* هناك توجهات تؤيد فكرة «بيع الدولة الفاشلة لشركة ناجحة
* مصر تخلت عن الدور الثقافي لتلعب دوراً سياسياً فخسرت الدورين
حوار: مروان الغفوري
أحمد أبو زيد.. "لقد كان يكتب في علوم الصحراء كما يكتب في السير الشعبية. ويكتب في البيولوجيا بالعمق نفسه الذي يلامس به السياسة والأدب وعلم النفس". من بين كلام ثري كتبه د. سليمان العسكري تعريفاً بالدكتور أحمد أبو زيد كمقدمة لكتابه "المعرفة وآفاق المستقبلـ"، وهو كتاب العربي 61.. اخترت السطرين أعلاه. هو الشاب المكتهل، أو العكس، صاحب "الأنساق" و"المفاهيم"، عالم الأنثروبولوجيا، الاسكندراني المرموق، وأحد الذين شاركوا في تخليق مساحات حقيقية لدراسة علم الاجتماع في عديد من الجامعات العربية، مثل الكويتية والليبية... وسيّد الأعراب الذين اطّلعوا على الجوهر الأفريقي، على الحقيقة البشرية المنسيّة جنوب الصحراء، على فلسفة الإنسان الأسود العميق، في فترة عمله، كخبير، في مكتب العمل الدولي بجنيف. وهو يعدّ الآن، في خلوته المطلّة على المتوسّط، لعملٍ فريد يستطلع الأسطورة والملحمة الأفريقية التي وصفها لي بقوله: "لقد وجدت ملاحم عظيمة في الداخل الأفريقي المهجور.. ملاحمَ ربما تفوّقت بعبقريتها على إلياذة هومير. وحالما أفرغُ من هذا العمل فسوف أهديه إلى صديقي الجميل جابر عصفور". ولستُ واثقاً مما إذا كان الدكتور جابر عصفور على دراية بترتيبات هذه المفاجأة.
التقيته في دارِه الاسكندراني بترتيب مسبق. أشد ما كنتُ أخشاه أن تصاب كاميرتي أو جهاز التسجيل الخاص بي أي مكروه، كالعادة. داهمني الشعور إيّاه عندما وقف لتحيتي بتواضع العالم الذي اطّلع على حقائق تكفي، وزيادة، لكي يحدد الإنسان قيمته ومكانته البسيطة في جوهر الوجود المائج المخيف. وليكتشف ابن الإنسان أن التواضع فريضة كونية لا يلقّاها إلا الذين عبروا العلم إلى المعرفة، والمعرفة إلى الرؤيا، والرؤيا إلى الوقفة، أو الأدب، كما هي درجات السعي عند النفّري.
تبادلنا حديثاً شفّافاً قدمتُ خلاله نفسي، ومعي قدّمت صحيفة "لنداء" واستعرضتُ أمامه بسرعة إلمامي بالكثير من كتاباته. استطعتُ أن ألمح قدراً هائلاً من السعادة من خلال ابتسامة واسعة وهمهمة فائقة التواضع، مليئة بالشكر، حين قلتُ له: منذ عامين تقدّمت إلى وزير التعليم العالي السابق في اليمن، الدكتور عبد الوهاب راوِح، بطلب منحة دراسات عُليا على نفقة الدولة. راحَ الوزيرُ يقلّب في أوراق ملفّي بسرعة، ومن بين كل الأوراق التي وجدها في الملف فقد وقعت عيناه باهتمام بالغ على نسخة من مقالة كنتُ نشرتها في صحيفة "لجمهورية" تحدّث فيها عن "ما بعد الدولة" وأستحضر بعض آرائك، بإحالة علمية أمينة. لقد كان حضورُك رائعاً وحاسماً، فقد استطعتُ أن أثبت لوزير التعليم حين اكتشفتُ أنّه أحد شيعتك، في دقائق قليلة، أهليّتي للابتعاث من خلال إغراق المسافة الفاصلة بيننا بتفاصيل بعض قضاياك الفكرية التي كان الوزير على دراية سابقة بكثير من خطوطها العامة. علّق على هذه المداعبة الحميمة بأن طلب مني أن أنقل تحاياه واحترامه لعبد الولي الشميري، وعبد لوهاب راوِح.
يبدو أني أعدته كثيراً إلى الماضي، عمره الثمانيني الخصب. ولعلّه أرخى لقلبه سرير البهجة للحظات. كأنه كان يقول لنفسه: إن أفكاري لم تمُت، إذن. واسمي لم يكن مكتوباً على الماء، كما تخوّف الشاعر الانجليزي "جون كيتس" عندما طلب من ورثته أن يكتبوا على شاهد قبره Here lies one whose name was writ in water هنا ينام امرؤٌ كان اسمه مكتوباً على الماء.
وبلا ترتيب تقليدي يتّبع عادةً في إجراء اللقاءات الصحفية، قد فاجأت شروده الآني:
> دكتور أحمد، هل ما زلتَ عند فكرتك السابقة: ضرورة إحالة الوزارات أو المؤسسات أو المشاريع الفاشلة إلى شركة ناجحة لتديرها؟
- (...) هناك توجّهات مجاوِزة لهذه الفكرة ومتقدّمة عليها، حالياً. أعني أن توجهات قويّة تؤيد فكرة "بيع الدولة الفاشلة لشركة ناجحة". ففي دول العالم المتخلف، الذي يسمى تهذيبا بالعالم النامي، تفشل الدول وتنهار كما حدث في سيراليون والصومال وكما سيحدث في غيرها من الدول؛ لأن تكلفة إقامة الدولة مثل الإنفاق العسكري واعتماد السفارات ورواتب ومخصصات الوزراء تفوق قدرات الدولة المالية. وهو ما يعني أن الدولة ستتخلى عن كامل دورها الإنمائي والثقافي والاجتماعي مقابل لعب دور ذي طابع سياسي صرف يهتم بأوهام السيادة المطلقة والاستقلال الكامل. والمؤدى النهائي هو الفشل الحتمي.
> في كتاباتك حول سؤال المستقبل كنت تتوقّع أن الدولة – الأمة كترابط سياسي سائد أصبح في طريقه إلى الإلغاء. مشروع الدولة العربية... إلى أين يتجه الآن؟
- وهل هناك من الأساس دولة عربية بالمعنى الحقيقي للدولة؟ لا توجد لدينا دول حقيقية. هناك مجتمعات. نعم، بالإمكان القول أن لدينا مجتمعات، وإن كانت مجتمعاتنا العربية مهددة بالتحلّل إلى كيانات أصغر. أما الدولة العربية فهي خليط من الطائفية والقبلية والعسكرية، وهذه الأخلاط لا تفضي إلى دولة. متى سنتمكن من إنجاز دولة حقيقية؟ بصراحة، لا أدري. عندها سنتحدث عمّا بعد الدولة العربيّة.
> أقصدُ الدولةَ، إما بالتعريف القديم للفرنسي بودون: "إقليم وسكّان وسيادة"، وإما بإحلال الشرعية مكان السيادة، بحسب الوعي الجديد بالدولة، فهم ما بعد الثورة الفرنسية.
- نحن لا نمتلك دولة حقيقية، لا بالتعريف القديم ولا الجديد. فلا سيادة فعلية ولا شرعية متفق عليها.
> وماذا عن مصر؟ عن الدولة التي قامت منذ الأسرة الأولى،2800 قبل الميلاد، وحتى الآن؟
- هذه ليست دولة، على الأقل الآن. أتذكر جيّداً ما حدث في العام 1936 عندما كنتُ تلميذاً في المدرسة. لقد وصلتنا في ذلك الحين شائعات تقول إنهم سيغيرون الشعار من: الله، الوطن، الملك... إلى: الله، الملك، الوطن. في تلك الأثناء ثارت المدارس والجامعات وخرجنا في مظاهرات وحشود رغم كل حبنا للملك بسبب موقفه من الاحتلال الانجليزي. خلاص، أحسسنا حينها أن الوطن سيختزل في شخص وهو ما كان يتنافى مع وعينا العام بفكرة الدولة والوطن. ثم جاءت الثورة وأجبرتنا على الهتاف: بالروح بالدم، من رئيس للي يجي مطرحه، وربنا العالم لمن سنهتف في المستقبل القريب. الدولة الشخص ليست دولة. العسكري يتعامل مع الأفكار المجردة بوعيه العسكري المتصلّب. وهو ما أوصل مشروع الدولة بقيادة العسكر في الوطن العربي بأجمعه إلى الرخاوة التي نراها الآن.
> بمناسبة الدولة الرخوة، توقّعت أن أرى مشاركتك في الجدل الثقافي والمعرفي حول علامات الدولة الرخوة عبر صفحات "المصري اليوم".
- لم أتابعه للأسف. من اشترك فيه من المثقفين المصريين؟
> بدأ بأطروحة قدّمها د. جلال أمين، منذ شهرين تقريباً حول الدولة الرخوة في مصر، طارحاً خلاصة لكتابه الذي يحمل العنوان ذاته. ثم استمر التعاطي معها لأسابيع. اشترك في النقاش د. طارق حجي، ود. عمرو الشوبكي، وآخرون.
- للأسف لم أتابع هذا النقاش.
> حكم الملوك وحكم العسكر... هل هناك فرق جوهري في طبائع الحكمين؟
- العسكري هو شخص عسكري بكل ما تحمله الكلمة من معنى ثقافي وأخلاقي، وهذا ليس عيباً في العسكري لكنه تحديد لاستعداده الخاص. يعني العسكري راجل غلبان أصلاً، وإدارة الدولة أكبر من استعداده وقدراته قطعاً. مثلاً: في السبعينيات زرت اليمن، وكانت زيارتي الأولى لليمن، ثم زرتها مرّة بعدها. كان يحكمها في ذلك الوقت الرئيس الحمدي، وأنا كنت رئيس وفد عن مكتب العمل الدولي.
> (مقاطعاً) في الفترة الذهبية للجمهورية في اليمن!
- ذهبية إيه بس! المهم، ألقى الرئيس الحمدي كلمته "المكتوبة" أمام الوفود وكانت كلمة بليغة، وبصراحة ترك لدي انطباعاً قويّاً. بعد ذلك اتفقت الوفود على أن ألقي الكلمة باسمهم جميعاً. فتفاجأت بتعقيب الرئيس الحمدي على كلمتي. هذه المرة كان عليه أن يعقّب من "دماغه" فقال كلاماً كشف مستوى وعيه المتدني بالقضايا العامة والبديهية. (يصمت قليلاً) إيه ده؟ همّ العسكر كلهم كده؟ عادةً العسكري راجل غالبان. وعشان كده، لا نتوقع أن يهتموا بالتنوير الثقافي أو العلمي إطلاقاً.
> والريادة المصرية في الثقافة والفنون، في عهد العسكر. أو ما يطلق عليه هيكل مصطلح "السوفت باور، القوة الناعمة" كيف تفسرها؟
- مصر تخلّت عن الدور الثقافي وفقدت الريادة فيه. في الحقيقة لا توجد ريادة ثقافية حالياً لدولة عربية على أخرى. فالنشر في مصر، والمجلاّت والمؤسسات الثقافية في الخليج والمبدعين في مصر وغيرها. المشكلة هي أن مصر تخلت عن الدور الثقافي لتلعب دوراً سياسيّاً. فخسرت الدورين، لأنها لا تملك مفاتيح الدور السياسي، فكان الفشل نصيبها. بالإضافة إلى ذلك فهي لم تهتم برعاية دورها الذي اعتادت عليه في الثقافة والتنوير، فخسرت الدورين.
> وأدوار المجلس الأعلى للثقافة، والمجلس الأعلى للترجمة، ومشروع جابر عصفور "ترجمة ألف كتابـ"، ومشروع مكتبة الأسرة... أليست هذه رعاية رسمية للثقافة؟
- بالنسبة لمشروع ترجمة الألف كتاب فهو استكمال لمشروع طه حسين. ولا أتصور أن المجلس الأعلى للثقافة سيلعب دوراً حقيقيّاً بعد خروج جابر عصفور منه. فالأمين العام الجديد، أبو شادي، متخصص في الإخراج، ولا يتحمّس لكثير من القضايا المطروحة. وكما قلت فإن العسكرية العربية لا ترعى الثقافة.
> يُقال كثيراً أن جابر عصفور، في فترة إدارته للمجلس الأعلى، كانت مهمته هي ترويض المثقفين وتدجينهم لمصلحة النظام الحاكم. هل هذا صحيح؟
- العكس هو الصحيح. هذا دور لا يليق بجابر عصفور ولا يوجد ما يدلل عليه، بل على عكسه.
> كيف تنظر لاختيارات الحكومات العربية لوزراء الثقافة وللمسؤولين والقائمين على المؤسسات الثقافية والعلمية، مثل الجامعات والصحف والأتيليهات، الإذاعات... إلخ؟
- كنت أتحدث منذ فترة إلى رئيس جامعة مصرية في مكتبه. وعندما جاءت الإشارة إلى عميد كلية من كليات الجامعة إذا برئيس الجامعة يتحدّث عنه بأوصاف بشعة لا ينبغي أن تُذكر. فقلت له: ما دام الأمر كذلك لماذا عينته عميداً؟ فرد عليّ: لأنهْ بيسمعْ الكلام. هذا هو الحال باختصار وفي كل مكان، في كل الدول العربية بلا استثناء.
> بمناسبة الحديث عن العسكر، هل تحنّ إلى رؤية الارستقراطية الملكية من جديد؟
- أنا لا أحن إلى رؤية الارستقراطية الملكية من جديد. لكن دعني أقل لك شيئاً: الارستقراطية ليست socio-economic class "درجة اقتصادية – اجتماعية" وحسب. هي أيضاً درجة أخلاقية. أي لا يمكن أن يفعل الملك أو الأمير ما فعله عبد الناصر حين طلب من الإذاعي الشهير أحمد سعيد، أن يخاطب الملك حسين، ملك الأردن، عبر "صوت العربـ" بعبارة: يا حسين يا ابن زين. يعيّر نظيره الحاكم باسم أمّه. هذا شيء لا يمكن أن يُقبل أخلاقيّاً في الأعراف المدنية الرفيعة، ومنها الارستقراطية الملكية. أعضاء الوفد العراقي في قمة القاهرة، بعد غزو الكويت، رفضوا نزع السلاح، وأهانوا الوفد الكويتي، لدرجة أنهم رموا أعضاء الوفد الكويتي بأطباق الأكل، في القاهرة وفي جدّة أيضاً. للأسف فإن الفهم الأولي ينسب هذه الأخلاق إلى العسكرية، وهي ليست كذلك. أتذكّر أن الدكتور أحمد العدواني أطلعني على شيء مثير، في الكويت. كان ضمن وفد كويتي التقى الزعيم القذافي في ليبيا، فقام القذافي بإعطاء كل عضو في الوفد ساعة خاصة. هذه الساعة مبرمجة على أن تظهر صورة القذافي في صحنها العريض كل خمس دقائق. سلوك مثير للاشمئزاز. قلتُ للعدواني: والنبي تديني الساعة دِيّة! فضحك وقال: إنت كمان حتعمل زي أمير البلاد، أول ما شافها معايا قال لي: أنا عايزها! للأسف، فإن التاريخ سيحتفظ بهذه الذاكرة العشوائية وسيرويها للعالم.
الدكتور أحمد أبوزيد لـ«النداء»: العسكري يتعامل مع الأفكار المجردة بوعيه المتصلب
2007-09-06