صنعاء 19C امطار خفيفة

ما الذي يحدث في اليمن؟

2008-01-17
ما الذي يحدث في اليمن؟
ما الذي يحدث في اليمن؟ - إلهام مانع
لا أسألكم بحثاً عن ردٍ. فالجواب يدركه كل من يتابع الشأن اليمني من بعيد أو قريب.
لكنه السؤال الذي تردد عليّ في الآونة الأخيرة. طُرح عليّ بإلحاح، وبقلق. والغريب أن من سأله كان يدرك هو الآخر الجواب، لكنه وغيره كانوا يسعون في الواقع للتأكد من استقرائهم للواقع اليمني. يسأل: "الوضع لا يبشر بالخير، أليس كذلك؟". ثم يردف: "في جلسة عمل مغلقة كان الحديث عن مخاوف من صوملة اليمن في حال لم يتم تدراك الوضع بحكمة". يسأل وهو لا يسأل. وأنا، ابنة الوطن، يعتصرني ألم كالمغص، يقطع في أحشائي كأنه يفُتّها فتّاً، ثم يتركها تتناثر كالهباء. 
ما الذي يحدث في اليمن؟
قبل أكثر من أربع سنوات، كتبت مقالاً بعنوان „اليمن ومفترق الطرق"، حذرت فيه من خطر تحول النظام القائم في اليمن، والذي كان حتى ذلك الحين يكاد يحبو على طريق الديمقراطية، تحوله إلى نظام شبه ديمقراطي، يشبه النموذج المصري في العمل السياسي، أي: نموذج الحزب الواحد الذي يأخذ من ملامح الديمقراطية دون جوهرها، يسمح للأحزاب بالصراخ والتنافس، ثم يحسم النتيجة في النهاية لصالحه، بشكل أو بآخر.
 طرحت حينها السؤال: "ما الذي يعنيه بالفعل تبني النظام الديمقراطي في العمل السياسي؟ هل هو هيكل يعمل من فراغ؟ أم أن الهدف من العملية بأسرها هو إتاحة الفرصة للمواطن للتعبير عن رأيه (وقد مارس اليمني هذا الحق بحماس في كل الإنتخابات البرلمانية التي عايشها منذ 1993)، ثم ترجمة ذلك الرأي في قوة سياسية (وهي قوة مازالت خافتة رغم تجسد ملامحها بعد ذلك في اللقاء المشترك)، ثم توفير إطار يمكن فيه محاسبة ومساءلة من يقف على هرم السلطة وما دونه (وهو الإطار المعدوم في النظام اليمني الحالي، وبالطبع في كل الأنظمة العربية)؟
اليوم لم يعد اليمن يقف على مفترق طريق الديمقراطية، فالخيار تم حسمه منذ ذلك الحين لصالح دولة تأخذ قليلاً من ملامح الديمقراطية، تلون به وجهها، لكنه يخلو من روحها قلباً، وتحدد خطوطاً حمراء أساسية لمسارها السياسي، أهمها "حماية رموز السلطة"، والرئيس على رأسها بالطبع. للأسف لا يختلف اليمن في ذلك عن غيره من تلك البلدان العربية التي يحلو للخبراء تسميتها بـ"شبه الليبرالية"، وهي في الواقع "تشبه" أشياءً كثيرة، لكن الليبرالية بريئة منها.
اليمن لم يعد يقف على مفترق ذلك الطريق، فالدرب الذي يشرف على بداياته يثير الفزع. السؤال الآن أصبح: "هل يصمد اليمن الواحد أم لا؟ هل يبقى اليمن واحداً، أم يتفتت إلى أجزاء؟"، ولاحظوا أني هنا لا أتحدث فقط عن محافظات شمالية وجنوبية، بل بدأت بعض الأوساط تتحدث عن محافظات "شرقية" أيضاً!!
أنا واحدة من الأشخاص الذين اعتبروا الوحدة اليمنية المنجز الوحيد الذي يستحق أن نسميه إنجازاً في تاريخ اليمن الحديث. ومازلت أؤمن بهذه الوحدة، تماماً كما أؤمن بالإنسان، أستنشقها عطراً كيوم قيامها. لكن لو استمرت الأوضاع على ما هي عليه، سيصبح من الصعب على المرء الدفاع عنها، لو استمرت الأحوال في هذا المسار، سيكون من الصعب عليه أن يرفع صوتاً يصرخ بحب وحدة الوطن.
عاملان أفسدا على الناس واقع الوحدة، ولن أتحدث هنا عن حرب اليمن الأهلية وتداعياتها، ذاك حديث يستدعي بحثاً منفصلاً، بل أتحدث عن سلوك المنتصر، الذي لم يحفظ للوحدة -التي دافع عنها- حقها. الأول يرتبط بتجاهل المطالب المشروعة لأبناء المحافظات الجنوبية، ممن تم تسريحهم أو إحالتهم إلى التقاعد رغماً عن أنوفهم، إما لأنهم حُسبوا على الطرف "الخطأ"، وإما لأنهم عبّروا عن آرائهم "بصراحة"، وإما لأنهم ببساطة رفضوا أن ينضمّوا إلى "جوقة الحزب الحاكم".
صعب عليك أن تكون "مستقلاً" اليوم، خاصة إذا كنت "مستقلاً"، في المحافظات الجنوبية. والأصعب أن تتصرف كأنك ابن أو ابنة الوطن الواحد وأنت في المحافظات الجنوبية. لأن عناصر الأمن (أمننا، هل تذكرونه؟) لا تترك لابن وابنة الوطن الفرصة للشعور بالانتماء إليه. لا تسمح لهما بذلك. كلما حاولا فعل ذلك انقلبت عليهم تلك العناصر، تصرخ في وجوههم: "من تظنون أنفسكم؟! أنتم أتباع الطرف الخاسر في الحرب!". المنتصر أصبح يتصرف كأنه استولى على غنيمة، اسمها الوطن، وهو مالكها. صعب أن تكون من المحافظات الجنوبية ولا تشعر بالغربة في الوطن.
العامل الثاني، يرتبط بواقع كان متواجداً دائماً من قبل، أعني عامل ضعف الدولة وتنافس القبيلة ومراكز قوى على إضعاف هيبتها. لكنه اليوم بدأ يتحول من ضعف إلى فلتان واهتراء. اليوم لم يعد ضعفاً، أصبح تداعياً لكيان الدولة ومؤسساتها. والدليل على ذلك أنه حتى ما كان يعرف بـ"الحدود" و"الخطوط الحمراء" التي لا يمكن تجاوزها، لم تعد كذلك في الوضع القائم.
أوامر الرئيس، على سبيل المثال، كانت تطبق في السابق، لا يتم تجاهلها كما يحدث اليوم. والغريب أن تلك الأوامر لا يتم تطبيقها تحديداً عندما يتعلق الأمر بشأن خاص بالمحافظات الجنوبية، كأن هناك من يسعى حثيثاً لنخر السوس في كيان الوطن، يريد أن يقلب الهيكل على رأس الجميع. هل أذكركم بالأوامر التي يصدرها الرئيس، الأمر تلو الآخر، بشأن "إيجاد حلـ" لمشكلة الأراضي التي تم "توزيعها" أو تم "نهبها" في المحافظات الجنوبية؟ وهو كأنه يكتب بماء، لا فرق. يكتب الأمر فيتلاشى، لا نراه على أرض الواقع، يذوب ثم يتبخر، لأن "قوى متنفذة" ما لا تريد ذلك. وقضية سيدة الأعمال والمستثمرة أروى الهمداني، التي حكم القضاء بمنحها أراضيها، معروفة للقاصي وللداني. أرادت أن تستثمر في الوطن، فانقلب عليها بعض أبنائه. والقضاء اليمني نعرفه: يقول ما يقول، لا يهم، المهم: ماذا يقول من يطبق الأمر؟ حتى في حالتها، وهي السيدة القوية، لم تُجدِ أوامر الرئيس بتسليمها أراضيها. يكتب على أوراق ملفها: "نفذوا"، وكأنه يتحدث إلى الهواء، إلى نفسه. أمره يخرج من مكتبه ثم يتوه في الأزقة، كلاما على ورق، وحبرا من ماء، ليبقى الرئيس محاصراً، في برج، من حاشية تقول له إنها تحبه، ثم تبعده عن الوطن وواقعه ذلك الذي يتمزق، والجمع يرقب، صامتا، متواطئا.
ماذا يحدث في اليمن؟
يحدث الكثير في الوطن.
...
كأن قدر الوطن أن يكون ملعوناً مرتين:
ملعوناً بأبنائه،
وملعوناً بماضيه.
كأن قدر الوطن أن يغيب في نفوس من يحبونه،
ثم يتلاشى.
يا وطن الأحزان!
ليتنا نقدر على حبك حقَ قدرك!!
* يحظر إعادة نشر هذه المادة بغير إذن من الصحيفة.

إقرأ أيضاً