صنعاء 19C امطار خفيفة

: عن الرثاء الذي يُهين الراحلين.. يحبونني ميتاً كي يمدحوني!.. ووليد البكس: درويش في حضرة الموت

2008-08-21
: عن الرثاء الذي يُهين الراحلين.. يحبونني ميتاً كي يمدحوني!.. ووليد البكس: درويش في حضرة الموت
جمال جبران: عن الرثاء الذي يُهين الراحلين.. يحبونني ميتاً كي يمدحوني!.. ووليد البكس: درويش في حضرة الموت
عن الرثاء الذي يُهين الراحلين.. يحبونني ميتاً كي يمدحوني!
 
جمال جبران
Hide Mail
(1)
أحب قراءة المراثي. أتتبع أثرها حيثما كانت وحلّت. أحب الكتابة التي تسير على خطى الراحلين الموتى. عمل ولو كان متأخراً لكن حسبه أنه يعيد الاعتبار لمن يستحق. ولمن يستحق بالذات. المراثي المجانية تفضح حالها وتدل على مجانيتها وابتذالها. لا أقول هنا بالمراثي التي تغرق في عاطفتها وشجنها أو حتى بكائها. حيث أعتقد أن الكتابة، أي كتابة تنقص من قدرها إذا ما خلت من تلك العاطفة. أنا أقصد تلك الكتابة التي لا تتناسب مع حجم الكائن المَرثي. التي تبدو عليه، وحتى بعد موته فضفاضة على حجمه. الكتابة التي تحاول جاهدة ومستميتة، أن تزيد وتضاعف، بأي شكل كان من مكانة الراحل. مكانة لمن يكنها أبداً ولم يتمثلها وهو على قيد الحياة. ما يشبه كتابة مدفوعة الثمن سلفاً، توازي في المقام، تلك الأبيات الشعرية السخيفة التي يلصقونها على بطاقات أو دعوات الزفاف. هو شيء لا يشبه الشعر ولا يشبه النثر. شيء مسخ يقيم في المابين لكنه يدل بقوة على سذاجته وسطحيته. مجرد رصف مفردات لابد أن تنتهي على ذات القافية ولا يهم المعنى. ما يهم هو إقحام اسم العريس وحشره بين تلك المفردات ليسير بعدها مزهواً في عرسه ووسط مدعويه وأحبابه حاملاً راية الفارس الذي سيدخل معركته المرتقبة، التي لا تقبل الخسارة، وقد دخل اسمه في تاريخ الشعر، ولكن من أوسخ أبوابه.
(2)
أنا أحب وأود تلك المراثي التي تكون مكتوبة بلغة الصدق، شفافة ولا تنافق. تشير ناحية الأشياء والصفات التي كانت في الكائن الراحل. لتعيد له الحياة ولو مجازاً. مراث تعيد الاعتبار للمقصود بها. أقرأ ما كتبه محمد الماغوط في رثاء بدر شاكر السياب فأتخيله لم يمت بعد. فهو يقيم في ديوان الأعمال الكاملة لمحمد الماغوط. أقرأ ما كتبه عباس بيضون في رثاء الفنان النبيل أحمد زكي فأحسبه لم يمت. أقرأ ماكتبته عناية جابر في رثاء الفراشة سعاد حسني فأحسبها لم تمت. أقرأ رثاء سحر مندور في الأنيقة ماجدة الخطيب فأحسبها ما تزال بيننا. أقرأ ما كتبه الكبير غسان تويني في رثاء ابنه جبران فأراه ما يزال يمارس شغله في " النهار ". أقرأ ما كتبه الراحل عبد الرحمن منيف في رثاء سعد الله ونوس فأراه يلعب دوراً جديداً ومختلفاً في "رأس المملوك جابر". أقرأ ما كتبه محمود درويش في الراحلين إدوارد سعيد، سعد الله ونوس، جوزيف سماحة، سمير قصير، محمد الماغوط، وحتى ياسر عرفات، فأراهم جميعاً وقد عادوا للحياة مرة أخرى يمارسون طقوس أيامهم العادية الممكنة والمحتملة. لكن أقرأ ما يُكتب اليوم في الراحل الجديد والكبير محمود درويش فأرى كم أنهم يقتلونه كما ويمثّلون بجثته التي أراد لها، بحسب وصيته، أن تذهب إلى قبرها سليمة من أي أذى. فدرويش لم يكن يحب البهذلة. عندما أخبره الطبيب أن هناك احتمالين بعد خوضه العملية الجراحية، إما أن يخرج من غرفة العمليات إلى قبره، أو أن يخرج مشلولاً على نقالة متحركة. وكان اختيار درويش حاسماً ومشيراً باتجاه الاحتمال الأول.
أن يخرج إلى قبره كريماً وسليماً من أي إهانة أو تجريح أو بعزقة. هو أراد ذلك لكنهم وهذي الأيام سائرون في درب إهانته ومرمطة كرامته على أوسخ حائط في عمارة مهجورة يرتادها سكان الغرف المنفصلة، الناس القادمون من الريف ولا يجدون بين أيديهم ما يكفي لاستئجار شقق لها أن تحترم الحد الأدنى من كرامة الكائن البشري.
أرى الكتابات المنشورة هذه الأيام فأشعر بحاجتي لتحطيم أسنان كُتّابها. أراها وأشعر أن بي حاجة لحرقهم بماء النار. (أمزح). نعم ولكن لماذا يفعلون بدرويش ما يفعلون!
هو قد كتب " يحبونني ميتاً كي يمدحوني ". لم يكن يعرف أنهم يريدونه ميتاً كي يذبحونه وكي يطرحونه بداخل سلة الغسيل الوسخ.
(3)
هو كلام أو كتابة أتت على وزن " لماذا تركت الشعر وحيداً . الشعر يتيم من بعدك. أنا يتيم من بعدك يادرويش . لمن تركتنا ياسيد الشعر. درويش يامنارة أيامنا. لا نصدق عالماً من دونه. السماء واطئة اليوم. "وما إلى هذا من كلام مجاني لا يشير من قريب ولا بعيد لحقيقة القيمة الشعرية التي خلفّها محمود درويش خصوصاً وهو يأتي من أدباء كانوا معروفين بموقفهم العدائي من المنجز الشعري الذي صنعه درويش. هم ذاتهم من اشترك في الحملة الأخيرة التي رافقت إصدار ديوانه "كزهر اللوز أو أبعد". حيث اتهموه بترك القضية الفلسطينية وشعر المقاومة وذهابه لشعر الغزل والعاطفة والحب، وكأن الإنسان الفلسطيني كائناً بلاقلب! وهذا مثبت في حوارات وكتابات عديدة دونّها محمود درويش شاكياً هجومهم عليه بلا سند حقيقي أو تبريرات منطقية.
وفوق هذا، هناك من حاول إلباس محمود درويش ما لم يكن فيه. ما كتبه عبد الباري عطوان كمثال هنا. قوله أن درويش كان، بعد استقالته من عضوية اللجنة التنفيذية في منظمة التحرير الفلسطينية احتجاجاً، ورفضاً لاتفاقية أوسلو، واجه ظروفاً مالية صعبة جداً،، فقد قرر الرئيس الراحل ياسر عرفات وفي خطوة مؤسفة، وقف الغالبية العظمى من مخصصاته المالية، ومن بينها أجرة الشقة المتواضعة التي كان يعيش فيها (غرفتان وصالة)، وكان بيننا اتصال هاتفي يومي في الساعة الثانية عشرة بتوقيت لندن، وفي احدى المرات، ولظروف قاهرة تتعلق بمشاكل مادية واجهتنا في الصحيفة استدعت قدوم محصلي الديون لمصادرة اجهزتنا وطاولاتنا وما تبقى من أثاثنا الهرم، لم أهاتفه كالعادة لمدة يومين فاتصل بي في اليوم الثالث غاضباً ومزمجراً بسبب انقطاعي عن الاتصال.
فاجأني عندما قال إنه يعيش على هذه المكالمة اليومية، فهو لم يعد يستقبل غير مكالمتين فقط، الأولى مكالمتي المعتادة، والثانية من شخص عابر سبيل، وتساءل هل طلبتني في أي يوم من الأيام ولم تجدني، قلت لا.. قال معنى هذا أنني لا أخرج من البيت لأني لا أملك ما يجعلنى أخرج إلى القهوة أو المطاعم فقطعاً سيلتف حولي المحبون، ولا استطيع دفع الفاتورة. شعرت بالصدمة، فهذا الشاعر الكبير لا يجد من يهاتفه، وربما أحس بهذا التساؤل في ذهني، وقال: الأمر بسيط جداً: لا نقود.. ولا نفوذ.. ولا يهود.. وشرح لا نقود لأن الرئيس عرفات أوقف مخصصاته، ولا نفوذ أي لم يعد عضواً في اللجنة التنفيذية وقريباً من الرئيس مما يمكنه من حل مشاكل المحتاجين أو توظيف بعضهم، وأخيراً لا يهود.. أي أنه ليس منخرطاً في المفاوضات التي كانت على أشدها، حتى يكون في قلب الحدث الاعلامي والسياسي ". وهذا بحسب عطوان، رئيس تحرير صحيفة القدس العربي اللندنية.
(4)
وكما نرى فهذا كلام لا يمكن لعقل متابع إمكانية تصديقه حيث والعلاقة التي كانت تربط ياسر عرفات بمحمود درويش من الوضوح والمتانة بما يقيها شر الصدمات والأزمات العابرة. فعلاقتهما وحتى بعد اتفاقية أوسلو واستقالة درويش كانت متواصلة ومستمرة بحسب ماصرّح به درويش نفسه في أكثر من مناسبة وأكثر من حوار خصوصاً عندما ثارت عاصفة من الغبار حول بيت شعري استخدمه درويش في ديوانه "أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي" وهو "لماذا تطيل التفاوض ياملك الاحتضار". فقيل ان المقصود هنا هو ياسر عرفات. لكن درويش نفى ذلك بشدة وقال إنه لو كان يعلم ما سوف يسببه هذا البيت لكان شطبه. وهو كان يكرر هذا دائماً ويعيد التذكير به. التذكير بتلك العلاقة الأبوية التي تربطه بياسر عرفات والتي تقف بمثابة الواقي والصاد للرياح الدسيسة. كما ومعظمنا يعلم أن درويش كان ابن عرفات المدلل. وعاش حياة باريسية مرفهة وبدخل مادي كبير جعلته يحيط نفسه بالكثير من المريدين وعلى رأسهم الناقد صبحي حديدي.
فلماذا إذن، وما لفائدة من محاولة إظهار محمود درويش في مقام الكائن المُنزه والأصيل
والبعيد عن كل شر! هو كان وما يزال شاعراً كبيراً وكبيراً جداً. في نظري هو أكثر شعراء العرب قاطبة شاعرية وقوة ونقاء بصيرة. على الأقل لم يكن عنصرياً وقحاً كأبي الطيب المتنبي. هو شاعر كبير وكفى. محاولة إظهار الأمر على غير هذا والذهاب إلى مساحات غير معقولة لهو ذهاب ينطبق عليه ما قلناه عاليه.
 
 
***
 
 
في حضرة الموت
 
وليد البكس
alboox-
 
في رحلته القصية إلي حافة الوجود، يتجاوز محمود درويش في جدارية الرمز والأبجدية حدود الألم وعتبة البوح والإفصاح صوب الاندغام في عوالم التيه ومدارج البياض، متماهيا مع حال لا يربطها [بزمكان] سوى التماعات الذاكرة، حيث الوعي في رصيد وتدوين سيرة الذات والحرث في حقول "الانا" وهي تحاول مواجهة كافة أشكال الخواء والعدم التي يتنكر فيها الموت/ الحقيقة واليقين شبه الوحيد الذي يشغلنا طويلا.
إذ ما فتئ الذكاء البشري يتحايل عليه بالتوالد أحياناً، وبالمحاولات المتواصلة لسرقة سر الخلود بوجهيه الوهمي والرمزي، في أحايين أخرى، ودونما طائل على الأغلب الأعم.
فهل نبالغ في الجهر إذا قلنا إن الحياة (هذه البرهة التي نختلسها بين الأزل والأبد) هي محاولة لإضفاء معنى على الوجود وإنقاذه من الخواء،عبر إبلاج المعادل الرمزي للروح فيه فيصبح مترعا بالدلالات التي تضج بالحياة؟
في جدارية درويش كانت محاولة لتعرية الموت. ولا أحد يستطيع فعل هذا سواه.. ربما كان الشاعر الراحل يسير إلي ذلك، فتوقف الآن.
محمود درويش الذي صارع الموت كثيراً.. مات ليل الأحد الفائت، المساء الحزين بعد أن سجل أحد منازلاته في"الجدارية" ليعيش.
نموت بأجسادنا الترابية لنحيا في طقوسية الرمز والأسطورة ونتطاول في عوالم الأدب والفن،وكأننا بذلك نقدم أجسادنا قرابين لآلهة المعنى.
شاهدنا الوحيد ضد العدم!..من مكان قصي يشبه البرزخ الذي يفضل تخوم الموت عن فضاءات الحياة.
يستكمل درويش جداريته المصنوعة بنفس الشعر، ووهج الكلمات..يمضي عميقا في الغياب ووحيدا في حضرة الموت المراوغ والمخاتل والمقنع، زاده الأبجدية والتحرر من شرطه الوجودي ومن ذاته أو من بعضها، ليكون هذا الحضور الإبداعي الباذخ تتويجا لمنتهى الغياب والتمرد.
كان يعلم أن منازلة الموت لن تطول..استعان على الأبدية البيضاء والعدم الضبابي بالحلول، فيصير كرمة يشرب العابرون نبيذها، وفكرة تصل دونما سيف، ورؤيا تنبعث دوما كما العنقاء من تحت الرماد..غير أنه هذه المرة مختلف..يذهب ولا يعود.
في حالة سابقة حاور محمود درويش ملك الموت مشفقا عليه رغم جبروته وسطوته، فلم يكن مثلنا طفلا "تهز له الحساسين السرير" ولا عاشقا تضمه "امراة بين نهديها" وتقاسمه الحنين، ولا والدا يأتيه أولاده ضارعين بالحب والوفاء فينهزم في أغاني بلاد الرافدين وفي مسلة المصري وفي النقوش على الحجارة، وفي الخلود المنفلت من مكائد الموت.
"هزمتك يا موت الفنون جميعها" بهذا خاطب درويش الموت، وكصديق هذه المرة بأن يكون معنى ثقافيا ليدرك حكمته الخبيثة والمستنيرة، فيها: الإنسان والموت "صوفيان على طريق الله" "محكومان بالرؤيا ولا يريان"، وتاريخهما طافح بالعبث"، قد تبني الحمامة عشها وتبيض في خوذ الحديد "فالصراع والتحول هما كفالة البقاء كما تعلمنا" حبة القمح التي ماتت لكي تخضر ثانية" تتواتر، وعلى مدى القصيدة/ الديوان،لحظات الضعف والضياع تتجاور ولحظات القوة والكشف أيضا.

إقرأ أيضاً