من الجدير بالذكر، إن لليمانيين تواجدا ذا شأن في العالم القديم يعود تاريخه الى اكثر من اربعة الاف عام قبل الاسلام، و أرى أن تلك المرحلة المهمة بحاجة إلى دراسة متعمقة تشمل جميع الجوانب العلمية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية والاجتماعية، ومدى إسهامات اليمن في المجال الحضاري الإنساني في ذلك الزمن الجميل الذي سما قبل خراب سد مأرب عام 575م.
وقد سبق ذلك بعض الانهيارات بسبب زلزال حدث عام 100 ق.م، ف "تفرقوا ايدي سبأ"، وانتكست البلاد وحلت الفوضى، وغادرها الكثير من السكان الى مناطق مختلفة واقاموا ممالك (مملكة كندة) في وسط شبه الجزيرة العربية، و (مملكة الغساسنة) في الشام و(مملكة المناذرة) في العراق وجنوبها، واتجهت مجموعة اخرى الى شمال افريقيا بدءاً من مصر حتى موريتانيا، وغربا الى شمال السودان، والحبشة (اثيوبيا).
ولكي لا يأخذني الحديث بعيداً، اود ان اعود الى موضوعي الرئيس (التواجد اليماني في العالم الاسلامي) متناولاً اهم المعلومات التاريخية للإنسان اليمني واسهاماته، وابدؤها بشيء من التفصيل حول التواجد اليماني في مصر، الضارب اطنابه في اعماق التاريخ.
حقاً، إن الحضور اليماني في مصر كان قد سبق الإسلام بقرون عديدة، منذ ما قبل الفرعون (تحتمس الثالث1507 ق. م –1425 ق.م) الذي اقام امبراطورية واسعة، وكانت له علاقات واسعة مع التبابعة ملوك اليمن، وبالتالي فالجذور متينة، والمعالي باسقة، والعلاقات راسية.
يقيناً، انه لشرف عظيم لنا كيمنيين أن نجد في مصر اسراً مصرية من اصول يمانية منذ عشرات القرون خاصة في الصعيد، والقاهرة، وانحاء متفرقة من البلاد قبل وبعد خراب سد مأرب.
واذا ما عدنا الى مرحلة الفتوحات الإسلامية، لوجدنا - حسب المؤرخين - إن معظم جيش عمرو بن العاص في الفتح الإسلامي لمصر كان من الفرق اليمانية الهمدانية، والمذحجية، واليافعية، والحضرمية اللاتي يجمعهن النسب الواحد في (قحطان بن هود) جد العرب العاربة.
في واقع الأمر، لم تغادر مجموعة من جيش الفتح (مصر)، واقاموا فيها كأم حانية، ومع الأيام ودوها، فودتهم، وانصهروا في هذه الأرض الطيبة خلفا عن سلف معززين مكرمين.
وقد تم فتح مصر، وتحريرها من البيزنطيين عام 641م، وكان أول من تشرف من اليمنيين حاكما على (الجيزة) إبان الفتح الاسلامي هو القائد (محمد المذحجي) بتوجيه من قائد الحملة عمرو بن العاص.
جدير بالذكر، إن المصريين بعد الفتح قد تعرضوا لحكم ولاة من الجند، اعلنوا عصيانهم واستقلالهم عن مراكز الخلافة العربية - الاسلامية، مثل:-
الاخشيديون، والفاطميون، والايوبيون، والمماليك، والعثمانيون .. الخ.
والأمر يختلف بالنسبة لليمانيين الذين كانوا عموما مصدر ثقة يعتمد عليهم من قبل الخلفاء، وسكان الأمصار لكفاءتهم، واخلاصهم لمهماتهم، ومن صفاتهم التعايش، والاندماج في المجتمعات التي يدخلون اليها اخوة فاتحين، فهم اهل حكمة، وشجاعة، وعلم، وانضباط في مرحلة ما قبل الإسلام ثم في صدر الاسلام وفي المراحل اللاحقة. وكان لهم في الميادين العسكرية صولة، وجولة، ومكانة مشرفة وذكر حسن حيثما حلوا واينما رحلوا في الحواضر:- مكة، والمدينة، ودمشق، وبغداد، ومصر، والمغرب و الاندلس غربا ووسط آسيا حتى السند والصين شرقا. كما شاركوا ببسالة في الفتوحات الاسلامية في صدر الاسلام كقادة وجند، على سبيل المثل: الاوس والخزرج، وكقادة يعتد بهم :معد بن ابي يكرب الزبيدي في القادسية، والسمح الخولاني، وعبد الرحمن الغافقي المعافري في الأندلس وغيرهم كثر.
وفي هذا المسار التاريخي الطويل نؤكد ايضا انه كان لليمانيين ايضا تواجد ثقافي وإرشادي في الحواضر التي يحلون فيها وينشرون في مجتمعاتها مبادئ وقيم الإسلام السمحاء المتمثلة بالنزاهة، والعدالة، والمساواة، والمحبة، والأخلاق الفاضلة، بمنأى عن الاجتهادات والمذاهب السياسية الهدامة التي دمرت العالم الإسلامي.
من هذا المنطلق، حل اليمانيون في (مصر) آمنين مكرمين فلم يكن لهم مطامع في الباشوية، والاقطاعية، والتحكم، والغطرسة، والجاه ما يلهيهم عن هدفهم في التعايش، والإخاء في مصر وغيرها من الامصار، فكانوا القدوة في كل زمان ومكان.
وبالمناسبة يحضرني مقولة اعتز بها على الدوام تتمثل بافتخار المصريين بعروبتهم الى حد التمجيد— وخير مثال على ذلك(الزعيم الخالد جمال عبد الناصر حسين المري) الذي كان يفتخر بنسبه الى (بني مرة) وهي احدى قبائل اليمن القحطانية المهاجرة الى صعيد مصر. ومما يزيدنا فخراً، إن الزعيم جمال عبد الناصر يعتبر اول حاكم عربي مصري في التاريخ وثاني حاكم مصري بعد رمسيس الثاني 1303ق.م — 1213 ق.م ....وقد اعتلى سدة الحكم في مصر إبان الفترة (25 يونيو 1956 م -- 28 سبتمبر 1970م) وذلك بعد فترة انتقالية لمجلس قيادة الثورة دامت أربع سنوات من قيام ثورة 23 يوليو 1952م.
على صعيد آخر، يتواجد اليمانيون ايضا في المغرب العربي بداية من ليبيا، وتونس، والجزائر، والمغرب، وموريتانيا وحتى الاندلس (اسبانيا والبرتغال)، ويشير مؤرخون الى أن هناك مجموعة منهم من تظاهروا بالنصرانية مكرهين حفاظا على املاكهم، وثرواتهم، خيفة من محاكم التفتيش (الفرنجة) التي كانت تحكم بالاعدام على المسلمين، واليهود بعد سقوط (غرناطة) آخر معاقل المسلمين 1492م، ومجموعة اخرى من اليمنيين غادرت الى الشط المقابل (موريتانيا، المغرب، الجزائر، تونس، ليبيا، ومصر)، واستوطنوا هناك- حسب وثيقة (كتاب)- بعنوان "القبائل البيضانية في شمال افريقيا" .
اما بالنسبة للجانب الآسيوي، فقد سار القائد اليماني محمد بن القاسم الثقفي في 72 هجرية بجيش مكون من عشرين الف مقاتل معظمهم من اليمانيين حيث اجتازوا حدود (ايران) الى الهند والسند حتى الصين، وحققوا انجازات كبيرة هناك، فقد اعتنق جمع غفير من سكان تلك المناطق الاسلام الحنيف، ووجدوا في مبادئه، وقيمه عنوانا للعدالة، والإخاء، والمساواة، والرقي. ولا يسعنا إلا ان نقول احسنتم ايها القائد المغوار محمد بن القاسم والجند الميامين.
ويطيب لي الذكر، إنه يوجد حتى يومنا هذا كثير من اضرحة قادة، ومصلحين اجتماعيين يمانيين في وسط آسيا، حيث بقت وماتزال قبلة الزوار، ومآثرهم تغني عن البيان.
وفي مرحلة لاحقة ركب اليمانيون البحر من حضرموت وسواحل بحر العرب الى جنوب شرق آسيا:- اندونيسيا، وماليزيا، وسنغافورة، وبروناي (دار السلام) حاملين رسالة الخلود السماوية السمحاء بالحجة والمنطق التي اتت اكلها الى ابد الآبدين، ولم يقفوا عند هذا الحد بل توجهوا الى جزر المحيط الهندي جزيرة موريشيس، وجزر المالديف، وجزر القمر، ومدغشقر، وسيشيل والقرن الإفريقي وشرق افريقيا، وكذا وسط، وغرب افريقيا وجنوبها ..الخ.
ومن الملاحظ، إن لليمانيين شهرة، وصيتاً مشرفاً منقطع النظير بين السكان في كل حدب وصوب يحلون فيه، فهنيئاً لما صنعوا في تلك الاقطار.
على صعيد آخر، يمر الزمن، ويقبل العثمانيون الى المنطقة على صهوات جيادهم، وهم اقوام من الجنس الاصفر خرجت غازية من منطقة وسط آسيا بحثا عن حياة افضل، ويعود نسبهم الى (عثمان ارطغرل) المؤسس الأول للدولة العثمانية في نهاية القرن الثالث عشر وقد ادى بهم المقام ان يستوطنوا مؤخرا في المنطقة المعروفة اليوم بتركيا نسبة الى (اتاتورك) (1923م) بعد انهيار الخلافة العثمانية ما بين (1908—1922م).
حقاً، فقد دانت لبني عثمان الهيمنة على المنطقة وبلدان اوروبية منذ منتصف القرن الخامس عشر لغاية نهاية القرن الثامن عشر.. وامتدت دولتهم حتى وسط أوروبا شمالا وغربا، ومن ايران شرقا مرورا بالعراق ثم سوريا، ومصر حتى الجزائر، والمغرب غربا، ونجد، والحجاز حتى اليمن جنوبا وكانت امبراطورية اسلامية عسكرية واسعة الاطراف، إلا إنها لم تنسجم مع الشعوب العربية خاصة من الناحية الثقافية رغم ان الديانة الإسلامية هي القاسم المشترك بين الجانبين، وجاءت الدورة الحياتية للخلافة العثمانية لتنحسر مثلها مثل الخلافة العربية- الاسلامية في مكة والمدينة، ودمشق، وبغداد والاندلس، ولم تكن بأفضل حال من العرب حيث عين خلفاء بني عثمان بدورهم ولاة لهم من الشركس، والالبان وغيرهم بعد توسع رقعتهم في البلدان حتى حان الوقت وتحديدا في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين ان يتعرضوا لضغط استعماري بريطاني - فرنسي تمهيدا للانقضاض على الرجل المريض (الدولة العثمانية).
وسبق ذلك ايضا تعرض الدولة العثمانية على تمرد الولاة وتحديدا في مصر، والشام، فتولى حكم مصر الوالي (محمد علي باشا الالباني) الذي اعلن استقلاله عن الباب العالي في الاستانة، وحكم واسرته حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952م.
وبالنسبة لليمن فكان الحكم العثماني لايتجاوز السواحل ووسط اليمن وبهدف إستراتيجي في الغالب هو إحكام الرقابة على الدول الغربية والتصدي لتوسعها في العالم الإسلامي، اما في الهضاب اليمنية العليا فقد واجه العثمانيون مقاومة شديدة من القبائل والإمامة، وكانت اليمن كما ورد في التاريخ (مقبرة الأناضول) إلا إن ذلك لم يخف ودا اسريا بين اليمانيين والعثمانيين الذين حكموا اليمن في ولايتين حتى نهاية الحرب العالمية الاولى، وقد احتفظ العثمانيون بوثائق تاريخية، وجغرافية ذات اهمية عن اليمن وقبائلها والمنطقة عموما ناهيك عن التدخلات الاستعمارية في المنطقة، بالذات التدخلات البريطانية، ومحاولة تجريف جزء كبير من الأراضي اليمنيه بقوة السلاح، وإعادة صياغتها بما يتفق مع مصالحهم ومطامعهم الاستعمارية و تسليمها لمن لا يملك . لكنه مهما عتا الزمن على اصحاب الديار، فالحق يعود آجلا أو عاجلا الى اهله.
في عام 1918م تسلم الامام يحي حميد الدين السلطة ثم نجله احمد في الشمال حتى ثورة 26 سبتمبر 1962م، وبقى الجنوب تحت الإستعمار البريطاني منذ استيلاء (القبطان هينس) على (عدن) عام 1839م، حتى الاستقلال في 30 نوفمبر 1967م.
وقبل ان انهي المقال، يجدر التنويه، بأني قد تشرفت بمعرفة طلاب في صنعاء من بلدان وسط وجنوب شرق آسيا يتلقون التعليم في الجامعات اليمنية، فوجدتهم يشيدون بتاريخ اليمن وفضائل اهلها اينما حلوا في بلدانهم، كما يعبرون عن سعادتهم الغامرة، بطيب الإقامة في اليمن، وكذا ثناؤهم بحسن المعاملة، مقدرين مساعدة وتعاون اخوتهم اليمنيين لهم في دراستهم وإقامتهم،، الخ.