الدكتور عبدالعزيز المقالح إنسان متعدد المواهب وكثير، فهو رائد من رواد الحداثة في اليمن، وفي صدارة التأصيل للقصيدة في المستوى العربي، وهو أيضًا ناقد حداثي. رسالته الماجستير "الأبعاد الموضوعية والفنية لحركة الشعر المعاصر في اليمن"، ورسالته الدكتوراه "شعر العامية في اليمن"، وهي دراسة علمية للعامية في الشعر اليمني، وتتناول تجربة الحميني اليمني، وفي القصيدة الملحونة، والأغنية الخالدة والنهر الزاخر منذ القرن السابع الهجري حتى اليوم، والأغنية المدروسة كنز من كنوز الفن في اليمن والجزيرة العربية.
كانت دراسة المقالح الأكاديمية والإبداعية إضافة نوعية لرسالتي الدكتور جعفر الظفاري، ومحمد عبده غانم.. مؤلفاته الكاثرة، وأبحاثه العديدة، ودراساته الأكثر تغطي جوانب عدة في الحياة الأدبية والفكرية.
– قراءات في أدب اليمن المعاصر.
– أصوات من الزمن الجديد.
– دراسات في الأدب العربي المعاصر.
– الزبيري ضمير اليمن الوطني والثقافي.
– الشعر بين الرؤية والتشكيل.
– من البيت إلى القصيدة.
– عمالقة عند مطلع القرن.
– أزمة القصيدة العربية.
– علي أحمد باكثير رائد التحديث في الشعر العربي المعاصر.
– دراسات في الرواية والقصة القصيرة في اليمن.
وله إسهامات في دراسات التيارات الثقافية، واتجاهات كاثرة، في مجالات عدة.
دراساته، وكتاباته الصحفية تغمر العشرات من المجلات والصحف العربية، وقبلها اليمنية، فهو رمز من رموز الحركة الإبداعية اليمنية والعربية على مدى أكثر من نصف قرن.
الكتابة عن الدكتور عبدالعزيز المقالح، وإبداعاته الشعرية والفكرية والأدبية، سباحة في محيط واسع وعميق، فدواوينه الشعرية تنوف على العشرين ديوانًا، وكان المقالح كتابًا مفتوحًا، وصوتًا داويًا في المستويات القومية والعالمية.
لسوف أقتصر في هذه المساهمة، استجابة لدعوة أخي العزيز وأستاذي الجليل عبدالرحمن الصعفاني، وأتناول فيها دوره الوطني، وإسهامه الرائع في ثورة السادس والعشرين من سبتمبر، ودفاعه المجيد عن الثورة اليمنية شمالاً وجنوبًا.
خرج من قريته المقالح التي ولد فيها عام 1937، في أربعينيات القرن الماضي.. بدأ إنتاج القصيدة باكرًا، وعمره أربعة عشر عامًا. درس في حجة على يد أستاذ الأجيال الصانع الأول لحركة الأحرار اليمنيين، أحمد محمد نعمان. عاد إلى صنعاء في خمسينيات القرن الماضي، تخرج في دار المعلمين، ودرس في المتوسطة، كما درس مع زميله الأستاذ عبدالله البردوني، شاعر اليمن الكبير، ودرس في دار العلوم، فقد جمعهما التدريس في خمسينيات القرن الماضي، كما جمعهما العمل في الإذاعة.
يشير الدكتور علي محمد زيد في كتابه "عزاف الأسى": "وفي فترة لم يحدد البردوني تاريخها، وصل الشاعر عبدالعزيز المقالح من حجة، والتحق بالإذاعة، وكتب قصصًا للمشاركة مع عبدالله حمران في برنامج شخصيات أدبية".
يضيف الأستاذ البردوني في كتابه "تبرج الخفايا": "وعند سفره للحديدة [يقصد المقالح]، أوصى بأن يحملوني وحدي برنامج شخصيات أدبية، فتواصل البرنامج من سنة 1958، إلى قيام الجمهورية في سبتمبر 1962″، ويبدو أن هذه الفترة نفسها التي فاز فيها المقالح بجائزة القصة في السودان، فسافر إلى مصر، ومعه ناجي سريع، دكتور أطفال شهير، وعلي بن علي الجايفي، أحد أبرز ضباط تنظيم الضباط الأحرار، ورئيس أركانه في مرحلة من مراحل الثورة.
التقى الثلاثة في القاهرة بالأستاذ يحيى محمد الشامي، وتنظموا للبعث، وقد ابتعد المقالح عن حزب البعث العربي الاشتراكي في السنوات الأولى للثورة، كما ترك الإذاعة باكرًا أيضًا.
كان عبدالعزيز المقالح، ضمن قلائل من المدنيين، على صلة بتنظيم الضباط الأحرار. يسرد الأستاذ محمد عبدالله الفسيل في مذكراته "الحياة التي عشتها"، والأستاذ الفسيل من القادة السياسيين المخضرمين، ومن قادة حزب الأحرار، وله دور كبير في ثورة سبتمبر 1962، ومن المدنيين القلائل الذين كانوا على صلة بالتنظيم العسكري.
يذكر الفسيل في مذكراته (ص545، و546، و547)، قصة طلب بعض زعماء الأحرار منه التسلل إلى صنعاء، وكان حينها في مصر، لمواجهة نشاط عبدالرحمن البيضاني المدعوم من مصر، وتأثيره على تنظيم الضباط الصغار، ومحاولاته جر الثورة القادمة إلى مستنقع الطائفية والسلالية، وأنه سكن في منزل المقالح، ويتحدث عن كرم الضيافة، رغم المخاطر الشديدة، وظلا لأشهر يتواصلان مع الضباط الأحرار، ومع الشخصيات الوطنية، ثم يأتي على الدور في الإذاعة إلى جانب عبدالعزيز المقالح، وعبدالوهاب جحاف، معطيًا الأولوية لدوره وحضوره.
الدكتور عبدالعزيز المقالح رجل شديد التواضع، جم الأدب، ولا يتكلم عن دوره الرائع في المجالات المختلفة، وبالأخص في الجانب الوطني.
يشير الفسيل في كتابه المومأ إليه، (ص551)، وتحت عنوان "أسبوع الخطر": "كنت لازلت مقيمًا في بيت الأخ عبدالعزيز المقالح، وعند الظهر وصل الأخ الملازم أحمد الرحومي، وأخبرنا بدفن جثمان الإمام أحمد، ومبايعة البدر في يوم الخميس المقرر قيام الثورة فيه، وأحدث لدينا جميعًا ارتباكًا، وكان الترتيب أن يتم في هذا اليوم اغتيال البدر، وقيام الثورة، ولكن ذلك لم يتم".
جلي من خلال هذه المعلومة أن المقالح والفسيل كانا على اطلاع بقرار الثورة، فأحمد الرحومي أحد القادة الأساسيين في تنظيم الضباط الأحرار، وذهابه لمنزل المقالح فور دفن الإمام أحمد، ومبايعة البدر، يعني أن تغييرًا حصل، ولا بد أن يطلع عليه المقالح والفسيل؛ لأنهما على علم بموعد قيام الثورة، وكانا مطلعين على أدق تفاصيلها، وما يؤكد ما ذهب إليه الأستاذ الفسيل، ما أشار إليه كتاب "أسرار ووثائق الثورة اليمنية"، وهو الكتاب الذي أعدته لجنة من تنظيم الضباط الأحرار. الملازم أحمد الرحومي واحد من أهمهم يذكر في (ص170): "هذا ولم تكن صلات التنظيم مقتصرة على منظمة الأحرار وحسب، فقد كان له صلة مباشرة بالكثير من العناصر الوطنية الشابة في كل من صنعاء، وتعز، والحديدة، وحجة، وبخاصة أولئك الذين كانوا يعملون في الإذاعة، وفي مقدمتهم الأستاذ عبدالعزيز المقالح، والأستاذ عبدالوهاب جحاف، والأستاذ عبدالله حمران، والأستاذ صالح المجاهد". اهـ.
ومعروف أن الإذاعة نصف المعركة، وجانب كبير من النجاح. كانت الإذاعة جزءًا أساسيًّا من نجاح الثورة، وحشد الشعب اليمني، وكان العاملون فيها جزءًا من أداة الثورة السبتمبرية يومذاك.
ويتناول زميل الأستاذ المقالح، الأستاذ عبدالوهاب جحاف، وكانا في الإذاعة صبيحة السادس والعشرين من سبتمبر 1962، فيقول: "وفي الساعة السادسة تقريبًا مع طلوع الشمس، بدأ افتتاح الإذاعة بمارشات عسكرية أولًا، وبعد ذلك بأنشودة "الله أكبر" التي ظلت تسيطر إلى شهر نوفمبر 1967، وكانت هذه الأنشودة، وأخرى "دع سمائي فسمائي محرقة"، قد سلمتا من الاختفاء، وبعد الأنشودة أذعت بيانًا تحريضيًّا، وهو مسجل وموثق، وكنت كتبته مع الزميل المناضل عبدالعزيز المقالح مع عدد من البلاغات الثورية". موضوع بعنوان "التلاحم الثوري بين الإذاعة وتنظيم الضباط: ثورة، دراسات، وشهادات للتاريخ" (ص110)، يؤكد الأستاذ جحاف أن بيان الثورة أذاعه الملازم علي قاسم المؤيد.
ظل الدكتور المقالح طوال سنيّ حياته ينأى بنفسه عن الصراعات، والتهافت على المكاسب والمغانم، فما إن بدأت الخلافات بين الثوار من حول المناصب والمكاسب، حتى انزوى جانبًا، بل ابتعد عن صنعاء، فذهب إلى مدينة بيت الفقيه، حتى رتب أموره للسفر إلى القاهرة للدراسة أواخر ستينيات القرن الماضي، والتحق بجامعة عين شمس، مواصلًا مشواره التعليمي حتى الدكتوراه.
مطلع السبعينيات كان بيته مزارًا للأدباء والكتاب والمفكرين المصريين والعرب، وكانت تقام عدة ندوات أسبوعية يحضرها أدباء ومفكرون كعز الدين إسماعيل، وجابر عصفور، وحلمي سالم، وعشرات غيرهم.
كان من أكثر الناس زهدًا في التكالب على المناصب، والثراء، غاية في الأدب، والتواضع، وحسن الاستماع. أول مرة أزور القاهرة عام 1975، حملت إليه رسالة من والده ونسيبه زبارة، وكنا نحضر نشاط اتحاد الأدباء والكتاب المصريين، وبواسطته أجريت عدة مقابلات مع العديد من الشخصيات، منهم صلاح عبدالصبور، وعز الدين إسماعيل، وأحمد عبدالمعطي حجازي.
عندما سمع خبر زيارة الرئيس أنور السادات لإسرائيل، حجز على أول طائرة، وعاد إلى صنعاء. كان يشعر بالمضايقات، لكنه صبور وكتوم، فلم يكن يعبّر عن المخاوف. عرض عليه أكثر من مرة أن يتولى منصب وزير الثقافة، ولكنه يعتذر.
عمله كمدير لجامعة صنعاء جاء في حمى الصراع بين الشمال والجنوب، وبين اليسار، والتيار الإسلامي، وهيمنة الأجهزة الأمنية على الحياة السياسية برمتها، وعلى الجامعة بوجه أخص، وكانت الأمور شديدة التعقيد، فأدارها بقدر من المرونة والاتزان.
كان عمله في مركز الدراسات والبحوث اليمني، هو الوضع الأنسب له؛ لابتعاده عن الصراع. لا يجلس على المكتب إلا لمامًا، وفوق رأسه الآية: "تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين".
لم يكتب سيرة حياته، كما فعل زميله الشاعر العظيم عبدالله البردوني في "مذكرات مواطن: تبرج الخفايا"، ولكن مؤلفاته، وإنجازاته البحثية، وتدريسه للعشرات والمئات، ونشر الحداثة والإبداع والتنوير، ودواوينه الشعرية النائفة على العشرين، ومسلكه الرائع، واتزانه، ونزاهته، والتزامه الأدبي والأخلاقي، كلها تجسّد سيرة زاكية وعطرة.
كان السلفيون، منذ الإمام أحمد بن حنبل وحتى حسن البنا، يرددون في وجه الحكام: بيننا وبينهم الجنائز، ولكن جنازة الزعيم العربي جمال عبدالناصر أذهلتهم، وجنازة الشهيد جار الله عمر، والدكتور عبدالعزيز المقالح، أكدت وجسدت حب الناس للأكثر استقامة وخلقًا ونفعًا للحياة والأمة.
كان ارتباطه بقضايا أمته وشعبه عميقًا وقويًّا. إحساسه رفيع إزاء معاناة الناس. ولاؤه للثورة والجمهورية التي كان واحدًا من رموزها، متين أيضًا، دواوينه الكاثرة وقصائده الأكثر تعبير عميق وصادق عن قضايا وهموم ومعاناة شعبه اليمني وأمته العربية والإنسان.
كان غاندي اليمن بحق، فقد رفض وأدان كل الحروب ضد بلده وشعبه وأمته العربية، وقصائده ومسلكه أنموذج لدعوة السلام، وكان من أكبر مشجعي المواهب الإبداعية الجديدة والشابة في الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي والفن التشكيلي والمسرح.