رد الاعتبار لحصة الرياضة في مدارس البنات - أروى عثمان
لصديقة الطفولة "نجيبة" ونحن نهرب من الحصص متوجهات إلى الملعب
-1-
اللحظات الحميمية لحظات هاربة، أستدعيها بقوة، يأتيني القليل منها، ويذهب معظمها، وكأنما محكوم علينا بذكريات حزن تتسيدنا رغماً عنا.
لذة الارتداد إلى الطفولة، حتى لو كان بعض جوانبها تعسة، جد مهم، أن تكون معنا وبيننا في ظل اللخبطات الكبرى التي نعيشها.
كتب غاستون باشلار على لسان الكاتب فرانز هيلينز: "ليست الطفولة شيئا يموت فينا وينحل ما إن تنهي دورتها. إنها ليست ذكرى. إنها الكنز الأكثر حياة. وهي تستمر رغما عنا... وويل لمن لا يقدر أن يتذكر طفولته، أن يدركها من جديد في داخله، كجسد في جسده الخاص، كدم جديد في دمه القديم؛ فهو يموت منذ أن تتركه".
-2-
وأنا أستمع لوزير التربية والتعليم وهو يرصد معجزات التربية والتعليم لمنجزات: المسابقات الرياضية، الفنون، والمسرح، كان كلامه جميلا، ساحرا، انتقلت ببساطه السحري، وحلقت كطائر مجنح في عالم مدارس أوروبا. وللأمانة كدت أصدق نفسي وأصدقه، بأنني في قلب مدارس فرنسا، أو أي دولة غربية، لولا بساط سحري آخر نقلني إلى حيث يتكلم الوزير (من تليفزيون اليمن). وأدخلتني هذه القوة السحرية إلى واقعي المغموس بالبؤس. وقالت لي بالفم المفتوح: "هيييييه! اذهني، أنت في مدارس ألهاكم التكاثر! في اليمن، اليمن، اليمن".
أنا شخصياً درّستُ في مدارس اليمن ثماني سنوات. بناتي يدرسْن في مدارس حكومية. فلا أدري عن أي مدارس يتحدثون، وعن أي نشاطات رياضية وموسيقية وفنية يتحدثون؛ إلا إذا كان ما تقدمه المدارس في نهاية كل عام يعد نشاطا مدرسياً فنياً فلكلورياً... الخ، وهذه الكارثة الكبرى.
-3-
في تلك اللحظات (الفضائية) السحرية (وأشكر الوزير عليها) استدعيت صديقات الفصل والمدرسة في "مدرسة أسماء" الإعدادية الثانوية، في "صالة" تعز. استدعيت أساتذتي، أركان المدرسة، سلالمها، السبورة، الملعب... الخ. استدعيت بقوة صديقتي الحميمة "نجيبة".
كنا مجموعة من الصديقات الشقيات، نتزعم حملة الشقاوة أنا ونجيبة. تذكرت كيف كنا نتحين الفرص، بل ونصنعها، للهروب من الحصص المملة، وما أكثرها في مدارسنا! ثم "هووووبـ" والقفز إلى ساحة الملعب. تذكرت كيف كانت مُدرّسات الرياضة يتسامحن معنا، كونهن آتيات من دول عربية، ويتفهمن مدى الكبت الذي تعيشه الطالبة اليمنية في أسرتها ومجتمعها، ويدركن أكثر ما تمثله المدرسة كمتنفس ضروري لأن نعيش.
-4-
في حصص الرياضة كانت لنا ملابس خاصة، وكانت لنا ألعاب مختلفة: كرة الطائرة، التنس، كرة السلة، الجري... الخ.
كان الملعب حياة، يلطف تغضنات حياتنا، يخرجنا من جداول التعاليم الصارمة في البيت والمدرسة، يكسر مللنا، وخصوصاً حصص اللغة العربية والإسلامية والاجتماعيات.
تذكرتُ كم عدد المرات، التي لا تعد ولا تحصى، ونحن نوقع تعهدات بعدم الهروب من الحصص، وكل تعهداتنا كانت موقعة بـ"آآآآخر مرة".
تذكرتُ كمَّ الغضب الذي كانت تمتصه مدرساتنا والأخصائيات الاجتماعيات، وهن يمسكننا متلبسات باللعب، وسرعان ما يتسامحن، ويتركن أجسادنا تتنفس لعباً وجرياً، و"غاب القمر ولا عادوا".
كنا والصديقات كلما انكتمنا، كان الملعب سيد الإناسة بامتياز، الإناسة التي نفتقدها في منازلنا وفي كل حياتنا.
-5-
بداية الثمانينيات كانت أعضاؤنا ناطقة، فرحة، مستبشرة بالشمس والتحليق مع صفارة الحكم:1، 2، 3... أحاسيسنا متدفقة، كنا نتنفس رسماً وموسيقى، ولا توجد طالبة بدون مذكرة خاصة وحميمة، ترسم، وتكتب أشعاراً وخواطر. رسوماتنا وشخبطاتنا تعلو دفاترنا، وطاولاتنا، وأحلامنا.
قليلاً، قليلاً (والله لا الحقه خير من أفتى بمثل هذه الحصص) بدأت تزحف حصص التدبير المنزلي من طبيخ وخياطة، وبدأ الملعب يضمر، يسود، يتوحش... ملعب خالٍ من إناسة القفز، وصفارة الحكم، وشبكة الملعب.
أصبحت الإبرة والخيط، والدسوت والمقالي، والسمن والصابون، هي ملعبنا الجديد، أسلحتنا في العلم والمعرفة والفنون، وكل مستقبلنا.
كانت كل غرزة تعني مزيدا من كتم مساماتنا، غرزة تخزق شراييننا الحارة، تنغرس في خلايا أدمغتنا، وتذوّب ما تبقى من حركة في دمائنا. إنها غرز صنعها فحول الهرميات الكبرى من: البدواة، والقبيلة، المتدثرين بالأسلمة السياسية للجم أعضائنا الفرحة.
كانت كل تقلية للبصل والثوم المهروس وتسييحهما بالسمن البلدي (على شان تطلع الطبخة ترم العظم والبدن) هي تسييح لوجداننا، تقلية وحرق لعصافير أشجاننا وأحلامنا. كل رغوة صابون، هي كنس ومسح للفراشات داخلنا.
-6-
انهزمت لغة المضرب، وتنس الطاولة، ونط الحبل، و"شمس، قمر، نجوم" تكسّح كل شيء، وتكسّحنا نحن في لجة أن نغدو نساء بروائح الزيت والسمن والبتي فور والمكرونة بالبشميل... وغدت طرقاتنا الفرحة والشرحة من "حوض الأشراف" إلى "الكمبـ" إلى "الشماسي" إلى "الجحملية" إلى "صالة" المخضرة، كأنها شوارع وحارات لأشباح دسمة.
حتى مناهجنا غدت مشبعة بروائح الدسم والزهم والشنص، وما زالت كل يوم هذه الدسومات تتراكم وتغرق مناهج أطفالنا، حتى اليوم، حتى اللحظة.
وكلما أغرقت وزارة التربية والتعليم باجندتها (الدسمة) في تعليمنا وأطفالنا استخدام المنظفات، و"طبق المائدة اليوم"، توحشت الدسومة والتهمتنا بضحكاتنا، وصخبنا. إنها الدسومة الشرهة والشرسة التي لا تشبع. إنها الدسومة الكلبية بامتياز؛ فكيف لنا ولأطفالنا إزالة هذه البقع الكلبية، ما لم نقبل على الأقل بالتعايش والإنصاف!؟
-7-
ببساطة نحتاج إلى حصة الأستاذة "مديحة" أستاذة الموسيقى، بمفاتيحها الموسيقية، لتفتح أجسادنا المغلقة المكتومة بالسمن البلدي.
ونحتاج بدلاً من التريكو وطول الصدر تسعمائة متر مربع، والخصر ألف كيلومتر، و"تطولي الأكمام، وتقصري الورك، وتضيقي منطقة الحجاب الحاجز"؛ نحتاج إلى شبكة كرة الطائرة، وكرة بيضاء، وصفارة "أبلة رندا".
فلغة الأكمام التي يحمل رايتها فحول التربية والتعليم، ومناهج: "طولي الفستان، وأوعي (احذري) تقصريه، وفضفضيه" ليكون أوسع من طربال خيمة معمر القذافي... قد خنقت صدورنا، ومعها تحولت الأقمشة إلى أكفان، وفي أحسن الأحوال "كنابلـ" و"طرابيلـ".
-8-
أتمنى من وزير التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي، بل ومن الحكومة برئاسة الوزراء، وأعضاء مجلس النواب، المتنورين (وليس كلهم)، وأساتذة فلسفة التربية، والكتاب والباحثين، وأساتذة علم النفس، أن ينحوا جانباً ثقافة الدسم والتريكو، وبجدّية ومسؤولية، يعاد الاعتبار لحصة الرياضة في مدارس البنات، يعاد الاعتبار والاعتذار للغة القفز، لتنس الطاولة، وكرة الطائرة، وكرة السلة، ولبدلة الرياضة البيضاء، ولصفارة "أبلة رندا". أن يعاد الاعتبار للملعب، ليصبح ملعبا لاستنشاق الهواء، ملعبا للروح، فقد كفاه من السنين وهو أرض قاحلة، ميتة، إلا من طابور الصباح اليتيم، وصراخ وصراع الخُطب والأناشيد الخالية من سلالم موسيقية: دو، ري، مي، فا، صو، لا، سي، دو. إنها مفاتيح "الأبلة مديحة" مفاتيح الأعضاء الفرحة المتوهجة بصخب الحياة. فالأجساد المكتومة المستأصلة من الملعب، ما هي إلا قنابل موقوتة ستنفجر قريباً وبشراسة، وأظن أنها تفجرت منذ حين. أيها الوزير، أيتها الحكومة، أيها المبجلون في مجلس النواب أيها...
ولا كيف تشوفوووووووووا؟
arwaothmanMail
رد الاعتبار لحصة الرياضة في مدارس البنات
2008-02-28