صنعاء 19C امطار خفيفة

مشرحة التاريخ في انتظار بوش

2009-01-29
مشرحة التاريخ في انتظار بوش
مشرحة التاريخ في انتظار بوش - حسن العديني
في العشرين من يناير خرج جورج بوش من البيت الأبيض بعد ثمان سنوات غطت فيها الحروب أوسع مساحة في العالم منذ الحرب الثانية وشهدت في نهايتها أعنف أزمة إقتصادية منذ الكساد الكبير. ويبدو أن بوش سيحتل مكانة مميزة في قائمة الرؤساء الامريكيين منذ استقلال الولايات المتحدة عن التاج البريطاني في 1883، ولسوف يستحوذ عهده، فيما أعتقد، على القدر الأوفر من كتابات المؤرخين وعلماء الاقتصاد والسياسة والخبراء العسكريين بل والمحللين النفسانيين وغيرهم من المشتغلين في حقول العلوم الإنسانية الذين يجدون في الحروب والتحولات الكبرى في التاريخ مادة لاختبار نظرياتهم الجديدة أو لإعادة تأكيد نظريات قديمة يتبنونها.
لا علاقة لهذا -بالتأكيد كله- بعبقرية خاصة يتمتع بها بوش ولا بإنجاز خارق وفارق في تاريخ بلاده شأن «إبراهام لنكولن»، مثلاً، الذي كرسه التاريخ كمحرر للعبيد وذائد باسل عن وحدة الأمة الامريكية في وجه النزعة الانفصالية للسادة الاقطاعيين في الجنوب. كما لا صلة لذلك بمبدأ جديد قابل للاستمرار كمبدأ مورو أو مبدأ ويلسون.
أحياناً -وربما غالباً- يصرف المؤرخون لمراحل انحسار قوة الأمم اهتماماً أعمق بكثير مما ينفقونه من جهد لفترات التمدد والصعود. ذلك أن للانحسار والتراجع من الأسباب ما يستعصي على الملاحظة المباشرة والفهم السريع.
ولما كان دور الفرد مؤثراً في التاريخ فاعلاً في توجيه مجراه فإن القادة الذين ترتبط بهم لحظات الانكسار يلقون من الباحثين اهتماماً يفوق ما يولونه للزعماء الذين يضعون شعوبهم على سلم النهضة أو يرتفعون بها إلى ذرى المجد.
من هذه الزاوية بالذات سوف تستقطب شخصية جورج بوش اهتمام الدارسين وسيدخل التاريخ كرئيس وضع بلاده في مكان بالسفح لا يفصلها كثيراً عن نقطة التدحرج. وإذا ما استطاع خلفاؤه أن يبعدوها عن الحافة فقد يحتاجون إلى وقت طويل لمداواتها من رضوض وأوجاع سببتها سياسات الرئيس السابق.
إن الأمم مثل الأفراد تتفوق على من حولها وعداها بالجسارة والإقدام، وبالعبقرية والعلم، والنتيجة مهابة ترفع الكبرياء وتعلي الكرامة. لكن هذا كله يتداعى عندما يغري التفوق بإذلال الآخرين وجرح كبريائهم والنيل من كرامتهم.
وفي عهد بوش وبسببه تقوضت مكانة امريكا وهبطت إلى درك معتم، ولم تكن فردتا الحذاء اللتان ألقيتا في وجهه من صحفي عراقي غاضب سوى التعبير المأساوي عما لحق بالأمة الامريكية العظيمة من هوان على يد رئيس أرعن.
دعوني أقول إنني- على عكس كثيرين- شعرت بتعاطف شديد مع الرئيس جورج بوش، وتملكتني الشفقة عليه وهو ينحني مرتين لتفادي ضربة الحذاء، فهو إنسان في النهاية بصرف النظر عن جرائمه الفظيعة في حق الانسانية.
أمام ذلك المشهد المحزن ألقت ذاكرتي بمشهد اغتيال الرئيس المصري أنور السادات على المنصة كما لو أنها لمعة برق، وقلت في نفسي إنه كان أهون على جورج بوش وعلينا أن نراه يسقط مضرجاً بدمه من أن يتلقى إهانة معيبة برئيس الولايات المتحدة الامريكية.
لقد كنت من أشد الناقمين على الرئيس السادات منذ شرع في تصفية المكاسب العظيمة للحقبة الناصرية ويفرِّط بالانجاز الضخم لشعب مصر وجيشها في معركة العبور المجيد، مع ذلك فقد تألمت أفدح الألم على مقتله الفاجع. لكنه رغم كل شيء دخل التاريخ كبطل تراجيدي. ومهما كان من خلاف حول دوره فيكفيه أنه دفع حياته ثمناً لخيارات أعتقد أنها تخدم شعبه. وفوق ذلك فقد واجه قدره واقفاً، وبدلاً من تفادي النيران قال باستغراب وذهول: «مش معقول»، والكلمتان إعادة بلغة مختلفة لكلمات «يوليوس قيصر» الأخيرة: «حتى أنت يابروتس.. إذن ليمت قيصر».
لعل التماثل في الوقوف على المنصة أحيا صورة السادات وليس صدام حسين (عدو بوش اللدود)، وقد واجه هو الآخر الموت برباطة جأش نادرة التكرار في التاريخ تستحضر تحدي سقراط الفيلسوف للموت والمسيح عليه السلام وكذلك طومان باي سلطان مصر المملوكي الذي خاطب قاتله العثماني: «هيا... أنجز مهمتك أيها الجلاد».
من المحزن أن جورج بوش لم يكرم بنهاية تضعه في مقام يوليوس قيصر أو أنور السادات، وكانت نهاية لائقة بعظمة وجبروت الولايات المتحدة الامريكية.
أقول هذا صادقاً لأن غطرسة القوة وضراوة البطش ليست الوجه الوحيد للقوة الامريكية. صحيح أن الحضارة الامريكية أقيمت فوق جثث الهنود الحمر وأن مخالبها وبراثنها امتدت في أرجاء المعمورة وغرست في لحوم الشعوب وتخضبت بدمائها، لكنها على الناحية الاخرى أعطت البشرية أكثر من أي أمة في التاريخ. فمنها خرجت أغلب الإختراعات والكشوف العلمية في القرنين الماضيين، وإلى علمائها يرجع الفضل في إشراقة الحضارة الإنسانية الحديثة.
لم يكن الرؤساء الامريكيون أقل افتتاناً بالقوة. ويمكن فهم دوافع حروب المستوطنين الأوروبيين في أمريكا الشمالية ضد فرنسا وأسبانيا، ويمكن أيضاً إسقاط دلالة توسع الولايات المتحدة على أكثر من مليون ميل مربع من أراضي المكسيك، لكن إغراء القوة دفعها فيما بعد إلى عبور مسافات طويلة حتى جنوب شرق آسيا فاحتلت الفليبين مرة وفيتنام مرة ثانية. وفي حربها ضد اليابان مارست القوة المفرطة في المحيطين الهادي والهندي. ولما سلَّمت اليابان بالهزيمة ودخلت في التفاوض على شروط الاستسلام لم يتردد الرئيس «هاري ترومان» في توجيه الأمر بإلقاء قنبلتين ذريتين على «هيروشيما» و«نجازاكي». وغزت الولايات المتحدة «هاييتي» و«جواتيمالا»، وشنت حرباً وحشية على العراق في 1991، وأغارت بالطائرات والصواريخ على ليبيا والسودان وافغانستان وصربيا، ونفذت اغتيالات سياسية لزعماء سياسيين ورؤساء دول مناهضين لسياساتها العدوانية، ودبرت انقلابات عسكرية في دول عديدة في أمريكا اللاتينية وافريقيا والشرق الأوسط.
كل هذا وأكثر منه حدث بقرارات اتخذها رؤساء امريكيون، لكن الخشونة كانت تمارس تحت أغطية سياسية قابلة للنقاش وإن لم تكن في خواتيمها تحتمل التصديق. بل هي أحياناً أرتدت قميصاً شفافاً منسوجاً من خيوط القانون الدولي والقيم الاخلاقية، والمثال على ذلك حربها الأولى على العراق لإخراجه من الكويت وضربات الناتو العنيفة لصرب البوسنة.
جورج بوش كان استثناءً من الرؤساء الامريكيين من ساعة اعتلائه كرسي الرئاسة، وقد وصل إليه بنصف فوز ونصف مهانة، ولم يأخذ إذن الدخول إلى البيت الأبيض إلا من المحكمة العليا وأغلب أعضائها ذلك الوقت لهم ماض جمهوري، وباليقين فإن للجذور تأثيرها على الأهواء والميول، والهوى غلاب على العقل والضمير ولو كان ضمير القاضي نفسه.
وهكذا قدم جورج بوش إلى البيت الأبيض بفوز مجروح وكرامة جريحة، وبنقاط ضعف كثيرة تحاصره أولها افتقاده النجومية في مجتمع مفتون بالنجوم من هوليود إلى نجوم المال والصحافة والسياسة. والمزعج أنه جاء مباشرة بعد بيل كلينتون بشخصيته الجذابة وكفاءته في إدارة الأزمات الداخلية والدولية وبقوة بلاغته وإنجازه الهائل على المستوى الإقتصادي. ولم يكن لدى بوش الجاذبية الشخصية ولا البرنامج الطموح القادر على إلهاب حماس الجماهير. زاد إلى ذلك أنه لم يشق طريقه إلى القمة بجهوده وقدراته الخاصة بل سار على هذا الطريق بقوة دفع والده.
من هذا فقد كان جورج بوش واقعاً تحت ضغوط نفسية أثرت على أسلوبه في الإدارة وتحكمت في أدائه السياسي بإجماله. لقد حاول تعويض الضعف الظاهر في شخصه بالقوة الجبارة لدولته. لكن هذا وحده لا يكفي لتفسير القرارات الخطيرة التي أتخذها طوال فترة قيادته لبلاده.
كان هناك جانب عقائدي يتمثل في انتسابه لما يُسمى بالمسيحية -الصهيونية التي ينتمي إليها تيار نافذ في السياسة الامريكية. وبحسبها هم يعتقدون باقتراب عودة المسيح بعد حرب كبيرة تنتهي بمعركة هيرمجدون بالقرب من القدس.
وكان بوش ومعه أقرب مساعديه ممثلين مباشرين لكبريات الشركات النفطية، وذلك شدَّد من إلحاح إحكام السيطرة على منابع النفط في الخليج والقوقاز. وقد يُضاف إلى هذا بالنسبة لحملته على العراق أنه حمل معه إلى البيت الأبيض إرث والده في العداء الشخصي لصدام حسين.
لهذا فقد بدأ عهده بالجنون وانهاه بالفشل، فاضطر معه إلى الاعتراف بأنه بنى قرارته على تقارير استخبارية زائفة ومضلِّلة.
وإذْ أراد أن ينفي عن أمريكا انحراف العقل والضمير فقد جعلها عملاقاً هائلاً يمشي ببصر حسير وبصيرة ميتة.

إقرأ أيضاً