من حق أي مواطن أن يطل من أية وسيلة إعلامية وأن يعبر عن الموقف السياسي الذي يريده وأن يتحيز للرأي الذي يرتئيه. لكن ليس من حقه أن يسوق رأيه على أنه منتج علمي. لأن هذا يندرج في إطار غش وخداع المستهلك الذي ليس له خبرة بطبيعة السلعة موضوع التسويق. الكلام هنا يدور حول استطلاع صحفي لآراء أربعة من رجال الدين نشرته صحيفة "الثورة" في عددها رقم 15724، وحمل العنوان التالي: "العلماء: الوحدة الوطنية واجب شرعي.. والمساس بها خروج عن الدين". وتضمن الأفكار التالية: 1 - الحفاظ على الوحدة اليمنية واجب شرعي وديني، 2 - الوحدة مصلحة مرسلة من مصالح الأمة والخروج عليها خروج على ثوابت الدين والملة، 3 - دعاة الفرقة هم أعداء الله وأعداء الوطن، 4 - وحدة الأمة مقدمة على العبادة، 5 - العالم غير المسلم يتكتل في أحلاف وتجمعات ومن المسلمين من يدعو إلى الفرقة والتشرذم، 6 - الوحدة اليمنية نواة للوحدة الإسلامية... وفي ما يلي مناقشة هادئة لهذه الأفكار.
نعترض أولا على كلمة "علماء". وحجتنا في ذلك أن شخصية العالم هي أقل الأشياء أهمية في العلم. بينما نلاحظ أن الشخصية في استطلاع "الثورة" هي بيت القصيد، أما الأفكار التي قيلت فهي غير ذات قيمة علمية في ذاتها.. ثانيا: العالم – إذا سعى من أجل الشهرة – يسعى إليها في الوسط العلمي الذي ينتمي إليه، ومنه ينتزع الاعتراف بقيمة علمه, ولا يهمه أن يرضي الحاكم أو المحكوم، أو أن يشتهر بين عامة الناس كما يفعل السياسيون ونجوم الفن والرياضة.. ثالثا: العالم – بصفته عالماً - لا يقحم نفسه في أية ظاهرة ما لم تكن تنتمي إلى حقله المعرفي. وإذا أقحمها يكون - بحكم تمكن عادة التفكير العلمي - متحررا من ميوله واتجاهاته الشخصية حتى يكون بمقدوره أن يزن كل الحجج التي تقاس بميزان يخلو من الفرض أو التحيز.. رابعا: العالم يستمد أخلاقيته من حياديته، وكلما كان أكثر حيادية كان أكثر أخلاقية. والحيادية لا تقبل طرق الإقناع التي تعتمد البلاغة اللفظية واللغة الانفعالية المؤثرة والتلاعب بعواطف الناس واستثارة ميولهم ومصالحهم كالقول بأن "دعاة الفرقة هم أعداء الله وأعداء الوطن". فهذه ليست لغة علم وإنما لغة تحريض صريح على القتل باسم الله وباسم الوطن. وأحسب أن هذا لا يتسق وشراكة الجمهورية اليمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية في الجبهة العالمية المناهضة للإرهاب, إلا إذا كانت الغاية تبرر الوسيلة. ثم إن أحدا في المحافظات الجنوبية لم يقل: "نحن دعاة فرقة". وبالتالي لا يجوز أخلاقيا ولا دينيا أن نقوِّل الناس ما لم يقولوه ثم نستدعي المقدس لتوظيفه في الخصومات السياسية.
أما القول بأن "الحفاظ على الوحدة واجب شرعي وديني"، فهو قول مردود عليه من عدة وجوه. أولها: أن الجنوبيين – وكل اليمنيين - يريدون دولة مواطنة متساوية, والهروب إلى الوحدة هو هروب من مناقشة هذا الاستحقاق. وثانيها: أن الوحدة اليمنية لم تتحقق بناء على فتاوى دينية وإنما بناء على حقائق الجغرافيا والتاريخ والثقافة والمصالح المشتركة, والحفاظ عليها يستمد قوته من الإبقاء على قوة هذه الحقائق حية في ضمير المجتمع عبر إرساء دعائم دولة المواطنة المتساوية. وثالثها: أن هذا القول ورد في سياق سياسي لا ينم عن حرص أصحابه على الوحدة بقدر ما ينم عن قوة ارتباطهم بسلطة 7 يوليو المعمدة بالدم وحجم مصالحهم معها.
وأما القول بأن "الخروج على الوحدة خروج على ثوابت الدين والملة"، فهو بكل صراحة إعلان حرب ثانية ضد تيار كبير في الجنوب.. ولكن هل كان اليمنيون خارج الدين والملة أيام التشطير وأيام الإمامات والإمارات والسلطنات والمشيخات؟ وهل التاريخ الإسلامي المليء بالحروب والصراعات والانشقاقات من أيام الفتنة الكبرى ومعركتي الجمل وصفين وحتى الآن، هو تاريخ خروج عن الدين والملة؟ وإذا كانت "وحدة الأمة مقدمة على العبادة"، فلماذا وقف معظمكم ضد دستور دولة الوحدة؟ أيهما أسمى وأشرف: مسيرتكم الاستعراضية المدججة بالسلاح والمنددة بدستور دولة الوحدة في قلب العاصمة بداية الوحدة، أم ملتقى التصالح الذي نظمه أهلنا في الجنوب بساحة الهاشمي؟ لماذا سميت مسيرتكم تلك مليونية وحظيت بالتشجيع والتغطية التلفزيونية الرسمية, بينما تقابل مسيرات واعتصامات أهلنا في الجنوب بالرصاص وتسمى "أصوات شاذة"، وتلاحق بتهمة الانفصال؟ هل تعتقدون أننا بلا ذاكرة وطنية؟
جاء في الاستطلاع: "إن العالم غير المسلم - يقصد الغرب - يتكتل في أحلاف وتجمعات, ومن المسلمين من يدعو إلى الفرقة والتشرذم". وتعليقنا: هذا المعيار في التقسيم السياسي للعالم كان مقبولا في عهد الإمبراطورية الرومانية المقدسة وأيام بني العباس عندما كان الناس على دين ملوكهم, ولا يعتد به اليوم إلا من لا يزال عقله متخشبا في بيشاور.. ثم إننا لم نسعَ إلى الوحدة كرد فعل أيديولوجي على أحلاف وتكتلات الغير, وإنما لأنها حاجة موضوعية أملتها علينا حقائق الجغرافيا والتاريخ والمصلحة الوطنية.. لكن – وهو الأهم – هل يعلم أصحاب هذا القول لماذا استطاع الغرب أن يتوحد في كيانات كبرى؟ لأنه اعتمد العقل والعلم مرجعية لبناء الدولة ورتب بيته من الداخل بطريقة عقلانية لا مكان فيها لعصبيات ما قبل الدولة, ولأنه ينظر إلى الأمام ولا يستجر معارك الماضي، ولأنه يدير خلافاته ومشاكله السياسية على أرضية بشرية لا يستطيع معها أي طرف أن يدعي أن السماء تنحاز إليه, ولأن رجال الدين هناك لا يلوون عنق الدين ويسخرونه لخدمة طرف سياسي ضد آخر في نفس الوطن.. ثم إن الغربيين إذا اتفقوا على وحدة اندماجية طوعية لا يعمدونها بالدم لتصبح التهامية قسرية.
أما القول بأن "الوحدة اليمنية هي نواة للوحدة الإسلامية"، فهو بيع للوهم بالجملة، لأن الإسلام رسالة ربانية كونية عابرة للحدود والقارات، لا جنسية له ولا وطن ولا قومية. والتطلع إلى دولة للخلافة الإسلامية في هذا العصر هو هوس أيديولوجي يضر ولا ينفع.. ثم بأي حق نحلم بوحدة إسلامية ونحن الذين تخلصنا - بوحشية - من شركائنا في الوحدة الوطنية ورميناهم خارج الحدود وقلنا فيهم ما لم يقله مالك في الخمر وهم أهلنا دما ولحما.! هل تستوي الوحدة مع باعشير وقلب الدين حكمتيار ورسول سياف، ولا تستوي مع البيض والعطاس؟!
* صحفي يعمل في الفضائية اليمنية
tahershamsan
مناقشة هادئة لأفكار متطرفة
2008-01-25