ليلة سقوط رأس «منى» - أروى عثمان
- إلى: طالبة كلية الإعلام التي تكالبت عليها الضغوط الأكاديمية والمؤتمرية والإصلاحية لتطهير رأسها السافر، وطفشتها من الجامعة.
فجأة، صديقة ابنتي، "منى"، جارتنا اللصيقة، تظهر بلا وجه، بلا رأس. انحشر جسدها الصغير ذو الثلاثة عشر ربيعاً وتكوم داخل أكياس الموتى السوداء. غدت تتحرك ولكن بدون رأس.
شيء كهذا رأيته في أحد أفلام هوليوود المخيفة: الجثث التي تعبر الشوارع والمقابر والجامعات، بلا رؤوس.
منظر "منى" والإناث في اليمن جاوز الفانتازيا "الهوليوودية" بامتياز. ترى هذه الصورة/ الجثة في كل لحظة، وتتكوبس البلاد الخالية من وجه أية امرأة تفتح وجهها، وتريق الحياة في شرايين المدينة، لتزهر.
فكيف تعيشين يا صنعاء/ تعز/ عدن/ حضرموت... الخ، ونساؤك بلا وجوه وبلا رؤوس، جثث متفحمة تتخبط في طرقات الفناء والانقراض؟!
كنا نتوقع من "منى" أنها ستكون بلا رأس عندما تكبر قليلاً، لم يبق إلا سنوات قليلة وستبدأ تتخلق الجثة وتتفحم، لكنها أسرعت وأحرقت المراحل، مثلها مثل الأحزاب اليسارية، لتصل "منى" إلى مرتبة أن تكون عروساً بلا رأس، مثل مدينتها: عروس الموتى.
عادت ابنتي من حوش المنزل وهي مكتئبة، حزينة، مقهورة، هرولت تبكي: "لقد ضاعت منى! لن نلعب بعد اليوم. انظري يا أمي من النافذة! كيس أسود ونظارة سميكة كالتي يلبسها عمال الورش، ذكّرتني يا أمي بطنجرة جدتي المُدحمة، طنجرة بلا رأس، هكذا هي منى، فأين تستقر نظارتها الثقيلة وهي بلا رأس ولا رقبة؟".
وبألم تنشج ابنتي: "مع من سألعب يا أمي؟ بعد اليوم لن يكون هناك "وَقَلـ" ولا "نط الحبلـ" ولا "تامبو" ولا ضحك وفرفشة!". وتضيف ابنتي: "نريد منى كما كانت، حتى وإن أضجرتنا بفتاواها الدينية التي تسكبها على رؤوسنا كل يوم، تحلل وتحرم. نريد منى كما كانت، حتى وهي تهصرنا يومياً بأناشيدها الدينية، فالغناء محرم في بيتها ومدرستها ومع نفسها. نريدها وهي تلوي عنق اللعبة لتقول للصديقات: حان وقت الصلاة، والاستماع إلى السُّديس والسبيع، وابن قُضاعة وصداعة، من قنوات محددة: "الرسالة"، "اقرأ"، "الحقيقة"، وقنوات كثيرة تفتي بأن الحياة الآخرة خير وأبقى، والحياة الدنيا فناء وزوالـ".
بعد أيام ظهرت "منى" في حوش المُجمع السكني. قالت لصديقاتها: لا أستطيع أن ألعب معكن، فأنا أصبحت "امرأة مشرشفة"، لكن سنتمشى ونتكلم!
البنات يحببن اللعب والحركة مع "منى"، لكنهن يرفضن دوما "التمشيات" بمعيتها، فهن يعرفن مسبقاً ما ستبثه الزعيمة "منى" من أحاديث الموتى التي تستقيها من أفراد العائلة ومن الفضائيات والمدرسة؛ أحاديث مثل: الذي قطع صلاته وتحول إلى كلب، والبنت التي مُسخت إلى معزة (سلحفاة في رواية أخرى)، والبشر الذين ظهرت لهم أذناب وقرون لأنهم لا يقومون الليل تهجداً... وكل الحوادث "منى" رأت أبطالها وهم ممسوخون (بالمناسبة منى لها أب طبيب يشتغل مع أجانب، وأمها أستاذة للعلوم الحية).
قالت ابنتي: "مشينا بوجوم. لكنه الشرشف، الذي يتضاد مع نط الحبل والضحك واستبشار الوجه. إنه لا يتعايش إلا مع الجثث، مع الموت والمأتم. منى لم تعد منى يا أمي! شيء ما انكسر، أصبحت أخاف من شكلها". أقنعتها باستكانة: ستتآلفين مع الشكل الجديد الذي انضمت إليه "منى"، فكل يوم نصحو نرى الشرشف قد التهم بشراهة ما تبقى من الطفلات والشابات والكبيرات في مرافق الحياة وأولها المدارس المفصِلة للشرشف بكل الأشكال والأحجام، ستألفين الحياة مع الجثث المفصولة عن الرأس.
هكذا هي مدينتي، هكذا هن نساء بلادي، طفلات بلادي:
طبيبات بلا رؤوس!
معلمات بلا رؤوس!
كاتبات وفنانات تشكيليات وصحفيات بلا رؤوس!
أستاذات جامعة بلا رؤوس!
رؤوس بلا رؤوس!!
إنها اليمن: اثنان وعشرون مليون جثة
بلا رؤوس!
بلا رؤوس!
بلا رؤوس!
والا كيف تشوفووووووا؟
arwaothmanMail
ليلة سقوط رأس «منى»
2008-01-17