يسم عبدالله البردوني في كتابه "اليمن الجمهوري"، الثقافة اليمنية بأنها "ثقافة سياسية"، مرجعًا ذلك إلى المنشأ السياسي الذي نشأت فيه الثقافة اليمنية، فمع تأسيس الدولة الزيدية في صعدة في القرن التاسع الميلادي "نشأت المدارس الفكرية، وتوالت على أساس ديني ولغاية سياسية... اقتصرت على وراثية الحكم"، (اليمن الجمهوري، ص10-11).
هذا معناه أن الثقافة السياسية مهيمنة على الثقافة اليمنية، ولم تتح مساحة للكتابات الثقافية الأخرى (الأدبية والموسيقية والفلسفية)، كما أتيح لنظيراتها العربية الإسلامية الأخرى وقتها.
وهذا يوضح أيضًا الهدف الذي توخاه البردوني من قراءته لتاريخ الثقافة اليمنية؛ معالجة مرضها (السياسة)، وتجاوز هيمنته.
"الجدلية" ممر تحديث
اليمن الجمهوري
تمكن البردوني من مجاوزة هيمنة الثقافة السياسية من خلال كتابتين: الأولى من خلال كتابة الشعر، والثانية من خلال كتاباته الفكرية الأدبية حول الثقافة اليمنية.
وعالج البردوني الثقافة السياسية بالكتابة حولها، ومنها اشتق مفهومًا سماه "الجدلية"؛ ففي كتابه "اليمن الجمهوري" يتحدث البردوني حول جدلية الثقافة السياسية، موضحًا سياق عصرها التاريخي، وراويًا ما في حسها من حياة؛ كي يمتد مع أفق زمن الفكر المعاصر.
كتابة البردوني حول الثقافة السياسية ليس من أجل تكريس وتأبيد ميزة غالبة للسياسة على الثقافة؛ لأن التميز هنا قاتل السياسة والثقافة معًا؛ بل من أجل تجاوز هيمنة تاريخ السياسة على الثقافة، إلى أفق كتابة تعددي يتجاوز تجنيس الكتابة دون أن يلغيه.
فعندما يَعرِض البردوني جدلية "نشوان الحميري" و"جدلية الهمداني"، فهو لا يدعو للارتكاس على مسلمات جدليتها السياسية، وإنما يعرض صيرورة الحياة في الذات اليمنية، فليس للجدلية من أهمية في ذاتها، وإنما في صيرورة ما فيها من حياة. هنا يصبح نشوان الحميري مع قصيدته صيرورة حياة فرد آخر قادم، والهمداني مع جغرافية جزيرته يصبح صيرورة حياة شخص آخر قادم.
وكذلك عندما يتحدث حول حرب الإمام للزرانيق؛ فهو يتحدث حولها كصيرورة علامة مصير ذات؛ فالإمام أحمد بعد تغلبه على الزرانيق في الحرب، يصبح زرنوقًا وشبحًا للإمامة (صيرورة علامة مصير نهاية شجاعة للإمامة)، فالإمامة شخص لا ذات، بينما "الزرانيق" يصيرون علامة صيرورة شعب قادم.
يشير البردوني في كتاب "اليمن الجمهوري"، إلى الاختلاف الذي جرى في الجدلية اليمنية في فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي؛ فحسبه يرجع هذا الاختلاف إلى ثقافة أفرادها.
ولكن حتى نتبين ما هو هذا الاختلاف الذي جري في الجدلية، فإن الاختلاف يتبين مع سؤال محمد أحمد نعمان "من نحن؟"، فمن خلاله يبدأ سؤال "النحن؟" بأفق تساؤل فكر أكثر جرأة وجذرية ومعاصرة؛ فهو سؤال يفتح الذات على تعددها وعلى اختلافها وعلى الآخر فيها، وليس سؤال ذات عددية حسابية؛ فيثاغورثية، كالذي قام عليه فكر فقه الإمامة السياسي، كما يصفه البردوني <<من يرجع إلى مؤلفات الإمام الهادي... يجدها مزيجًا من علم الكلام والفلسفة... وبالأخص المترجمات عن الفيثاغورثية>> (اليمن الجمهوري، ص11).
أهمية سؤال "من نحن؟" أنه يعاود الفكر إلى ظله؛ لأن السؤال ظل الفكر. وهنا ينبغي إعادة "قراءة حرة للسؤال" دون اللجوء إلى تربيع القراءة؛ لأن هذا التربيع للقراءة هو ما قامت وتقوم به الثقافة السياسية منذ الأربعينيات؛ فجرت السؤال إلى فخ الثنائية، ليهيمن تربيع القراءة السياسية على الثقافة اليمنية منذ أربعينيات القرن الماضي؛ فهذه القراءة المربعة من وسع فخ الجدلية الثنائية إلى "أطراف"، ثم إلى الجهات، ونحو الإقليم، ونحو فخ الشهيد وفخ الهوية.
خطر هذه القراءة السياسية المربعة للثقافة أنها موجهة بالتاريخ، لذا فهي تقتل وتميت مُعَاوَدَة الكتابات الأخرى، التي بدت بالكتابة الموسيقية والمسرحية في عدن، وفن الرسم في تعز مع هاشم علي، وفن الدراما التلفزيونية في صنعاء.
ولأن القراءة الحرة حركة نسيان مرح، وبقلم عبدالسلام بن عبدالعالي، لأن النسيان من صميم الوجود، فالفكر نسيان، بل إن <<تاريخ الوجود بكامله... هو الشيء ذاته الذي يتحرك وينسى ويتذكر ويعود... لكنه ليس ذاتًا تاريخية>> (قراءات، ص32).
ينبغي على "قراءة حرة" لسؤال "من نحن؟"، أن تهتدي أولًا إلى ظلها، وشعر البردوني هنا يَهْدي القراءة إلى ظلها؛ فالشعر لا يقول الوجود فقط، بل يسكن الوجود.
بل إننا نحن العرب اليمنيين بخاصة، مازلنا ندرك أين يقيم العالم، إننا فنانون فانون في الوجود لا نقيم العالم، بل نقيم السعادة.. إننا أقرب في الوجود إلى اليونان لا نفرق بين الوجود والعالم (كلاهما سعادة)؛ لنسمع فقط موسيقانا؛ كم مملوءة سعادة؟ وعلى آلة موسيقية ودون وعي نرقص مباشرة، فالوجود كما حركة كوكب راقص مبتهج وسعيد..
الشاعر عالم ممكن
كتب البردوني، إلى جانب متنه الرئيس (الشعر)، في السياسة والأدب والفكر، حتى صار من خلال شعره وأدبه، متفلسفًا، بل استطاع في كرتين -تبدوان متناقضتين- أن يكتب بلغة معاصرة وشكل تقليدي، بخاصة الشعر، فقد كتب بحس اللغة (الشعر)، متجاوزاً جزالة اللفظ بحس اللفظ؛ فحافظ على حس المبنى الكلاسيكي للقصيدة، والذي من خلاله أدخل فيه نثرًا، فأصبحت قصيدة القافية كأنها في شعره منثورة داخل إطار قديم، لكنها تتحدث لغة عصرية؛ أي أنه أبدع جديدًا داخل المبنى القديم للشعر، وخلاه يحتضن الموسيقا الموجودة على شفاه الشعر؛ فالشاعر يكتب الشعر بالشفاه لا باللسان؛ لأن الشاعر دون لسان ودون بطن (لا يحمل وإنما يهب).
يهَبُ الشاعر الذات (اللغة) غيرًا، أي عالمًا ممكنًا <<وأنتَ تعطيهِ شِعرًا فوق ما يهَبُ>>*.
عالم الممكن في شعر البردوني عالم حيوي يصير؛ يتحدث في شعره المرأة والطفل والصديق، وتأتي الأسماء في بعض قصائده غير معرَّفة، وإن تكن مُعَرّفة تُنكَّر حتى تصير.
يجلو أفق عالم الممكن عند البردوني من مورد كتاباته الأدبية الفكرية، فمثلًا عندما يرد "نيتشه" أو "سارتر" أو "ديستوفسكي" في كتاباته؛ فهي ترد لديه مورد أفق كتابة رحبة بإنسانية أخرى، وكذلك عندما يرد في كتاباته "المعري" و"أبو حيان التوحيدي" و"امرؤ القيس"، فترد كمورد أفق لإنسانية ذات مفرطة الجدة من قدم جديدها.
البردوني مصادق النجوم
معاودة قراءة نص كما نصوص الشاعر البردوني، هي معاودة لأفق زمن الفكر، فلا ينفك الفكر دون أن يفتح أفقًا لحاضر المستقبل.
وهكذا معاودة لقراءة البردوني، تتطلب قراءة بعيدة (مختلفة) من قراءة سابقة؛ تجر إلى توظيف النص في الصراعات، فالاستمرار بكذا توظيف يوضح بله ثقافة زائفة.
وهذا ما يفصح عنه بؤس حضور ثقافة سياسية حالية ليست قادرة على الاعتراف ببؤسها السياسي؛ لأن الشجاعة غير متوفرة؛ لأن الثقافة السياسية للجيل الحالي ثقافة صراع جماعات سياسية حزبية مضطربة تَحَوَّلَ الدين -أساس بنيتها- إلى أيديولوجية؛ أي ثقافة جماعات سياسية "هووية" أتت إثر فشل مشروع دولة وطنية لم يصيرنا مواطنين.
يتخلى الموت عند الشاعر (البردوني) -جراء الاحتراب- عن مصدره للحياة، ويصبح قتلًا وهلاكًا لا حياة فيه <<أمسيتَ لغوًا يا ردى.. والقتل كالمقتول ساهي>>.
ولأن الشعر شجاعة حياة؛ أي قدرة على الحياة، ومن أجل الحياة، فشعر البردوني هنا هو إمكانية الإنسان اليمني المعاصر لأن يتمكن من فضيلة شجاعة الاعتراف بالبؤس <<إني ولدت عجوزًا، كيف تعتجبُ؟>>.
<<قَتَلتُ قُتِلت لا جدوى.. غدوت الأقتل الأشقى>>. جملة بيت شعري متلطفة بشجاعة اعتراف بائس مشرق حياة.
يجعل شعر البردوني من الإنسان منتميًا إلى قصة وجوده حتى وهو يعري بؤسه؛ حيث يصبح الإنسان على شفاه الشاعر وهو يعترف بالبؤس، منتميًا للحياة؛ فالشعر يعطينا القدرة على النسيان (الحياة).
والشعر تكمن فيه صداقة الوجود؛ حيث تَهْدي الصديقات الحميمات (القصائد) الشاعر إلى حيث ينتمي ويسكن الوجود:
أصبحت وحدها القصائد أهلي
صرن في الضَياعِ حقلًا ودارا
قد أرى هذه (تعز) وتبدو
تلك (صنعاء) هاتيك تبدو (ذمارا)
تلك تبدو (بيحان) هاتيك (إبًّا)
تلك (لحجًا) هذي تلوح (ظفارا)
قد أسمي هذي (سعادًا)
وأدعو هذه (وردة) وهذه (النوارا)8
أن نواصل مع "البردوني"؛ معناه أن نقطع مع ثقافة السجال بتجاوز جدليتها الثنائية إلى كتابة منفصلة عن السجال؛ فالهوية ليست الذات، وإنما هي تنفس اختلاف الذات في نفسها، أي تعبير عن غنى الذات.
وأن نتواصل مع "كتابة البردوني"؛ معناه أن نمد الكتابة داخل زمن الفكر، بأساليب كتابة مختلفة تمكننا من مواصلة أنفسنا داخل العصر؛ أي نتواصل مع موسيقا شفاه كتاباته حتى يستطيع الواحد منا تقبل وتحمل وجوده في هذا العالم.
لا كتابة دون محبة، وما من معجب بالبردوني يكتب حوله دون طمع صداقة تحاول مقاسمة الشاعر صداقة النجوم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* مقتطفة من شعر البردوني.