يصادف اليوم 11 نوفمبر التحاق المساح بوزارة الخارجية عام 1970، وتسكينه مع دفعته بدرجة ملحق دبلوماسي. الدفعة كلها رقيت بعد أسابيع قليلة إلى درجة سكرتير ثالث، ماعدا الزميل عبدالسلام خالد كرمان، والد السيدة توكل، الذي رقي بسرعة البرق، وبدون استحقاق، إلى درجة سكرتير ثانٍ، ومع هذا لم يطل به المقام في الخارجية، وانتقل للعمل كوكيل لمجلس الشورى. الدفعة التي امتحنت ونجحت، ضمت المرحوم محسن الشعبي وأحمد الأكوع وشرف الصايدي وعبدالسلام كرمان، وعلي محسن حميد.
محمد عبدالله المساح
هنا أسلط الضوء على جزء غير معلوم من سيرة الكاتب الصحفي الكبير والروائي الزميل العزيز المساح الذي التحق بوزارة الخارجية، وعمل بها سنة أو أكثر، وقبل هذا حاول تجربة حظه للعمل في عدن التي عاش فيها طفولته وبعض شبابه، حتى قيام ثورة سبتمبر، ولكنه سرعان ما غادرها لعدم وجود "حتى شجرة بها". انتقل المساح من عدن إلى تعز بعيد ثورة سبتمبر، لتوفر دراسة مجانية وأكثر جودة بها من تلك التي في عدن على أيدي أساتذة مصريين ومنهج تعليمي مصري، إضافة إلى فرصة الالتحاق بالقسم الداخلي الذي يوفر السكن ومعيشة يومية متواضعة. أتى المساح من عدن مع عشرات من أقرانه من أبناء تعز، وشكلوا أغلبية طلاب الصف الأول الثانوي، وحولوا طلاب المدرسة الأحمدية الذين امتحنوا أول شهادة إعدادية مصرية، عام 1963، إلى أقلية رغم انضمام زملاء لهم من مدرسة النجاح بالجحملية، كمحمود جمال وأحمد محمد الحرازي وأحمد محمد زلعاط. تغير اسم الأحمدية بعد الثورة إلى مدرسة الثورة. من القادمين من عدن أتذكر: أحمد عبده قاسم وعبده سعيد طشان وعبدالله أحمد نعمان (الطويل) وعبدالحليم عبدالله وعبدالكافي غالب حسن وعبدالتوب قائد عبدالله الحميدي وثابت أحمد عبده وأحمد محمد مقبل وأحمد محمد البرق وعيسى محمد سيف وعبدالرحمن ثابت وعلي بن علي محمد الحروي وعبدالعزيز محمد أحمد العبسي وحمود محمد غالب ومحمد عبدالجليل الدبعي وعباس محمد علي ومحمد مرشد ثابت وحسن أحمد سلام وعبدالله قاسم عون الأديمي، وغيرهم من الذين لم تحضرني أسماؤهم الآن.
وبعد النجاح في أول ثانوية عامة في اليمن الجمهوري، عام 1966، حصلت دفعة عام 1966 على شهادة الثانوية العامة الصادرة عن المدرسة الإبراهيمية، نسبة إلى القائدإبراهيم محمد علي باشا، بحي جاردن سيتي بالقاهرة، برغم أن الامتحانات كانت لطلاب المدارس الثانوية الثلاث، صنعاء، تعز والحديدة، في مدرسة الثورة بصنعاء، وقد التحق كل طلاب دفعة الثانوية العامة (77 طالبًا) على نفقة مصر بمختلف الجامعات المصرية. التحق المساح عام 1966، بكلية الآداب -قسم الصحافة، وتخرج فيها عام 1970، ولم يتخلف سنة دراسية واحدة.
عرفت المساح معرفة سطحية في تعز، رغم انتمائنا إلى "حركة القوميين العرب"، وفي القاهرة سكنا معًا في شقة "الحركة تجاوزًا"، في 4 أ. شارع بكري الصدفي بالمنيل، شقة رقم ٤، الدور الأول، لثلاث سنوات تقريبًا. سكن قبلنا في نفس الشقة أحمد عبدالله عبدالإله الذي ذهب بعد تخرجه للعمل في الجنوب بعد الاستقلال، بطلب من الرئيس سالم ربيع علي، كما أفاد عندما عبرنا له عن عدم ارتياحنا لذهابه للعمل في عدن لاحتياج الشمال له أكثر بكثير من الجنوب الذي توجد به دولة وتنظيم سياسي الخ.
حل محل أحمد عبدالله، وفي نفس غرفته، ابن أخيه حسين محمد عبدالله الأغبري، وسكن معنا لفترة قصيرة زميلي في المدرسة الأحمدية الشهيد إسماعيل محمد الكبسي، قائد الإضراب الأول من نوعه في اليمن المتوكلي لطلبة المدرسة الأحمدية في أغسطس 1962، ومحمد علي حميد الشامي ومحمد عبدالجليل الدبعي. كان المساح أكثرنا إنفاقًا على الكتب والمجلات، وقراءة، وأقلنا استقرارًا في الشقة. وبواسطته هو والشامي تعرفنا على زميلهما في الدراسة الصديق بدر سيد سليمان الرفاعي، ابن أحد قادة حزب اليسار المصري "حدتو" الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني الذي ذكر خالد محيي الدين في مذكراته "والآن أتكلم"، أن عبدالناصر كان يعايرهم ب"زعيمهم الميكانيكي"، الذي كان مهندسًا في واقع الأمر مهندس طيران. عمل المساح في الخارجية، بيت الكبسي الذي صودر بعد الثورة، في إدارة العلاقات العامة مسؤولًا عن النشرة الأسبوعية التي كانت تصدر بانتظام وتطبع بالاستنسل، وترسل إلى السفارات، وتتضمن أهم أخبار الدولة والخارجية، والتي كان يقرأ العاملون في السفارات أول ما يقرؤون فيها أخبار التعيينات والترقيات والاستدعاءات والوفيات، وكانت نشرة مهنية لا يتدخل في عمل رئيس تحريرها ومحررها، أي المساح، أحد من الوزارة أو من خارجها، كما حدث لاحقًا عندما كان لا يخلو عدد منها من صورة ملونة أو أكثر للرئيس الراحل علي صالح، مع افتتاحية تشيد بعهده "الميمون".
انتظم المساح في دوامه كبقية الموظفين لفترة قصيرة، يجيء صباحًا، ويغادر في الثانية ظهرًا، إلى أن دلته فطرته التي فطر عليها، أي الحرية، والتجربة العملية، أن بإمكانه أن يصدر النشرة بعد الظهر، وأن لا حاجة له للالتزام بروتين الدوام. استمر على هذا المنوال لفترة، حتى قيل له إن عليه أن يداوم كبقية الموظفين. جادل المساح طويلًا، قائلًا هل قصرت في واجبي، وألا تصدر النشرة في مواعيدها؟ فقيل له نعم، ولكن لا مفر من الدوام. اعتبر المساح ذلك مساسًا بحريته، وقدم استقالته من الخارجية، والتحق بوزارة الإعلام، ضمن كتاب جريدة "الثورة" التي كتب فيها مقالات شتى في مواضيع مختلفة، ومنها رائعته "حفلة إعدام"، بعد مشاهدته قطع رأس في ميدان التحرير، قبل أن يستقر على كتابة عموده اليومي "لحظة يا زمن"، في الصفحة الأخيرة من جريدة "الثورة"، وكان أشهر عمود فيها.
المساح الحر يمارس حريته اليوم بدون قيود في قريته، مع معاناة معيشية شديدة بسبب الحرب والحصار، قريته التي ظل وفيًا لها وهو في صنعاء، وكان يزورها بين الحين والآخر، وليس في الأعياد فقط، كبقية موظفي الدولة من خارج العاصمة صنعاء.. المساح خلد سيرته النقية بطهارته ونظافة عقليته واستقامة قلمه والتزامه بالتعبير عن مصالح وأنات الناس، كل الناس، وكان من حسن حظه أنه لم يعتقل، وقد هدد مرة واحدة بالاعتقال لكيلا يكرر الكتابة عن الأراضي اليمنية التي تمت تسوية مشكلتها عام 2000.