كان مدرس العلوم يرتشف القهوة في باحة منزله ظهر الاربعاء قبل الماضي حين باغته صوت مرعب؛ تخللته صرخات استغاثة. سرعان ما خفتت! كان الصوت مصدره ذاك اللهب المندفع بشدة من اسطوانة الغاز في غرفة المطبخ، والاستغاثة كانت لزوجته «فنة» وبناته: غالية، كريمة، رقية، يسرى، وابنه ناصر.
لقد كانت أجسادهم هدفاً مباشراً لتلك النيران.
كانت اللحظة مرعبة لكن مدرس العلوم محمد ناصر القاسمي، 50 عاماً، لم يقف مكتوف اليدين. هب مقتحماً غرفة المطبخ الضاجة بالنيران، محاولاً إنقاذ أسرته. حينها كان دمه محقوناً بـ«الادرينالين» الهرمون المضاد للخوف لم يشعر بالنار وهي تأكل جسده ووجهه. اختنق صوته ويروي لـ«النداء» تفاصيل حادثة مروعة: «دخلت المطبخ والنار مليانة المكان وشفت يسرى بنتي الصغيرة (عامين) كان جسمها ما يزال يحترق والنار تخرج من فراشها وملابسها، سحبتها إلى خارج المطبخ، وعندما عدت كان أبني ناصر،20عاماً، قد خرج، لكنه كان كتلة من لهب ورمى بنفسه الى داخل البير».
ساعتذاك لم يعد القاسمي يسمع استغاثة أفراد اسرته! فقط كان ضجيج النيران وحدها تصم أذنيه. غير أنه لم يستسلم عاود الولوج الى المطبخ وخرج وهو يحمل ابنته البكر «غالية» 26 عاماً، التي لم تعد تشبهها. إلى غالية كان القاسمي يحمل وجهاً مشوهاً ومعصمان محترقان. كان الوقت يمر والنار ما تزال ماضية في مهمة الاجهاز على الأسرة وتفحيم أجسادهم.
لم يجد الأب المحقون بهرمون الا حسابات لإنقاذ اسرته سوى إبعاد مصدر النيران (إسطوانة الغاز الغاضبة). لم يتردد بقتحام المطبخ مجدداً تسبقه كمية من المياه التي رشها صوب الاسطوانة وتمكن من أخراجها الى باحة المنزل. لم يشعر بذوبان جلد مقبضيه على طرفي الاسطوانة المتقد آنذاك. وحين زار جيرانه المنزل، في اليوم التالي للحادثة، وجدوا جلده ملتصقاً على سطحها وتطلب إزالته قرابة ساعة كاملة.
بذات الإندفاع لف الأب بناته وزوجته وابنه في بطانيات وقاد سيارته لساعة كاملة بذات اليدين المنزوع جلدهما. هناك نصحوه بالتوجه الى مركز «طيبة» للحروق والتجميل في مستشفى الجمهورية بأمانة العاصمة. وتولى صديقه الرائد حميد محمد إسعافهم بسيارته.
لقد كان مدرس العلوم في مدرسة الزهراء الأساسية، يكافح لإنقاذ اسرته لكن قوة النيران لم تسمح بذلك. إذ لم يبق من اسرته سوى ابنة ناصر الذي يستلقي بجواره في الغرفة 4 في مركز طيبة وكلاهما مصاب بحروق بليغة. فالزوجة توفت في المطبخ وابنته الرضيعة (يسرى) في الطريق وكريمة 23 عاماً توفيت بعد ثلاث ساعات من وصولهم الى المركز، أما غالية البنت البكر ورقية 5 سنوات، فقد توفيتا في اليوم التالي للحادثة. وطبقاً لأطباء هناك فإن نسبة حروق الزوجة والبنات فاقت 85٪_ وهو ما يعني أن الحريق التهم أغلب أسطح جلودهن الخارجية.
أما ناصر الذي بلغت نسبة حروقه 50٪_ فحالته تجاوزت مرحلة الخطر. هو يتذكر أن والدته طلبت منه إغلاق اسطوانة الغاز كانو حينها جميعاً في غرفة المطبخ عدا الأب، غير أنه اخطأ وبدلاً من إحكام إغلاقها أدار عجلة محبس الغاز مطلقاً له العنان ليندفع بقوة قاذفاً بجهاز المنظم واصلاً إلى فانوس مضي معلق على الجدار حينها حدثت الكارثة وبدأت النيران تصب غضبها على الحاضرين والأب القادم لنجدتهم ليلتهم الحريق وجهه ومعصميه. هو الآن يشعر بآلام راحتيه المعراة عضامها للناظر إلا من طبقة زينية من العلاج.
قبل أن اغادره طلب مني أن أنقل نصيحته الأخيرة لأرباب الأسر: أن يحذرو النار وأن يرفضوا إقتناء اسطوانة الغاز القديمة.
[email protected]
***
نائب الرئيس وعدهم قبل عامين
في انتظار ريالين
إذ قدر لك زيارة «مركز طيبة للحروق والتجميل» ستدرك أن الحريق هو ذروة المعاناة الانسانية. أطفال ورجال ونساء استبدلت ملامحهم وجلودهم بأشياء أخرى هي من صنع ألسنة اللهب. منهم من يتحدث لك وآخرون عاجزون حتى عن تشذيب هذيانهم وأناتهم. مشاهد مقززه تشعر أن أمعاءك في فمك.
ستدرك أن حادثة مدرس العلوم تغدو حادثة عادية تماماً في مركز طيبة؛ فغالبية قاصدي المركز، هم من ضحايا الحريق بالغاز إذ تصل نسبتهم إلى 80٪_ من إجمالي الضحايا يليهم ضحايا الحريق بالكهرباء.
حين أدلفت إلى الغرفة 4 للقاء القاسمي وابنه، داهمتني رائحة حمضية منفرة، قيل لي إنها رائحة تفاعل الدواء مع الخلايا والانسجة المتهتكة (الميتة) جراء الحريق.
سينتابك إحساس قوي عن مدى إنسانية القائمين على المركز. إنها مهمة صعبة لكنهم أحبوها حد الدكتور نصر حميد مدير مركز طيبة للحروق والتجميل، الذي أفاد لـ«النداء»: «نحب مهنتنا ونتعامل مع مرضانا كذوي احتياجات خاصة ونراعي الحالة النفسية لهم جراء التشوهات التي لحقت بهم».
كانت ملامح نصر تنضح بالأسى وهو يتحدث عن ضحايا الغاز: «مشكلة حريق الغاز أن الإصابات تأتي جماعية على هيئة اسرة كاملة او عمال مطعم مثلاً وغالباً ما تكون حروقهم من الدرجة الثالثة- حروق كل طبقات الجلد وتحت الجلد- ونسبة الوفاة تزداد في هذه الحالات، وحين يكون الضحايا من كبار السن ومن ذوي الاعاقات حركياً والمصابين بالقلب والكلى».
غير أن المشكلة الحقيقية تكمن في إمكانية المركز، فبرغم كونه المركز الاستشاري الوحيد في الجمهورية ويستقبل ضحايا الحروق من كل المحافظات، فإنه يحتوي على 24 سريراً فقط، ويفتقر إلى ميزانية تشغيلية، فضلاً عن ضيق مساحته. واوضح مدير المركز، أن كلفة المريض عالمياً تتباين من 200 إلى 300دولار لافتاً إلى أن غالبية ضحايا الحريق من الطبقة الفقيرة. والمركز يفتقر لميزانية كافية ومستقلة عن ميزانية المستشفى.
في مركز طيبة يضطر المريض إلى شراء الادوية الخاصة بالاسعافات الأولية من خارج المستشفى، طبقاً لـ«صالح مسعد الحيضاني» نائب مدير المركز، الذي قال لـ«النداء» إن المركز يفتقر إلى المستلزمات الطبية والأدوية والذي يفترض توفيرها للمريض مجاناً كما نعاني من فقر في الأجهزة الحديثة الخاصة بالاسعافات الأولية.
يتذكر الحيضاني وعد نائب رئيس الجمهورية عبدربه منصور هادي حين افتتح مركز طيبة، 28 سبتمبر2005 إذ وعدهم بتخصيص ريالين من كل اسطوانة غاز دعماً للمركز. وقال «لو أن وعد النائب نفذ لحلت مشكلة المركز» كما يأمل أن تلتزم الشركات العاملة في تعبية اسطونات الغاز وإضافة رائحة مميزة للغاز حتى إذ كان ثمة أي تسريب,تكون الرائحة بمثابة جهاز إنذار.
الغاز.. قاتلاً
2007-11-28