صنعاء 19C امطار خفيفة

استنقاع

2009-08-27
استنقاع
استنقاع
> منصور هائل
كل هذه الحروب المتكررة، المتواترة، المستدامة، الملتهبة، والنائمة، والميليشيات القبلية و"الحوثية" والجهادية و"القاعدة" والمغلفة باسم "الدفاع عن الوحدة" و... انسداد أبواب الحوار بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة، وانسداد طريق المعالجات والتسويات السياسية للحرب الكارثية في صعدة، وللقضية الجنوبية، واندلاع وتفشي العنف بحدوده القصوى وقوته الهستيرية والعمياء، وغير ذلك من "التفاصيلـ" التي تطالعنا بما يفيد أن الأزمة البنيوية الشاملة التي تعصف بالبلاد أصبحت متوجة بانحطاط كاسح ووخيم رشحت به حالة تشبع البلاد بـ"استنقاع الأزمة"*، وهو الاستنقاع الذي يفضي إلى سيرورة سريعة من التفكك والانحلال وتتجلى معالم ذلك في التقاتل والتذابح واحتدام النزاعات والمواجهات الطائفية، المذهبية، القبلية، الجهوية، وكل ما يبدد معنى الوطن والحياة والمجتمع.
ولم يأت كل هذا العنف الوحشي والمحصن بالمقدس من فراغ، وهو ليس محصلة لسياسات وممارسات الإقصاء والتهميش والتمييز الجهوي أو المذهبي فحسب، بقدر ما يعتبر محصلة، أيضاً لإفلاس وعجز النخبة السياسية وكافة الأحزاب التي مارست السياسة بنقيضها من وهلة ظهورها عندما أخذت بوسائل العنف، وتغنت بالبندقية، ومجدت السلاح، وأشاعت ثقافة العنف، وأسست لشروط تدمير السياسي لمرحلة طويلة من تاريخها، وإلى أن كان ما نشهد الآن من مذابح مروعة، ينبغي ألا ننخدع بتصنيف كل مذبحة حسب التوقيع الخاص الذي تحمله، لأن الأصل في القتل واحد.
ثم كان خراب التعليم، وانتشار معاهد ومراكز التعليم "الديني" السلفية والوهابية والزيدية المفرخة لكتائب الإرهاب والتكفير، وشيوع التصورات الماضوية التي تتلظى بالتراث، وعدم الاعتراف بالتبادل وبالآخر، وما إلى ذلك من المفردات التي كرستنا في زمن آخر غير الزمن الذي تعيشه البشرية المعاصرة، واستبقتنا كحفريات حية دالة على ماض غابر، وعلقتنا في اللازمان واللامكان.
العجيب أننا أصبحنا نتعجب مما نشهد ونسمع ونقرأ، وكأنه يأتينا من كوكب آخر.
نعجب من رئيس الجمهورية حين دعا الجيش في خطابه الأخير إلى استلهام "غزوة بدر" لحسم المعركة مع "الحوثيين"، ومن "الحوثيين"، فيهم من تخرج من مركز بدر لتعليم الزيدية، حين يستلهمون الغزوة إياها، ومن تنظيم القاعدة في اليمن الذي كان في 17 رمضان من العام الماضي، وهو اليوم الموافق لغزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون قبل 1428 عاماً، نفذ عملية انتحارية على السفارة الأميركية بصنعاء أطلق عليها "غزوة بدر"!
وليست حالة "طماح" الذي أعلن من جبال يافع أنه القائد العسكري للحراك الجنوبي، ولا حالة طارق الفضلي الذي أصبح نائباً لرئيس مجلس قيادة الثورة في الجنوب، ولا حالة الجماعات المسلحة التي تصول وتجول في مدينة جعار، ولا حالة القتلة وقطاع الطرق الذين أصبحوا فرسان الميدان... ليست كل هذه الحالات خارجة عن السياق.
وحتى خطاب الأحزاب يقف على نفس الخط؛ فهي تختزل الأمر بشخص الرئيس، ولا ترى الحل في أكثر من جز رأسه واجتثاث عائلته، مع أن هذا الرجل الذي يتربع ذروة "أزمة الاستنقاع»، لم يهبط علينا من السماء.
وليس غريباً أن تطالعنا الأحزاب بخطاب مثل هذا؛ فهي أسيرة للقيم التقليدية التي تقول بأحادية الرأي وسطوة الأب وبالمراتب والتفاوت بين البشر وترفض المساواة وتختصر الأحزاب إلى ولاءات جهوية وقبلية وعشائرية.
وينطمس الفارق بين كل تلك الجماعات التي تخوض حروبها الشرسة والمقدسة وكلها ترفع بيارق "غزوة بدر" أو الجماعات الحزبية -إن جاز التعبير- التي مازالت حبيسة بيت طاعة السيد الانقلاب، فالواضح أن التآلف مع الاستنقاع سوف يأخذ مداه الأطول في إنهاك وإهلاك أوصال البلاد، في ظل إصرار جميع الفرقاء على الاستمرار في التقاتل وتأبيد هزيمة البلاد والعباد، ومع انعدام أية بارقة بحل مستعجل أو حتى مؤجل.
< "استنقاع الأزمة": اصطلاح نحته المفكر اليساري الليبرالي اللبناني كريم مروة في آخر كتاب له صدر قبل أيام عن دار الساقي بعنوان "في البحث عن المستقبلـ"، ويقصد به: ما يفضي تاريخياً ومنطقياً إلى سيرورة بطيئة من التفكك والانحلال تتجلى في حركات دينية ومذهبية وقبائلية وجهوية.
mansorhaelMail

إقرأ أيضاً