تقاتل الوهم - عبدالباري طاهر
يتمازج قابيل وهابيل، الحجاج بالحلاج، يسوع بيهوذا.
يختلط الحق بالباطل. ويقول الباطل: أنا الحق. يتحول الجلاد إلى ضحية والضحية إلى جلاد. ويكون هم الضحية تبرئة قاتله وإدانة النفس!
ما جرى في غزة يؤسس للغة مختلفة ينز الدم من أحرفها، ويكون القتيل القاتل شاهداً.
تعامت في المنيولوجيا البشرية التي انقسمت على نفسها وتقاتلت، أسست في الترميز لولادة الخير والشر، الليل والنهار، الحق والباطل.
ما يفعله الفلسطيني بنفسه في غزة، وربما غداً في الضفة، يتفوق على الخرافة، ويزري بترميز هابيل وقابيل، ويجعل «قابيل» المتحدث الأوحد بلسان عربي دام ومبين. شهد التاريخ البشري قتل الانسان الفرد نفسه، ولكن الانتحار الجماعي، وقتل شعب أو أمة نفسها أمر نادر الحدوث! وما يجري في فلسطين المحتلة يخرس اللسان، ويدمي الوجدان والضمير. فالاحتراب الفلسطيني له مذاق إذ لكارثة.. ولون الهلاك.
في العام 1981 اجتمع الحكام العرب في الرباط لإقرار المبادرة السعودية ذات الثمان النقاط. يومها رسم الفنان القتيل ناجي العلي كاريكاتوراً للحكام العرب وهم مجتمعون من حول غظمة كتب عليها القرار 242.
هذه العظمة قذف بها الاسرائيليون وحلفاؤهم الأمريكان في أوسلو عام1991، ومن يومها وطلاب الحكم الفلسطينيون يحسبونها لحمة فيتقاتلون عليها.
يتقاتل الفلسطينيون على شرعية لا يملكونها فالأرض الفلسطينية محاصرة بالجدار والمعابر وجيش الدفاع الاسرائيلي، وبالجوار العربي الصارم، وبقرارات دولية تحرم عليهم حياتهم. يقتتلون حد التوحش والبربرية على من يحكم؟!
يغضون الطرق عن قاتلهم الحقيقي الجاثم على صدورهم، ويشرعون في تقتيل أنفسهم بانفسهم، كتعبير عن عجزهم عن حماية الارض والعرض والنفس.
من أين يأتي هذا الهوان الذي تحدى به القرآن الكريم بني اسرائيل قبل أكثر من 1400 عاماً «ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه الا قليل منهم» الآية 66 النساء. وفعلها الفلسطيني في مطلع القرن الواحد والعشرين بنفسه فقتلها وشردها.
يهزأ التاريخ ويخرج لسانه للأثيني الذي غرق في الخلاف حول جنس الملائكة بينما مدينته محاصرته. أما الفلسطيني بعد آلاف السنين، فإنه يقتل نفسه ليرضى عنه قاتله، العاجز عن الانتصار عليه بعد تقتيل استمر قرابة ثلثي قرن من الزمان. أي مأساة وأي ملهاة!
ينصرف الاسرائيليون إلى عملهم اليومي: تقتيل الفلسطينيين وخنقهم في المعابر، وبناء الجدران العازلة وتجويعهم بالحصار الجائر الشامل والكامل. وينصرف الفلسطينيون لتقتيل أنفسهم وتدمير بنيتهم والاجهاز على أي معنى إنساني أو أدبي أو أخلاقي أو سياسي لقضيتهم التي اعتبرت على مدى قرن من الزمان في قلب العصر وقضايا التحرر العادلة.
أيها الفلسطيني لماذا تعجز يهوذا، وتسخر من ابن جريون ورابين ومناحم بيجن ونتنياهو وشارون وبيريز، لكأنك تريد أن تقول لنا ولهم أنك أقدر على تدمير ذاتك اكثر منهم!
أيها القاتل والقتيل ماذا تفعل بنفسك وبدمك وبتاريخك؟ أيصل الهوس والانهيار وحب السلطة? الوهم حد الانتحار.
شعب يقاسي أطول احتلال استيطاني غرفه العصر الحديث، تغتال زعاماته ويتعرض لتجويع شامل وتقتيل استئصالي جماعي فيما يشبه حرب الابادة بينما قادته يتصارعون كالديناصورات!.
ليس هناك ما هو أبشع من القتل إلا تبرير القتل، والاستقواء بالقاتل الحقيقي على الضحية والجلاد الفلسطيني «القاتل والقتيل».
المأساة المهزلة أن تكون الشرعية الموهومة والمدخولة هي القاسم الأعظم والمشترك بين «الضحايا الجلادين لتبرير الاقتتال، شرعية الرئاسة، شرعية الحكومة، شرعية النواب. وكلها «شرعيات» لا تستطيع حماية نفسها من القاتل والغاصب الاسرائيلي. والأدهى والأمر عجزها عن حماية نفسها من نفسها.
ماذا فعل الفلسطيني بنفسه وبقضيته وبشعبه؟
ماذا يفعل بتضحيات أكثر من ثلثي قرن من الزمان؟
يقتل الاسلامي باسم الله وبالموعظة الحسنة!!
أما العلماني والليبرالي المغشوش والزائف فيقتل بشرعية أوسلو واستقواء بأمريكا واسرائيل وأعرابهم.
بسهولة يلتقى عباس باولمرت، بينما يبدو اللقاء مع هنية مستحيلاً.
إلغاء شرعية الحكم أو النواب بشرعية الرئاسة أو منظمة التحرير عبث واستبداد، وإلغاء شرعية الرئاسة أو منظمة التحرير بالحكومة أو المجلس التشريعي، هو الآخر عدم احترام التنوع والتعدد والخلاف.
التصارع الميت والمميت بين فتح وحماس ليس معزولاً عن الضغوط الاقتصادية الاجتماعية والعسكرية والأمنية للاحتلال الاسرائيلي، وليس بعيداً عن الحرب القذرة والاحتلال المدمر للعراق. عدم الاهتمام بفك الحصار وسياسات القمع والتجويع والاغتيال مسؤولة عن الانتحار الفلسطيني.
تتزايد سياسات شق العصا والإغواء والتحريض والتحيز للوقيعة بين الفلسطينيين.
ويشارك بعض الحكام العرب اسرائيل وامريكا في توتير الأجواء المتوترة أصلاً.
ولعل الخطر الحقيقي المحدق بالفلسطينيين، أكثر من الاحتلال والحصار والانحياز الامريكي، هو إماتة السياسة وازدراء الحوار، وعدم القبول بالآخر، والاحتكام للسلاح والرهان على وعود المحتل، أو ايماءات الامريكان والأوروبيين عن حل قريب وعادل.
التصارع الفلسطيني لا يخدم القضية. وقد يتفاقم الصراع ويمتد إلى الضفة الغربية. والتشدد الاسرائيلي والانحياز الأمريكي والخذلان العربي لا يساعد الاعتدال الفلسطيني، وقد يدفع إلى جنوح أكبر للمواجهة.
تلجيم السلاح الفسلطيني، وإخضاعه للسياسة وليس العكس، ضرورة ملحة، فهذا السلاح المنفلت في أيدي ملثمين يجتاحون الشوارع الجائعة والمحاصرة والمليشيات والاجهزة الأمنية أو الخائرة، والضيق بالحرية والديمقراطية, أو القبول بها شكلاً ورفضها معنى وسلوكاً, هي الاخطار الماثلة امام الحق والانتفاضة الفلسطينية المحاصرة باسرائيل وبالسلاح المنفلت.
تقاتل الوهم
2007-06-28