بعد ثلاثة عقود من العمل التربوي، مات أحمد الشعيبي (50 عامًا)، في الساعة الأولى من شهر مارس، بمدينة إب، وهو يفتقر إلى ثمن الدواء وأشد ضروريات العيش، تاركًا خلفه 12طفلًا وزوجتين، وإرثًا ثقيلًا من الديون والأعباء.
في نهاية مأساوية وموحشة تعكس فظاعات الحرب، التي تواطأت معها الأطراف المحلية والقوى الدولية، تُرك الشعيبي وحيدًا بمواجهة عذاب ثماني سنوات من مكافحة السرطان، ودونما مساعدة، بعدما سلبت حقوقه ومرتبه، في قصة قتل مشترك.
وقال: بعد الإصابة فقدت الكثير: صوتي، وبصري، وسمعي، وفوق ذلك مرتباتي، دون أدنى اهتمام من الدولة والمسؤولين. أي ظلمٍ هذا وأي جحود بحق المعلم!
أحمد الشعيبي وعائلته (النداء - ارشيف)
الشعيبي هو واحد من حوالي 170 ألف معلم، وقرابة مليون موظف حكومي، تتلكأ الحكومات بصنعاء وعدن، في صرف رواتبهم المتوقفة منذ 2016، في ظل أسوأ أزمة إنسانية بالعالم، حد وصف الأمم المتحدة.
خلال السنوات الأربع الماضية، اضطر إلى إخراج 5 من أبنائه وبناته من صفوف التعليم، نتيجة عجزه من دفع تكاليف ومصاريفهم المدرسية. وقبل موته بأيام شكا من افتقاره لـ"قيمة الدواء الذي قرره الطبيب مؤخرًا، وعجزه عن توفير إيجار البيت وقيمة حليب وحفاظات لأصغر طفلتين (3 أشهر، وعام ونصف)".
حروب متعددة
قبل أشهر من اجتياح الحوثيين العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر 2014، انقلبت حياته رأسًا على عقب، عندما اكتشف الأطباء في مركز الأورام بصنعاء إصابته بسرطان البلعوم الأنفي، وبناء على تقرير طبي، أعفي من الدوام، وانشغل بمكافحة المرض.
أثر النزاع بشدّة على تعليم ملايين الأطفال بأنحاء البلاد، والمعلّمون هم من أكثر المتضرّرين، وفقًا لليونيسف، أمّا بالنسبة للشعيبي فترافق ذلك مع معركتي السرطان والإفقار، وقد انعكست جميعها عليه وعلى أسرته بصورة مرعبة. مؤكدًا أنه لولا صدقات المحسنين ومساعدتهم لكان مات وأسرته من الجوع باكرًا.
في 5 أكتوبر 2018، وبينما كان المعلم يجري جلسة إشعاع، أطلقت اليونيسف ومنظمات أخرى، دعوة والتزامًا مشتركًا بالاهتمام بالمعلمين اليمنيين، الذين يعيشون وضعًا وخيمًا يهدد حياتهم، وصرف مرتباتهم. لكن الشعيبي أفاد "النداء" بأنه لم يتلقَّ أية مساعدة، وأن اسمه لم يدرج في كشوفات الحوافز المقدمة من المنظمات.
لقد فشلت هذه المنظمات في إنقاذ حياة الشعيبي، بل فشلت في عمل أي شيء لإعادة أطفاله إلى مدارسهم، حسب وعدها.
بذاك التاريخ كانت معاناة المعلم مع السرطان تدخل عامها الخامس، وفي ديسمبر للعام نفسه أقر الأطباء سفره للخارج لاستكمال العلاج، لكن صيغة التقرير اعتبرتها رغبته الشخصية، فيما يؤكد الشعيبي أن سفره كان "ضرورة بعد تضرره وعدم قدرته على دفع تكاليف علاجه"، لكن المركز حاول استغلاله والتخلص من مسؤولية طلبه للمساعدة.
وحينها، كان كافة أولاده وبناته قد أصبحوا خارج صفوفهم الدراسية، وبعضهم لم يلتحقوا بالتعليم أساسًا، كما أكد.
قبل وفاته بشهرين، تجرع "قليلًا من مادة الأسيد القلوية بالغلط"، قضى على ما تبقى من صوته، بعدما فقده تدريجيًا جراء العلاج الكيماوي وجلسات الإشعاع، كما يقول، بل تسبب له في مضاعفات صحية.
وأشار بمحادثة مكتوبة لـ"النداء"، قبل أسبوع من وفاته، قائلًا: إن العلاج تسبب له بعذاب مستمر يتمثل في دخول أجزاء الطعام إلى الرئة، ليدخل في نوبة سعال ساعات متواصلة. معبرًا عن خيبة أمله في المسؤولين والحكومات التي تدعي تمثيل اليمنيين وحماية حقوقهم.
رفض ونكران
في ديسمبر 2018، عندما قرر الأطباء ضرورة سفره إلى الخارج للعلاج، كان قد أنفق كل ما يملكه، واستدان واستعان بكل من يعرف للمساعدة، طرق أبواب الحكومة في عدن كملاذ أخير. وكما يقول: "أنهكتني(الحكومة) وأرسلوني من وزارة إلى وزارة ومن لجنة للجنة... شهران وأنا ألهث وراءهم ووراء وعودهم"، دون جدوى.
تمكن الشعيبي، في 12 فبراير 2019، من استخراج مذكرة من وزير التربية لملس بطلب منحة علاجية موجهة إلى ناصر باعوم وزير الصحة، الذي أحالها بدوره إلى اللجنة. بعد يومين اجتمعت اللجنة الطبية المكونة من 5 دكاترة، وقررت ببساطة واختصار "اعتذار"، دون تبرير طبي أو فني أو إجرائي، وفقًا لتقرير حصل "النداء" على نسخة منه.
ويضيف الشعيبي: "ضاق بي الحال، خسرت أكثر من 300 ألف ريال من مساعدات الناس، وخسرت كرامتي".
زكاة للإعلان
بعدما قابلته الوزارة في حكومة عدن بالرفض والنكران، وبعد محاولات عديدة للوصول إلى فرع هيئة الزكاة بإب، ووساطات ومتعددة قدمت ملفه في يناير 2023، أي قبل شهرين على وفاته، لكنه وجد رفضًا آخر. وقال إن الزكاة رفضت النظر في ملفه مبدئيًا، بحجة أن التقرير بإصابته بالسرطان وحاجته للعلاج، قديم، طالبة منه إثبات استحقاقه للمساعدة والدواء. وأضاف: يحتاج التقرير السفر لصنعاء، وتكاليف لا أستطيع تحملها.
منذ سنوات خصمت الهيئة العامة للزكاة من نصف راتب الشعيبي الأساسي الذي يصرف كل 4 أشهر، زكاة الفطر عنه ومن يعولهم، دون رحمة حد قوله. مضيفًا: أنا مستحق للزكاة قبل وجود الهيئة، مؤكدًا أن الخصم بلغ في مايو 2022 قرابة 9 آلاف ريال.