شهدت قمة العشرين التي عقدت مؤخرًا بالعاصمة الهندية نيودلهي، علامات انبثاق عالم جديد، محاولًا الإزاحة عن كاهله ما يثقله من قيود وعراقيل هي عائدة بالطبع للخلل المتراكم ببنيتها الاقتصادية والسياسية، خلل أنتج علاقات غير سوية بين دول الشمال الأغنى ودول الجنوب الأغنى... الأفقر...
حيث تركت هذه الدول مرتعًا للفقر المستدام نتاج مشاكل الاستعمار المنتج ضمن مفاعيل أخرى لعوامل التخلف مما جعلها مجرد أسواق للاستهلاك، ومصدرًا رخيصًا للمواد الخام الأولية، مواد وسلع ذات أهمية قصوى كالنفط والغاز وغيرهما، لكنها للأسف وعمدًا ظلت قابعة تحت سيطرة الاحتكارات الغربية، تمددًا من مرحلة تواجد النفوذ الاستعماري المباشر، إلى مرحلة الاستعمار الداخلي أو الناعم عبر السيطرة على مقاليد الأمور عبر مفاهيم الدمقرطة وحقوق الإنسان، وتخليق صراعات داخلية تعقد حسابات السياسة المستقلة وطنيًا، وتضيع ضمن فبركة مقصودة وتصعيد عناوين لملفات ثانوية تجذب الانتباه بعيدًا عن ولوج ميادين تنموية حقيقية متعددة ذات جدوى اقتصادية تمكن من الخروج من كهف التخلف الاقتصادي، وسياج الاحتباس داخل الأواني المستطرقة لهيمنة وسيطرة رأس المال الأجنبي المغذي للصراعات الجانبية التي تستنفد الموارد، والنتيجة تستفيد منه عناصر التغول الغربي الرأسمالي.
هذه المقدمة كانت ضرورية، ونحن نحاول فهم فهلوة الحاوي الأمريكي الرئيس بايدن، الذي حل ضيفًا ثقيلًا على المؤتمر، وهو المسكون بهواجسه الانتخابية الداخلية، وبحملات إزاحته عن منصبه من قبل منافسيه، واعتقادًا منه بأن غياب الدب الروسي والتنين الصيني سيجعلان منه قائدًا لأوركسترا مائدة فرسان معركة قادتها دول مجموعة العشرين الأقربون للمولى الأمريكي..
هكذا كان عقله الباطن يحدثه، بخاصة وقد أتى متباهيًا وقد أجج عبر آلية الرأسمالية المتحفز دومًا للحروب يشعلها هنا أو هناك من ساحات العالم، معتقدًا تمامًا كرأسمالي عتيد، بأن سلاح الرأسمالية المنتصرة دومًا هو آلية الحروب، وتأجيجها بشكل أو بآخر. ومن جانب آخر، وكما يقول الخبير الاقتصادي الهندي لدى البنك الدولي، راغورام غ. راجان، في كتابه الضخم "خطوط الصدع": كيف لاتزال الشروخ المستترة تهدد الاقتصاد العالمي.
إذ إنها، إلى جانب إشعال الحروب، عاشت على تدفيع العالم نتائج تلك الحروب، ولم يدر بخلد المارشال الأمريكي أن العالم قد فهم واستوعب على نحو متزايد لجوء أمريكا لإصدار المزيد من الدين لتمويل عجزها الدائم. هذه الإشكالية تناساها بايدن عمدًا، كما تناسى العديد من أولويات التفاهم الدولي الباحث عن تفاهمات لإطفاء الحروب.
تناسى الضرورات المطلوبة لمعالجة قضايا الفقر، وقضايا الاحتباس الحراري، قافزًا بشكل متعمد استعراضي، على كافة القضايا ذات البعد الإنساني الحقيقي. أتى متهورًا، قافزًا على قضايا ومصالح شعوب العالم. أتى مهرولًا بطريقة الكاوبوي، ليجلب الأنظار لمشروعه الفهلوي لتجارة علي بابا بين الهند والخليج، ثم منطقة الشرق الأوسط، وصولًا لأسواق أوروبا. صحيح مشروع عملاق سيبنى ويشيد على أكتاف ضحايا كثر كانوا مستهدفين بالخفاء والعلن، في الأضابير السرية لهذا المشروع المدعوم صهيونيًا، مشروع طريق الحرير الجديد الموقع عليه من قبل العربية السعودية والهند ودول أخرى، والمدعوم أمريكيًا بشدة، حاملًا في طياته أهدافًا أساسية، منها:
محاصرة طريق الحرير
محاصرة طريق الحرير، الحزام والطريق الذي ستبدأ أنوار أفاعيله خلال العام القادم، وهو أمر يقلق، بل يزعج أمريكا كثيرًا. إذن محاصرة وعرقلة هذا المشروع مسألة لا حياد فيها أمريكيًا، وثانيًا لا تنظر أمريكا بعين الرضا لدور الصين الفعال في محاصرة وتسوية الخلافات الإيرانية السعودية، بل ترى ذلك اقتحامًا وتهديدًا لمعبد تعودت المنطقة على إدارة ملفات الصراعات وفق الطقوس الأمريكية، محققًا أولًا وأولًا أمن ومصالح إسرائيل. لذا تفكر الإدارة الأمريكية ثالثًا عبر مشروع طريق الهند الخليج لإحداث كل ما يمكنه أن يشل أي شكل من أشكال التعاون خارج المنظور الأمريكي، يقود ويؤدي لتبريد الصراعات بمنطقة الخليج والشرق الأوسط عمومًا، ومنعًا لتنامي النفوذ الصيني الروسي في منطقة الشرق الأوسط، مصلحة وأمن إسرائيل هو الأساس.
بالطبع الأمريكي لم يكن على وفاق مع توجهات الخليج النفطية مؤخرًا، لم يكن على وفاق مع السياسات المستقلة التي باتت السعودية والإمارات تنتهجانها في قضايا تسعير وتصدير النفط، تناقضًا مع الموقف الأمريكي. أمريكا على تضاد مع مبدأ أوبك بلس أمريكا مع الحصار وتضييق الخناق على روسيا أولًا وإيران والصين ثانيًا، لذا قدمت هذا المشروع كرشوة، إذ إن أمريكا هي آخر المستفيدين كما قال الرئيس بوتين، هي فقط تستفيد متى خلقت عوائق أمام كل من الصين وإيران وروسيا، ما يهمها أكثر خلق منافع جمة لدولة الاحتلال عبر ربط موانئ فلسطين المحتلة بالطرق البحرية والبرية عبر السكك الحديد إلى أراضي فلسطين المحتلة، وعلى حساب ومصالح مصر وسوريا والأردن ولبنان.
لكن القراءة الأمريكية للأمور لها خطوط طول وعرض أخرى، آخر ما تفكر فيه مصالح العالم. نهج جعل أمريكا عظيمة أولًا ومجددًا، هو المهيمن. لم يدر بخلد بايدن المسكون -كما أشرنا- بهواجسه الداخلية، واستحقاقات انتخابية قادمة، لم يدر بخلده أن الرياح لا تأتي دومًا بما تشتهي السفن، بخاصة إن كانت سفنًا غازية، إذ لم يعد الوقت يعمل لصالح أمريكا. نعم هي لاتزال الأقوى عسكريًا، تهيمن من خلال دولارها العاجز، وتضخمها الجامح، على رقاب شعوب وبلدان، لم تعد تستهوي جبرًا السجن داخل دوامة هذه اللعبة التي طالت.
انتهى زمن التوجيه بالريموت كنترول، تبدد عرش البترودولار، السعودية باتت تقول لا، أسعار الطاقة تحققها معايير غير أمريكية، بات العالم يبحث عن تعادلية جديدة. فهذا بيان قمة العشرين، وبغياب روسيا والصين، كان حريصًا، وتوخى مصلحة السلم العالمي، ولم يصدر بيانًا يدين روسيا في عمليتها الخاصة بأوكرانيا، كما كان يرغب ساكن البيت الأبيض، دعك من زيلينسكي، مجرد لعبة. كان بيانًا صادمًا للأمريكان. النظرة الأحادية بعيون أمريكية غربية ضاغطة مآلها الزوال.
هناك عالم جديد يتشكل، باتت قوى صاعدة تصنعه وتهيئ لخارطة جيوسياسية ذات علاقات دولية جديدة تحقق مصالح الجميع، شركاء لا أتباع. نعم سيكون مطلوبًا مسافة من الزمن، لكن خطوات البريكس مستوعبة تمامًا متطلبات آفاق واقع عالمي تسوده علاقات التكافؤ، وليس الإخضاع والتبعية، لذا سيكون البريكس عنوانًا للأمام، يسير على هدى وقع فلسفته الجديدة، حيث كانت الحلة التي تم ارتداؤها في نيودلهي، ليس لباس اليانكي الأمريكي على حساب الهندي الأحمر الأمريكي، ولكن كان للساري الهندي حضوره.
وكل التمنيات أن ينجح العقال العربي في استيعاب أين تكمن مصالح عالم عربي زاخر بالإمكانات، تمزقه الصراعات التي لا تغيب عنها الولايات المتحدة. ونحن أصحاب المصلحة العليا عربيًا، مطالبون بخلق كيان عربي يقوم توازيًا مع كيانات أخرى يجري فرضها على منطقتنا العربية، ممثلة بالكيان الصهيوني، والنفوذ الإيراني، والتمدد التركي على حساب قوة عربية يعمل لها حساب. تلك مسألة في غاية الأهمية، لكن كيف تقرأ. أمر نتركه للعقل العربي الفاعل، نخوض غماره مع آخرين.
نعود إلى موضوع تجارة علي بابا الأمريكي الهندي الخليجي ال.. ال.. حتى نهاية السطر، ماذا يقول العالم..؟
كما قال الرئيس بوتين: مشروع طريق الهند الخليج مهم للعالم، يهدف لخدمة أغراض مستقبلية للعالم، والكل سيستفيد، حتى مصر، لأنها تدرك ما يحيط بها من مخاطر مستقبلية استعدت لها، لذا لن تتضرر كثيرًا. أما الصين فتعرف كيف تضع أقدامها على عتبات عالم جديد باتت مع قوى أخرى تمسك وتملك العديد من عناصر القوة العسكرية والاقتصادية، وعناصر المنافسة كافة داخل جغرافيا اليابسة أو محيطات البحار أو عبر دروب الفضاء. لم يعد العالم حبيس أقفاص فاسكو دي جاما وسفن البحار كولمبوس.
هناك عالم جديد يريد الخروج من دوامة لعبة الدولار، والعيش على إفقار العالم، عبر تصدير العجز والتضخم، وهرجلات أسعار الفائدة، ودورات وفقاعات الأسواق بأسمائها التي دفع العالم أثمانًا باهظة كان لها ضحية، وكان لعبة يديرها جلاد لاس فيجاس وغيرها من عواصم تدوير لعبة الاحتياطيات.
سيمضي طريقا الحرير والحزام والطريق كما تشاء مصالح العالم الجديد، لا كما كانت مراكز قوى رأس المال العالمي ونظام ما بعد بريتون وودز ومؤسساتهما. فالعالم إن لم يكن كله فأغلبه يسعى لإنهاء تفرد هيمنة القطب الواحد، نحو مزيد من نظام عالمي متعدد الأطراف، تشارك في صياغة توجهاته على قدم المساواة دول العالم جميعًا.
وتلك عناوين حملتها قمة بريكس جنوب إفريقيا، واستلهمت روحها مخرجات قمة الـ جي تونتي، أي قمة العشرين بالهند، وغدًا ستعقد قمة السبعة والسبعين بكوبا تحت الحصار.
العالم يسعى لآفاق لرحلة لعلاقات ووشائج إنسانية المحتوى، تحقق مصالح الجميع، سواء أتت عبر طريق الحزام والطريق، أو أتت عبر طريق الهند الخليج، إذ لم يعد مقبولًا أن يكون البيت الأبيض هو جوجل العالم المسيّر. تلك لعبة انتهت. بات العالم يحضر للخروج من سجن الدولرة، ومن سجن نظام السويفت المظلم، إلى نظام تتم الآن تهيئة إطلاق مفاعليه وأساليبه ومحتويات قوته وضماناته التي تعكس روح رحلة طالت من السجن المؤبد الذي ما أنتج غير العقوبات تلك التي تصدت لها روسيا وغيرها، بحثًا عن مخرج آمن يتزامن مع وسيلة دفع يتوافق عليها، سيخلقها العالم الجديد وفق آليات مدروسة. نعم سيتطلب الأمر وقتًا، لكن الأمر لم يعد مستحيلًا. ودلائل اقتصادية في موازين القوى باتت تدعم بقوة هذا الاتجاه الإنساني النبيل.
أما طريق الهند الجديد بطوله وتعقيداته الجيوسياسية وأطوال مداه ومداخله ومخارجه برًا وبحرًا وسماء وأنفاقًا وسككًا حديدية، وما يترافق مع ذلك من كلف باهظة عند بدء دوران عجلة الحفر والشق والتنفيذ، والوقوف على كم المصاعب الجيولوجية، ناهيك عن متطلبات الضخ الاستثمارى المطلوب بالمليارات، ومن سيغطي ويضمن نجاحًا منقطع النظير كما ترى القراءة الأمريكية الملعونة إن كانت عيونها وأسنانها القاضمات تركزان على فوائض أموال الخليج، فتلك مسألة أخرى على العرب فض ذلك اللغو واللغز الخطير.