وقدموا للشيخ الهدايا التذكارية مراسيميًا.

يجدر التنويه إلى أن إيطاليا وألمانيا إلى جانب اليابان كانت تسمى "دول المحور" في الحرب العالمية الثانية، وكان موقف اليمن من هذه الدول إيجابيًا، أما فرنسا، فقد كان تواجدها في المنطقة، وبخاصة في جيبوتي، منذ عام 1892م، وتربطها أيضًا علاقات طيبة مع اليمن، خصوصًا منذ اقتحام ألمانيا لفرنسا في الحرب العالمية الثانية، وتأسيس "حكومة فيشي" في مدينة "فيشي" السياحية، برئاسة الجنرال الفرنسي "فيليب بيتان" الموالي لألمانيا (10 يوليو 1940م- 9 سبتمبر 1944م)، حتى عودة حكومة فرنسا الحرة بقيادة "شارل ديغول"، وتشكيل حكومة مؤقتة، وبقيت العلاقات الطيبة بين فرنسا واليمن دون تغيير.

في واقع الأمر، إن حضور مندوبي السفارات الثلاث المذكورة، يعود إلى علاقات اليمن الطيبة مع تلك الدول الثلاث في مرحلة الحرب وما بعدها.

في واقع الأمر، إن اسم الشيخ عبدالحق سيظل منقوشًا في ذاكرة الزمن ومدونة التاريخ كقامة وطنية، ومن صناع تلك المرحلة التاريخية المهمة، ويعتبر أول من قام بتمثيل اليمن كمندوب رفيع المستوى إلى "الحبشة"، وطبق كما هو متعارف عليه في الوقت الراهن ب"الدبلوماسية التفاوضية"، وهي الدبلوماسية التي أعجب بها الإمبراطور.

قمين بالذكر، أن العلاقات الحديثة بين اليمن وإثيوبيا تأسست في 24 مارس 1934م، وكان لكل من "الإمام يحيى حميد الدين" و"الإمام أحمد يحيى حميد الدين" علاقات جيدة مع إمبراطور الحبشة (إثيوبيا) هيلا سيلاسي.

وقد بدأت تلك العلاقات بتوقيع اتفاقية صداقة وتعاون بين الجانبين، نصت على سيادة البلدين على أراضيهما، وترسيخ السلام وعرى الصداقة، وإقامة علاقات دبلوماسية، وزيادة حجم التبادل التجاري بين الجانبين، ومعاملة رعاياهما معاملة خاصة تأسيسًا على تاريخ علاقات بلدينا الراسخ والموغل في القدم بين الشعبين الشقيقين، وما اسم "الحبشة" إلا أتت من قبيلة "حبشت اليمن" التي هاجر أهلها بعد انهيار سد مأرب، قس عليه اللغة الأجعزية المنسوبة إلى قبيلة "الأجاعز" اليمنية التي هاجر أهلها أيضًا إلى الحبشة، وهي لغة الكنيسة الحبشية (الإثيوبية) حتى يومنا هذا، وهي من أصول حميرية، وسبئية، وبالمثل فإن اللغة الأمهرية جذورها ورموزها ونقوشها تعود أصلًا إلى الحميرية والسبئية الأقدم عهدًا. كما أن ملكة سبأ كانت تحكم من "مأرب إلى أكسوم".

ولكيلا أطيل الحديث عن الماضي، سأعود من جديد إلى العلاقات اليمنية -الإثيوبية الحديثة.


يجدر التنويه إلى أن العلاقات على مستوى التمثيل الدبلوماسي قد تأخرت عقدين من الزمن بسبب الحرب العالمية الثانية، وقد تم فتح مكتب قنصلي عام 1953/1954م، بتعيين القاضي الزهيري قنصلًا، لكنه واجه صعوبة في تغطية العمل نظرًا لأعداد المغتربين اليمنيين الكثر، فضلًا عن تواجدهم في مناطق متفرقة من مساحة البلاد الشاسعة بحدود "مليون وخمسة عشر ألف كيلومتر مربع"، وجاءت زيارة الشيخ عبدالحق الأغبري في الوقت المناسب لإرساء علاقات دبلوماسية متميزة امتدادًا للعلاقات التاريخية الضاربة أطنابها في أعماق التاريخ بين الشعبين الشقيقين، والعمل على تطويرها، بعد أن ظلت حبرًا على ورق منذ بداية تأسيسها عام 1934م، بسبب ظروف المنطقة ونشوب الحرب العالمية الثانية.

يقينًا، كان من عادة الأئمة، وبخاصة الإمامين يحيى حميد الدين وأحمد بن يحيى حميد الدين، أن يرسلوا مبعوثين من الشخصيات البارزة، يحظون بثقتهم في إطار تبادل الزيارات الودية بين الجانبين، والمتمثلة بنقل الرسائل لتعزيز العلاقات الثنائية دون إحداث جلبة.


وإنني أجزم ومعي دبلوماسيون عرب وأجانب كانوا اطلعوا على تاريخ علاقات اليمن الدبلوماسية مع إثيوبيا، وتطورها منذ عام 1934م، بأن الشيخ عبدالحق محمد عبدالله الأغبري، كان أحد مبعوثي الأئمة البارزين إلى الحبشة (إثيوبيا) في الخمسينيات من القرن الماضي، والذي تمكن من تدميك العلاقات بكل نجاح، ومهد الطريق لعلاقات دبلوماسية مرجوة.

ومن الملاحظ، أن تلقيبه ب"سلطان" من قبل الإمبراطور، له دلالته الكبيرة في الحبشة، ويعتبر اللقب بمثابة مندوب ومفوض فوق العادة، ويأتي من الناحيتين الاجتماعية، والتاريخية في موضع علو المقام، والمكانة الرفيعة في الأقاليم الحبشية، وقد ساد مثل هذا اللقب ردحًا طويلًا من الزمن ومايزال ساريًا إلى يومنا هذا في بعض الأقاليم الإثيوبية العشرة، مثل إقليم "العفر"، حيث يتميز صاحبه بقوة الحجة، والفطنة، وسعة الاطلاع، وإدارة شؤون الإقليم.

وأؤكد من جديد، أن زيارة الشيخ إلى الحبشة (إثيوبيا) قد قدمت أيضًا حلولًا ناجعة للجالية اليمنية شمالًا وجنوبًا، وجاءت الزيارة أيضًا في وقت لم يتواجد فيه تمثيل دبلوماسي مقيم لبلادنا (مفوضية أو سفارة)، وإنما تمثيل قنصلي لمتابعة شؤون المغتربين لم يرقَ إلى مستوى سفارة إلا بعد قيام ثورة 26 سبتمبر 1962م... الخ.


انتقل الشيخ الفاضل محمد عبدالحق الأغبري -رحمه الله وطيب ثراه- إلى باريه في الثالث من شوال 1399 هجرية، الموافق 25 مايو 1979 ميلادية.

وقد رثاه ولده الفاضل المغفور له بإذن الله تعالى الشهيد قائد عبدالحق محمد الأغبري -رحمه الله وطيب ثراه- بالأبيات الآتية:

أحقًا يا أبي حان الرحيل

وأدرك شمس دنيانا الأفول؟

وتخلو منك يا أبتي الديار

فتصبح بعد أن تمضي طلول

أبي قد كنتَ بالآباء برًا

وللأرحامِ يا أبت وصول

وكنتَ للجميع أبًا رحيمًا

وسمحًا ليس يغضبه جهول

وإن جار الظلوم رآك خصمًا

عنودًا لا يحابي ولا يميل

كما انتقل الشيخ الخلف علي عبدالحق محمد الأغبري، إلى جوار ربه، في 28/8/2005م، تغمده الله بواسع رحمته. واليوم يتبوأ المشيخة الفاضل عبدالغفور علي عبدالحق محمد الأغبري، أطال الله في عمره.

يقينًا، لم يمت الشيخ الجليل عبدالحق محمد عبدالله الأغبري، وإنما بقيت روحه النيرة وذكراه الطيبة، وأعماله الإصلاحية، حية في شغاف قلوب وعقول أبناء المنطقة، كما أن سيرته ظلت وستظل حية وباقية، وملهمة لأبنائه وأحفاده الذين تحملوا ومايزالون عبء المهام من بعده، وكما قالت العرب: "خير خلف لخير سلف".

تغمد الله الشيخ عبدالحق وأبناءه المغفور لهم بإذنه تعالى، بواسع رحمته، وأسكنهم الفردوس الأعلى من الجنة مع الصديقين، والشهداء والأبرار، والصالحين، وحسن أولئك رفيقًا. فطوبى لهم وحسن مآب.

ونؤكد أن المسيرة بإذن الله ستتواصل مع أبنائهم وأحفادهم الكرام الذين أخذوا على عاتقهم رفع راية المشيخة الصالحة منذ عشرات القرون، بسمو وعلو ورفعة، لمواصلة المشوار في خطى السلف الصالح جيلًا بعد جيل.

وفقهم الله وسدد خطاهم إلى ما فيه خير اليمن.

الكلمات الدلالية

إقرأ أيضاً