الدّم يجر الدَّم
*عبدالباري طاهر
احتفت السلطة أيما احتفاء بحرب الجبهة الوطنية الديمقراطية، خصوصاً في شرعب وبعض المناطق في الوسطى والحجرية.
نبش السلطة ذاكرة الحرب وإحياؤها ينسجم وتوجهها نحو مزيد من عسكرة الحياة، ودفع المجتمع إلى الفتن والاحتراب والثّارات. السلطة التي وصلت إلى الحكم بالحرب لا تستطيع البقاء فيه بدون الحرب، فالحرب بالنسبة لها هي «الاسم الأعظم» أو الفانوس السحري أو خاتم سليمان تستحضر به عفاريت الفتن والحروب، وتحل به قضايا تتعلق بالسياسة والاقتصاد والاجتماع والإدارة. فعجزها عن حل معضلات تواجه حكمها وتتهدده يرغمها أرغاماً على امتشاق السلاح وتجريده في وجه المطالبين بالعدل والمساواة والحرية ومواطنة الحقوق والواجبات. والدولة الريعية لا تعني لها المواطنة غير الرعية، وربما القنانة كما هو الحال بالنسبة لتهامة وإب. وترغب السلطة بإحياء ذاكرة الحروب وجر اليمن كلها، وبالأخص المناطق «غير مضمونة الولاء»، إلى فتن وحروب وثارات تبدأ ولا تنتهي. فهي تريد للحروب الداخلية أن تكفيها الأصوات المطالبة بالخبز الكفاف ومياه الشرب النقية، وتوفير الأمن والسلام والاستقرار. في ظل فشل التنمية والبناء والاندماج الوطني تصبح الحروب «تجارة لن تبور». فهي تجارة تدر أرباحاً خيالية، وهي مشجب تعلق عليه السلطة عجزها وقصورها، ويصبح الشعب كله متهماً وخائناً، فصعدة وعمران والجوف ومناطق من صنعاء ملكيون ورجعيون، والجنوب انفصاليون. أما تعز وإب ويريم ورداع فمخربون. تعالج السلطة الداء بالداء، أو تمحو الجريمة بالجريمة. تهرب في صعدة من الحرب الأولى إلى الثانية، وتهيئ للهرب من الخامسة إلى السادسة. أما في الجنوب فإن علاج الخلاص من جريمة حرب 94 هو التأكيد اليومي والمستمر على الوحدة "المعمدة بالدم" وتعيير وتبكيت الجنوبيين بأنهم خونة وانفصاليون مصيرهم الحرمان من حقوق المواطنة، ونهب أراضيهم وطردهم بأساليب شتى من حقوق المواطنة. أما أصحاب رداع والبيضاء ويريم وإب وتعز فهم مخربون تعمل أجهزة دعاية الحكم على تذكيرهم بجرائمهم لتحويل مناطقهم إلى بؤر ثارات واحتراب. أي مصيبة أن يكون الحكم وطنياً ووحدوياً ويكون الشعب غالبيته عملاء وانفصاليين وخونة؟! أي كارثة أن تكون الفتن الداخلية والحروب هي الإجابة الوحيدة على أسئلة التنمية والبناء وحل معضلات التطور السياسي التي لا تحل إلا بتشارك وطني واسع في صنع القرار، وفي تداول سلمي للسلطة، وقبل ذلك وبعده في خلق تنمية شاملة توفر اللقمة والحياة الآمنة والمستقرة لشعب يعيش ما يقرب من نصفه تحت خط الفقر ومطحون بالأمية والأوبئة والظلم!
لعدة عقود تجري المساومات السياسية بين النخب السياسية، سواء أهل الحل والعقد في الماضي، أم الأحزاب السياسية وكبار المسؤولين والشخصيات العامة حالياً. وغالباً ما يجري التفاوض والتحاور على القضايا السياسية والمطالب الفئوية والحزبية لصالح أطراف معينة وتغيب قضايا غالبية فئات وشرائح المجتمع، كما يغيب المجتمع والناس، وتتفاقم مشاكل التنمية وفساد الإدارة وتدني مستوى المعيشة وفساد التعليم وتفشي الأمية وتدهور الزِّراعة وانتشار الأوبئة، ويزيد الإنفاق على التسلح، مما ضاعف المديونية خلال زمن قياسي. نهج الحروب الداخلية وتشجيع الفتن والثارات حوَّل الدولة إلى طرف أساسي في كل صراعات البلد، مما غيَّب المعالجات الحقيقية. وهي في معالجتها -إن تصدت للمعالجة، ونادراً ما تفعل ذلك- تبدو كقبيلة ضمن القبائل أو الأطراف المتصارعة، وهو ما حول السلطة الفاسدة المستبدة والمترهلة إلى عبء يثقل كاهل المجتمع والشعب. لا ينبغي لدولة أن تنقلب على صيغة سلمية وديمقراطية للحكم، وتلغي مشاركة الطرف الثاني في معادلة الوحدة وتحول أراضي الجنوب إلى إقطاعيات للمحاربين ثم تدعو إلى حوار بدون شروط! لم تعد النخب السياسية، سواء في الحكم أم في المعارضة، قادرة على حل المشكلات اليمنية ومآسي وكوارث الحروب، ولم تعد «المصالحات الوطنية» بين أطراف سياسية تتنافس على حصصها من الكعكة، طريقاً سالكاً للحل، بدون تضميد جراح حرب 94 في الجنوب، والتخلي عن الغنائم والأسلاب وحل قضايا المئات وربما الآلاف ممن فقدوا وظائفهم في الجيش والأمن والوظيفة العامة، وإعادة الأراضي المنهوبة، ونزع فتيل الحرب في صعدة، وإعادة المشردين من أبنائها، وبناء المساكن المدمرة، وإطلاق سراح المعتقلين، والتخلي عن نهج الحرب والفيد والأسلاب والغنائم. والتصالح الذي قامت على أساسه الوحدة مازال ممكناً، ولكن يتطلب توجهاً وطنياً ديمقراطياً تتخلى فيه الدولة عن كبريائها الزائفة، وتقبل التحاور والتصالح مع كل مناطق التوتر والاحتجاج، وتتخلى عن لغة الاتهام والتجريم والتخوين. فالتحاور إن كان جاداً وصادقاً لا بد وأن يتغيا مشاركة ألوان الطيف المجتمعي والسياسي، بمعنى أن يقبل به ويتشارك فيه معارضة الداخل بالأساس اللقاء المشترك وجماعة الحوثي والاحتجاج الجنوبي، ومعارضة الخارج والشخصيات العامة، ومؤسسات المجتمع المدني وممثلو مناطق وفعاليات مختلفة من مختلف الأفق المجتمعي والمناطقي والفكري والسياسي. طريقة وأسلوب «وثيقة العهد والاتفاق» والأطراف الموقعة على الوثيقة ما يزال صالحاً للاقتداء. ووجود أطراف عربية ودولية أمر مهم. فنظامنا مشهود له بعدم الالتزام أو التقيد بكل الاتفاقات والعهود والمواثيق التي يوقع عليها، بما فيها العهود والمواثيق الدولية. كما أن حرب 94 نفسها كانت هروباً من الوثيقة إياها. ولن نبالغ إن قلنا إن الدولة بحاجة للتصالح مع كل مدينة وقرية وقبيلة يمنية. فالتدمير الاقتصادي الاجتماعي السياسي قد طال الجميع الجميع، ولا مخرج من الأزمة غير توجه عام للتصالح مع النفس والآخر. والأهم: الخلاص من خطاب الدماء والأشلاء في الإعلام والمدرسة والمسجد ومقايل القات. ولعل أهم وأخطر قضايا التصالح إعادة صياغة الوحدة والحكم بما يكفل حل قضايا الوطن والناس، وضمان مشاركة لا يكون لمنطقة أو قبيلة أو حزب أو فرد فيها إمكانية الهيمنة والتفرد.
الدّم يجر الدَّم
2009-07-25