بالو... بالو... بالوووه... من يكره اللقمة الطيبة، واللبسة النظيفة، والنومة الهنية؟ من؟ هذه هي حكمة حياة عبدالله اليهودي، وأشاطره إياها.. فالحياة بلا هذا.. مجرد بلاهة مجردة.. عظمة عبدالله اليهودي هي أنه يأخذ الحياة كما هي، لا كما يريدها أن تكون.. لذلك تمرغ في نعيم الحياة طيلة حياته.. إلى أن بلغ الثرى.. وعاش هنيئًا حتى لما جزع على رأسه موس التأميمات، الذي جرده من كل شيء حتى من مكان رقاده.. كان يقول: التأميم آذا موس جازع على كل رأس، ورأسي من جيز ريوس الأمة! وسنأتي على ذكر ذلك في حينه لاحقًا.
كان طوال حياته يحجز مائدة عشاء يتناوله بين الساعة الخامسة، والسادسة، كل يوم عند كبابجي بالو الشهير.. كل يوم بلا استثناء، ولم أسأله عن بقية وجبات يومه.. بالو كان الكبابجي الوحيد الذي بقي لعدن من أية وجبات مماثلة بعدما كانت كريتر (وغير كريتر) تعج بالمطاعم الكثيرة التي كانت تفترش العراء في الفراغات الكريترية الكثيرة في ساحة الميدان، حيث بني مجمع صحي احتل المكان.. وزالت كل تلك المطاعم من الوجود بفعل التعرية وتقلبات الدهر.. ولم يبقَ في كريتر غير بالو.. وحتى ليس بالو كله.. وإنما ما بقي فيه ومنه.. فتعالوا بنا إلى جولة زمنية تمتد قرابة نصف قرن، وربما أكثر.. في كريتر على وجه التحديد، فكريتر هي الأصل والفصل والأب والأم لعدن الكبرى بعد ذلك.
عندما بنى مستر حمود فندقه الكبير، التلال، خلف سينما هريكن التابعة له أيضًا..كان الطابق الأرضي كله لذلك المبنى مخصصًا لأكثر من عشرين مطعمًا ومقهى لمختلف وجبات الطعام من قلابات ومشاوي عدن المطلوبة.. وكان الميدان -حيث بني المجمع الصحي- يضم عشرات المطاعم في العراء، تقدم أفضل ما يمكن طلبه من وجبات الطعام.. علاوة على عمارات عبده حسين الأدهل المجاورة، التي كان تحتها مطاعم أخرى من ركنها وحتى مشارف محطة الباصات.
عندما احتفل المعلق الرياضي الشهير، جعفر مرشد، بعيد ميلاده، دعانا إلى عشاء متأخر في مطعم النمر هناك.. وأيقظنا عبدالله اليهودي ليشاركنا العشاء المبارك.. فكيف تصرف المرشد؟ كعدني كلاسيكي كذلك ذهب بسيارته الفولكس واجن إلى المجزرة التي كانت بحي العيدروس بمحاذاة الجبل، وكانت تعج بالذبائح تحضيرًا لأسواق عدن في ما بعد العاشرة ليلًا.. ومن هناك جلب كمية من اللحوم والكبدة والكلاوي، وسلمها لمطعم النمر ليحضر لنا مائدة عشاء عدنية مشكلة تليق بعيد ميلاد معلق رياضي شهير.. أما المسكين عبدالله اليهودي الذي كان سبق له تناول عشاءه اليومي عند بالو.. فقد شاركنا بالنقمام ما استطاع مجاملة.. وكانت عشوة أم العشوات.
تلك الأيام كان مطعم بالو لايزال في كامل جهوزيته.. مع الجد.. والابن بعده، وحتى وصل إلى الحفيد الآن مع الشاب عادل الذي يشتغل ممروح على الفحم حتى يصير جمرًا.
بكم كان العشاء في بالو زمان يا عبدالله؟ أسأله.. فيقول: ايهيه.. أيام الشيبة كان العشاء بثلاثة شنن (يقصد شلن طبعًا)، لكن أيش.. كان المكان العشاء الواحد، لحم ريش، شاب، مع كبدة، ومع كباب (كفتة يعني) مع قليل بسابيس، ولا أنت تشتي كمان قليل فاصوليا، حمراء وإلا بيضاء، يجيبوا لك من المكان اللي جنبه.. ولو فاصوليا مع سبلة وقوارمة ينتولوا لك من عند الأمين، تحت بيت جعفر مرشد.. وتدق عشاء حناني طناني لما يبرد رأسك.. وأبو الليم العصير جاهز كمان.. وبعدين الشاي لانت تشتي من الطارف..! إيييه.. والله الحياة اتعطلت بالكل.. بعدين لمن زاد السعر وصل عشاء بالو بكله إلى أربعة شنن وونص مكمل معمل من مجاميعه.. ما لك.. مش من أجاء دخل يتعشي عند بالو.. الناس يأكلوا عند أبو شنن، أو شنن وعانتين.. شنن ونص لا كثر.
بعد العام الثاني من السبعينيات، دخل علينا الموس الجازع على كل رأس، على قولة عبدالله اليهودي.. يعني التأميم.. والأيام السبع المجيدة.. والإسكان.. وما أدراك ما الإسكان.. وشلحوا عبدالله من كل شيء، العمارة.. وريكس بازار اللي تحتها، واللي كان فيبه كشح يرقد فيه عبدالله.. ويعيش، خرج لأنه البازار تجاري، وغير سكني، والعمارة بكل شققها ما كان فيها شقة لعبدالله، كانت كلها مؤجرة ومسكونة، وشملها قانون التأميم.. أما الأخ المحترم عبدالله اليهودي فقد رمي في الشارع، لا سند ولا ولد.. لكن بايقع خير يا عبدالله.. ولا يهمك.. بانشوف لك المحافظ منشان تعويض وإلا حل إنساني مناسب.. لكن ذلحين أنت معاد لكش مكان يؤويك؟ ما معكش مكان هنا وإلا هنا؟
قال: من فين؟ما عاد بقاش معي إلا ...