سمكة.
ابتلعت لساني.
وبحثت عنها وعنه في قاع المحيط.
ولم أجدهما سوى اليوم.
فالعفو منكما، عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، على هذا الصمت الذي طال.
ومرحبًا بكما من جديد.
اشتقت لكما.
اشتقت إلى الطنين.
***
ذاك الصمت خنقني.
صمتٌ خنقني.
لكن قلمي ومعه لساني، كانا مصرين على الصمت. فتركتهما. وعكفت على البحث العلمي.
ولم أندم.
ثلاث سنوات مرت منذ بداية مشروع بحثي عن مخرجات الانتفاضات/ الثورات العربية لعام 2011. سافرت خلالها إلى أربع دول، أجريت فيها مقابلات بحثية مطولة، واطلعت على أرشيفات تاريخية، وطورت خلالها مدخلًا نظريًا لفهم هذه المخرجات. واستخدمت الحرب الأهلية اليمنية الأخيرة كدراسة حالة.
وكان الهدف نشر نتائج هذا البحث في كتاب واحد، لولا أن الأمانة اقتضت نشره في كتابين.
الأول، بعنوان "الحرب الأهلية اليمنية لعام 2015: الربيع العربي، بناء الدولة، وعدم الاستقرار السياسي"، فيه تحدثت عن جذور عدم الاستقرار السياسي في اليمن.
والثاني بعنوان: "الصراع الخليجي وحرب اليمن الأهلية"، أتحدث فيه عن الإطار الإقليمي والدولي للصراع في اليمن.
الكتاب الأول اكتمل، وسينشر بالإنجليزية في العام الجديد 2023. والثاني مازلت عاكفة عليه، ولعلي سأضطر من جديد إلى السفر لاستكمال جوانبه.
إذن، عزيزتي القارئة، عزيزي القارئ، كما تريان، كان وقتي معجونًا بالعمل والكتابة.
رغم ذلك كنت أختنق.
الكتابة عندي إذا لم تشمل الكتابة باللغة العربية، لا تكفيني.
أختنق عندما يصمت قلمي العربي.
أختنق.
كتبت آخر مقال لي في الفاتح من سبتمبر 2021، بعنوان أمي والمرض العقلي.
بعدها تجمد الحبر في القلم.
كأن بَوحي بذاك الحب وذاك المرض دفعني دفعًا إلى التواري خلف البحث العلمي بلغات أخرى.
عليك اللعنة أيها المرض، ألف ألف مرة.
كنت أقول لنفسي، لعل الوقت قد حان للعودة إلى الكتابة باللغة العربية. مقالة رأي. اكتبيها. علقي على ما يحدث. وهناك الكثير الذي يمكن التعليق عليه.
حال الدول العربية.
حال العلاقات الإقليمية.
واقع الحروب الداخلية.
واقع ما يسمونه سلامًا.
واقع الحقوق والحريات.
واقع الإنسان. على تنوعه.
هناك الكثير الذي يمكنني التعليق عليه.
أليس كذلك؟
لكن الضجيج، ظل صاخبًا كعادته، مشحونًا بعرق المتضامنين والمتضامنات، وملاعب الكرة، منقسمة كعادتها، كل يشجع، كل يلوح، يتضامن، ويجعجع، كل وفريقه.
ولا يخجلون!
ولا يخجلن!
فأشعر بالقرف، ويعود قلمي إلى التواري خلف البحث العلمي بلغات أخرى.
ودول تدفع لمن يصرخ أكثر.
لمن يشجع أكثر.
وشعوب تجوع أكثر.
وبعضٌ من نُخب تغمس قهر هذه الشعوب في مرقها وهي تقهقه. وكرشها تتدحرج أمامها.
ولا يخجلن!
ولا يخجلون!
فأشعر بالقرف من جديد، ويعود قلمي إلى التواري خلف البحث العلمي بلغات أخرى.
لكني اختنقت.
والله اختنقت.
فلغتي العربية تظل أمي.
الرحم التي تحتويني.
وصمتها يقتلني.
فأقسمت ألا أصمت من جديد.
سأعود إلى القلم.
ولن أعلق على ما يقرفني.
أترك ذلك للبحث العلمي. كمشرط جراح يُشخص الحالة ثم يقترح طرق علاجها.
بل سأحكي كل أسبوعين حكاية. بعضها مضحك. بعضها غير ذلك.
أو أطرح عليكما قضية. بعضها حقوقي. وبعضها غير ذلك.
ومعهما أجدد عهدي.
بإيماني بهذا الإنسان.
بالخير الذي فيه.
بالقوة التي فيه.
بقدرته على الاختيار.
وبقدرته على التغيير.
***
إذن.
سمكة.
ابتلعت لساني.
وبحثت عنها وعنه في قاع المحيط.
ولم أجدهما سوى اليوم.
فالعفو منكما، عزيزي القارئ، عزيزتي القارئة، على هذا الصمت.
مرحبًا بكما من جديد.
اشتقت لكما.
اشتقت إلى الطنين.
كل عام وأنتن في حرية وسلام ورفاه.
كل عام وأنتم في حرية وسلام ورفاه.