"نحن الغد وهم الأمس، والأمس مضى والغد قادم" كلمات من نور قالها ذات يوم، شاب عشريني، انشغل بقضايا تسبق عمره، وتتجاوز ظروفه، لكنها لم تكن ابداً اكبر من عقله النابغ ووطنيته الممتلئة.
قائد ثورة سبتمبر
الشهيد علي عبدالمغني(شبكات التواصل)
إنه الشهيد البطل علي عبدالمغني، عقل ثورة الـ٢٦ من سبتمبر، ومفجر شرارتها الأولى. الثورة الخالدة التي بنى لبناتها الأولى بروحه الطاهرة، والتي من غير الممكن أن تمر ذكراها دون استحضار قادها الأبرز، كما أنه من غير الانصاف الخوض في أسماء عظمائها دون أن يكون على رأسهم الشهيد الخالد علي عبدالمغني.
في عام ١٩٣٧م كان اليمن المثقل بقيود الذل والهوان، وسياسة الاستعباد والظلام، على موعد مع ولادة بطل منتظر يخلصه من عصور الجهل والتضليل، ويرسم ملامح مستقبل مشرق تسوده الكرامة والمواطنة المتساوية والعدالة الاجتماعية.
وكان وادي بنا في أزهى وأروع صوره الجمالية يتهيأ لاستقبال قائد عظيم يحمل هموم شعبه ويشق طريق الحرية والاستقلال، فيما كانت قرية "بيت الرداعي" بمديرية السدة محافظة إب، على موعد لاحتضان علي محمد حسين عبدالمغني، الذي عاش طفولته في فسحات هذه القرية التي أسهمت في تفتح ذهنه على أوليات التعليم في القراءة والكتابة، ومن ثم قراءة القرآن، بعد أن أثبت الطفل قدرته غير العادية على الفهم السريع والاستيعاب القوي، فختم القرآن في سن السابعة كاشفا عن حبه الشديد والشغوف للعلم.
قبل ذلك كتب لهذا الطفل أن يعيش حياة اليتم مبكراً، حيث فقد والده وهو في سن الرابعة، لكنه كان يتمتع بالذكاء والأدب الجم الذي كسب به ود زملائه
كتب لهذا الطفل أن يعيش حياة اليتم مبكراً، حيث فقد والده وهو في سن الرابعة، لكنه كان يتمتع بالذكاء والأدب الجم الذي كسب به ود زملائه
ومعلميه فأنهى الطفل علي عبدالمغني دراسته في القرآن والتجويد وعلوم الدين والحساب في فترة قصيرة منذ دخوله مكتب "نعيان" في سن السادسة، فحظي بتكريم هيئة المكتب تقديراً لنبوغه الدراسي الفريد وتميزه النوعي..
وأعدت هيئة المكتب موكبا كبيراً هو الأول من نوعه شهدته المنطقة تكريم للطفل، وسط اجواء فرائحية شارك فيها زملاؤه طلبة المكتب وأولياء أمورهم وجمع غفير من اهالي المنطقة.
وامتطى الطفل على عبدالمغني حصاناً يقود الموكب الطلابي والشعبي نحو قرية بيت الرداعي، وسط الأهازيج والاناشيد الطلابية والزغاريد الشعبية وكأنهم كانوا يرون فيه ضالتهم المنشودة التي ستزيح عنهم كثب الظلام الامامية.
الطالب الذي أدار المدرسة
ألقى الطفل عبدالمغني كلمة بمناسبة ختمه للقرآن، وكان من بين الحضور الشهيد حسين الكبسي الذي اعجب بذكائه واندهش من فن الإلقاء لهذا الطفل وقدرته الخطابية، فدعاه للسفر معه الى صنعاء لمواصلة دراسته، وهناك التحق علي عبدالمغني بمدرسة الأيتام بصنعاء عام ١٩٤٦م وبذلك تحقق الحلم الذي كان يراود هذا الطفل كثيراً.
وكما هو المعتاد في هذه المدرسة وغيرها من المدارس، فإن الدراسة فيها تبدأ من الصف الأول، إلا أن اللجنة التي أجرت الاختبار للطالب علي عبدالمغني قررت ضمه إلى الصف الرابع نظراً لتفوقه وذكائه الحاد رغم صغر سنه.
وبعد أن أنهى دراسته في مدرسة الايتام انتقل علي عبدالمغني إلى المدرسة المتوسطة ودرس فيها ثلاث سنواتـ ثم انتقل إلى المدرسة الثانوية التي كان يمارس فيها نشاطه الثقافي والرياضي والسياسي ايضاً، حيث كان يكتب المقالات المتعددة في المجلة الحائطية التي كان مشرفا عليها في المدرسة.
وفي كل مراحله التعليمية لا يقبل مركزاً غير الأول حتى وصل الى الصف الثالث الثانوي فتوفي مدير المدرسة وظل مركزه شاغراً، فاجتمع المدرسون والطلاب واجمعوا أن يكون الطالب علي عبدالمغني هو القائم بأعمال مدير المدرسة لما يتمتع به من قدرات وكفاءات ولما يحظى به من احترام وتقدير وحب الجميع، فتولى إدارة المدرسة بكل نجاح واقتدار ولم يدم ذلك كثيراً حيث تم إدماج المدرسة الثانوية مع التحضيرية في مدرسة واحدة تولى إدارتها مدير المدرسة التحضيرية الاستاذ علي عبد الكريم الفضيل.
رفض الظلم
في آخر العام الدراسي أقامت المدرسة حفلاً تكريمياً للطلاب الأوائل حضره الأمير البدر، الذي كان حينها ولياً للعهد، وكان الطالب علي عبدالمغني هو الأول، إلا أن الفضيل، مدير المدرسة، ولأسباب غير معروفة عمد الى تأخير الطالب عبدالمغني الى المركز الثاني رغم احقيته في المركز الأول، ولم يعلم عبدالمغني بذلك إلا أثناء التكريم، حيث فوجئ باسم آخر غير اسمه في المركز الأول، ثم نودي باسمه في المركز الثاني فرفض النهوض لاستلام الجائزة لأنه أحس بالقهر وشعر بأن هناك من يريد ان يأخذ حقه غصباً وعنوة، فجلس على كرسيه فسأله البدر، عن السبب فرد عليه بقوة الحق وشجاعة الواثق: "هذا ظلم وأنا أرفض الظلم أينمـا وجد"، فكان لهذه الصرخة التي دوت في أرجاء القاعة أثر كبير ودلالات ذات معان فكت شفراتها في المستقبل، حيث أنها كانت أول صرخة في وجه الظلم أمام ولي العهد «البدر» الذي أمر مدير المدرسة بإحضار كشوفات الطلاب بعد ان شعر بالحرج والارتباك وبعد مراجعة الكشوفات اتضح للجميع أن الطالب علي عبدالمغني هو الأول بفارق 37 درجة عن زميله الثاني.
مجموعة الأكواخ
علي عبدالمغني(شبكات التواصل)
كانت مرحلة الدراسة الثانوية هي المرحلة الأولى التي أبرزت اهتمام علي عبدالمغني بالسياسة وكانت البداية بتأسيس مجموعة الأكواخ في المدرسة الثانوية مع بعض زملائه، (الاكواخ تشبه منتديات اليوم) حيث قام بوضع لائحة تنظيم شؤون الأكواخ المعيشية والرياضية والثقافية، بينما كان يمارس العمل السياسي بسرية تامة، وكتمان شديد لدرجة أنه لم يكن يفشي سره إلا لمن ينق به كل الثقة، وظل في عمله السري حتى وصل بفكرة إنشاء الأكواخ الى بقية المدارس فتأسست الأكواخ في المدرسة المتوسطة العلمية التحضيرية، وفي المدرسة الثانوية زاد التنافس بين الطلاب على انشاء أكواخ عديدة كانت تسمى بمسميات اشخاص.
كانت الأكواخ هي البداية الرسمية لممارسة عبدالمغني العمل السياسي ورفع مستوى الوعي لدى الناس ودفعهم نحو التغيير، كما كان لها دور في رفع مستوى النشاط الثقافي والرياضي للطلاب.
كان علي عبدالمغني يهدف من خلال الانشطة الثقافية والرياضية، مثل الامسيات الأدبية والمسرحيات وبعض الالعاب الرياضية الى خلق وعي لدى الناس بمدى انغلاق النظام حينذاك على نفسه، وحرمانه للشعب من التعليم ومن معظم الحقوق التي كان يعتبرها النظام خروجاً عن المألوف.
وبعد هذه المرحلة الهامة في حياته حاول علي عبدالمغني مراراً الحصول على منحة دراسية في القاهرة لاستكمال دراسته وزيادة معارفه حيث كان يرغب ان تكون دراسته في الأدب، إلا أن الظروف حالت دون ذلك، فواصل نضاله واختار طريق الحرية والكرامة خاصة بعد ان فتحت الكلية الحربية أبوابها ولم يستطع الالتحاق بالدفعة الأولى منها لأنه كان ما يزال في الصف الرابع من المرحلة الثانوية ( كانت الثانوية في ذلك الوقت أربع سنوات) فالتحق بالكلية الحربية في العام التالي مع الدفعة الثانية التي سميت فيما بعد باسمه بحكم أنه كان الأول على دفعته وبعد الكلية الحربية انتقل للعمل بمدرسة الاسلحة.
واثناء دراسته في الكلية الحربية فعل نضاله الوطني في إطار الأكواخ التي اتسع نشاطها فصار كوخه مزاراً للمناضلين والاحرار الذين كانوا يزودون اعضاء الكوخ بالعديد من الكتب والمعارف والخبرات السياسية والعسكرية مما اعطاهم قوة لتطوير نشاطهم وتوسيع حلقتهم المحدودة لدرجة وصلوا فيها الى عقد اجتماعاتهم السرية في منازل بعض المناضلين وكان الهم الأكبر الذي يشغل معظم مناقشاتهم هو كيف يمكن التخلص من الحكم الامامي الظالم فكان لتلك الاجتماعات مردودها الايجابي.
وعلى منحى آخر كان علي عبدالمغني يلتقي مع زملائه الذين توظفوا في وزارة المواصلات والصحة بترشيح من المدرسة الثانوية والذين تربطه بهم علاقة مبدا واحد وهدف مشترك.
عبدالمغني وعبدالناصر
بعد أن عين الطالب علي عبدالمغني مساعداً لدفعته في الكلية الحربية من قبل مدير الكلية باعتباره الطالب الأول بالمرحلة النهائية الثانوية، استطاع بحنكته وسياسته کسب ود الاخرين فتمكن من جذب قلوب اعضاء البعثة العسكرية المصرية ومن ثم وطد علاقاته بالقائم بأعمال سفارة جمهورية مصر العربية باليمن محمد عبد الواحد الذي زادت ثقته وصداقته بــ علي عبدالمغني حتى انه صار فيما بعد حلقة الوصل بينه وبين الزعيم الراحل جمال عبد الناصر ولقب لاحقا بالسفير المتجول للثورة اليمنية بين جمال عبد الناصر وعلي عبدالمغني. فبدأت مرحلة التواصل بينهما بعد انسحاب الأمام احمد حميد الدين من الاتحاد العربي الذي كان يضم مصر واليمن والسعودية وسوريا حيث استغل علي عبدالمغني هذا الموقف وحاول جس نبض جمال عبد الناصر حيال قيام ثورة في اليمن فارسل اليه رسالة أخبره فيها أن في اليمن وعياً ثورياً واعداداً للثورة ويريد منه معرفة رأي مصر في هذا الشأن فرد عليه جمال عبد الناصر برسالة وعده فيها بمساعدة الثورة،.
كان التواصل بين على عبد المغنى وجمال عبد الناصر، تواصلاً قومياً واتصال زعيم بزعيم لغرض مساعدة الثورة
كان التواصل بين على عبد المغنى وجمال عبد الناصر، تواصلاً قومياً واتصال زعيم بزعيم لغرض مساعدة الثورة والاعتراف بها حال قيامها والوقوف بجانبها دون أن يكون هناك أي نوع من انواع التدخل الخارجي في شؤون الثورة الداخلية او فرض الهيمنة والإملاءات التي كان يرفضها عبدالمغني جملة وتفصيلاً.
مؤسس تنظيم الاحرار
تحرر علي عبدالمغني من الخوف وعمل جاهداً على استعادة هوية شعب وكرامة وطن، فتمكن من قيادة واحدة من اهم ثورات التحرر في الوطن العربي، بالنظر الى واقع اليمن واليمنيين آنذاك.
يقول العميد علي ناحي الاشول في كتاب " ثورة ٢٦ سبتمبر دراسات وشهادات للتاريخ": «بالنسبة للجماعة الأولى التي دعت الى تأسيس تنظيم الضباط الاحرار فلا شك أن الشهيد البطل علي عبدالمغني هو أول من تبنى هذه الفكرة وعند انشاء التنظيم عهد الى الشهيد ومعه محمد مطهر أن ينشا تنظيماً في تعز مرتبطاً بتنظيم صنعاء على اساس ان يفجر تنظيم تعز الثورة باعتبار الامام احمد يقيم فيها».
ويقول رفيق دربه عبد اللطيف ضيف الله عضو قيادة تنظيم الضباط الاحرار:«علي عبدالمغني هو من وضع خطة تفجير الثورة».
اما المناضل علي بن علي عبد الله الحيمي احد اعضاء تنظيم الضباط الأحرار فيقول: « لولا قوة شخصية الشهيد علي عبدالمغني التي اجتمعت فيها كل عناصر ومقومات رجل القيادة الثورية وعشقه للثورة نفسها وثوريته الناضجة المتجذرة لما تحقق لتنظيم الضباط الاحرار حدث تكوينه واستمرار مواصلة دوره الوطني النضالي حتى نجح في عملية القيام بالثورة وكما عرفته زميلاً في المدرسة الثانوية وخلال الدراسة بالكلية الحربية ومدرسة الاسلحة رفيقاً وقائداً تنظيمياً في إطار خليتنا وفي إطار التنظيم ككل».
استشهاده
بعد سقوط النظام الملكي، تفتحت جبهات عديدة على الثورة بدعم من القوى الرجعية والمتمصلحة من الوضع الإمامي المظلم. وعندما علم الشهيد علي عبدالمغني بتدهور الوضع في جبهة صرواح مأرب وأن مشائخ المنطقة الذين كانوا مع الثورة قد نكثوا بالعهد وابدوا عداءهم لها، قرر الخروج الى مأرب مع عدد من الضباط لضرب التمرد والسيطرة على المنطقة ولم يصطحب معه من القوات سوى عدد من المدرعات والأفراد معظمهم من افراد الجيش النظامي غير المدرب على القتال، فضربت الحملة في كمين نصب لها في صرواح فاستشهد قائد الثورة مع آخرين بتاريخ 5 أكتوبر ١٩٦٢م. وهذه هي الرواية المتداولة عبر العقود الماضية والتي تحكي قصة استشهاد البطل علي عبدالمغني.
هناك رواية أخرى تقول بأن الشهيد لم يخرج للقتال، وإنما لزيارة المنطقة ومد قبائلها بالعون لتجنيد شبابها في جيش الثورة، لصد أي عدوان محتمل من قبل القوات البريطانية عبر "حسين الهبيل" سلطان بيحان، وبأنه اصطحب معه بعض المهمات والسلاح بطانيات - ملابس عسكرية، وذخيرة للجنود الذين سيتم تجنيدهم من ابناء المنطقة والمتمركزين على الجبال والطرق المؤدية الى صنعاء حسب اتفاق بين الشهيد ومشائخ المنطقة، ومنهم الشيخ علي ناصر طريق والشيخ غالب الاجدع، وآخرين من مشائخ مأرب والجوف وحريب، مما يعني ان القوة المحدودة التي خرجت مع الشهيد كانت بغرض الحراسة ولم تكن قوة قتالية.