هيا اندكوه.. اندكي سيارة الشرطة وصلت يا سعيد! والله سواها عبدالله اليهودي من صدق! أنا إلا كنت أحسبه يمزح.. وعبده أبو ركبة بكله يسوق السيارة! ناداني محمد عبدالمنان الذي كان يجلس بجوار علي غانم يتسليان بالدومينو، ومحمد مخزن كعادته اليومية التي لم ينقطع عنها أبدًا حتى في أيام منع القات عندما كان يدخره بداخل "برتن" في ثلاجته لبقية أيام الأسبوع، وتلك قصة أخرى تستحق أن تروى، إذا بقي في العمر متسع، وفي السنين جدوى..
أما عبده أبو ركبة فهو الشخصية الألمع في شوكي كريتر.. يلمع فيها كلمعان سنة الذهب التي تزين فكه الأعلى.. حكيم.. رصين.. يعرف كيف يعمل، ويتصرف وفق معرفته بناس المسافر خانة.. وبناس كريتر كلهم.. ولما سمع من عبدالله اليهودي قصته مع محمود إربد.. ضحك وأصر على المجيء بنفسه مع اثنين من شرطة كريتر احتياطًا..
وهذه قصة لعينة عمرها شهران بين عبدالله والإربد حين جاء اليهودي المقهى، وعرض قماشًا للبيع يحمله على يده.. قال للإربد: شل لك بدلة يا ابن الإربد شيك نفسك! قال الإربد عبارة اعتاد على ترديدها مع الزمن: مافيش.. ماش معي فلوس.. ولا بيسة ولا اردي.. اتقفع لما هو؟ قال له اليهودي: سهل يا رجال.. بايفتح الله.. شل وبعدين آخر الشهر حاسبنا بالفلوس.. ساي؟ أيوه قول ساي أنا افدا أبوك.. قال الإربد: بس باتساعدنا بالقيمة؟ قال اليهودي: من عيوني.. البز بخمسة دينار، وباحسبه لك بأربعة.. أنت حبيبي.. ساي؟ قول ساي!
ولم يتردد الإربد أمام الإغراء عن قولة ساي -وهي في العدنية الكلاسيكية "تمام"- وشل البز.. وقام وداه بيت صهره عبدالقادر، على بعد خطوات في طريق حافة حسين.. ورجع.. وجزع الشهر الأول إلى آخره، وطلب اليهودي فلوسه.. ورد عليه الإربد بعبارته التاريخية: مافيش معي فلوس! ووقعت غاغة صغيرة سمعناها كلنا.. قال اليهودي: شوفوا يا جماعة.. أنا ماناش بخيل، لعن أبو من كان جده بخيل.. عادنا شندي له شهر بضمانتكن.. وشهادتكن..
قال له المنان: قل بشهادتكم مااحناش حريم.. خلاص. نحنا شهود.. وكان المدي يسمع الكلام بتمعن دون أن ينطق بغير ضحكة طويلة مكركرة يهز لها رجليه للأعلى، ويدق بهما على الأرض دقات متواصلة ذات مغزى.. ومن على طوار الشارع صاح الحمادي صاحب الجاري اللي يبيع لنا منه السيجارة سلف، قال: هيا ناهي.. قا له شهر ما أداليش حق السيجارة التري فيف (سيجارة التري فيف 555 حق أمين قاسم).
واستبينا على كذا.. وافتهنا.. ووزعت أوراق البطة.. ورجع المنان للدومينو مع علي غانم، قاته بلقفه.. وبيده قارورة كندا كان يخلي الغطاء فوقها.. ويخزقها بمسمار.. ويبزي منها الشراب.. وقارورتا مي من الزجاج الكبار، لأنه هذيك الأيام ماكناش نعرف مي البلاستيك حق هذي الأيام.
كمل الشهر الموعود والإربد فرك بنا وباليهودي.. وكرر القول: من فين أجيب له؟ مافيش معي فلوس.. وما كان من عبدالله اليهودي بعد فشله في تحصيل فلوسه إلا الذهاب إلى الشرطة، والبلاغ، وهل علينا عبده أبو ركبة بسيارته... وأدار معنا جولة مفاوضات بناءة أسفرت عن أنه الإربد يا يدفع.. يا يرجع القماش لعبدالله اليهودي.. أنت فصلته وإلا عادك؟ سأله أبو ركبة.. أجابه الإربد: أفصله كيف؟ يا ناس الله أيش ماتفهموش؟ أقول لكم مافيش معيا فلوس! قال المنان ساخرًا وهو يضحك: يعني اقرع ونزهي؟ وهنا تدخل عبده أبو ركبة للحسم، قال: خلاص هذا هو الحل.. ثم قال لعبدالله: أنت باتسترجع البز حقك.. مفهوم؟ استبينا؟ قال اليهودي: ساي.. أنا قابل يرجع لي حقي البز. وسأل أبو ركبة الإربد: فينه البز يا محمود؟ قال الإربد ويشير إلى اتجاه حافة حسين: اندكو هناك.. عند أختي ببيت صهري عبدالقادر.. قال أبو ركبة: يالله قوم.. سرينا إلى هناك.. واجتمعنا، الحبايب كلنا في موكب عظيم نحو بيت الصهر عبدالقادر، قال اليهودي يسأل أبو ركبة: أركب الموتر.. وإلا أمشي؟ أمسك به المنان بيده، وقال له: والله ما ركبت.. امشي معانا أنا حميسك.. أنا حقك الضمين.. قال عبدالله: ساي... ومشينا.
استكثر محمود إربد الصعود إلى بيت صهره الكائن بعمارة الأصنج بحافة حسين في الدور الرابع.. واستكفى بمخاطبة أهل البيت من مكانه وهم يردون عليه من التاقة، أي الطاقة.. ودار الحوار من تحت إلى فوق، في مشهد عظيم لا يليق إلا بحافة حسين.
وبعد عدة دقائق.. رأينا منظرًا كان يستحق التسجيل صوتًا وصورة.. رأينا.. اللهم اجعله خير.. رأينا قماش ريكس بازار وهو يلقى من نافذة بيت الصهير.. ويتلوى في الفراغ.. وعبدالله يلاحقه لكي لا يقع في الأرض.. وفعلًا لحق بالقماش قبل وقوعه على الأرض.. لكن كوفية الفاتيكان التي كان يعتمرها عبدالله هي التي وقعت على الأرض..
أخذ الكوفية، ونفضها من التراب، ولبسها.. وكان المنان أخذ منه القماش، ليساعده في محنته العصيبة.. ولما رجع إلى نفسه واتسانا.. نظر إلى محمد عبدالمنان بتأمل، وقال له: شل البز يا منان أنا افدا قلبك.. شل حبيبي.. والحساب يدور.
لكن المنان سلمه القماش وقال له:
- يا عبدالله.. يا عبدالله.. أيش أنت ما تتوبش؟ أبدًا ما تتوبش!