«قل لهم يا طير»: الحكاية.. وطن وحياة - أروى عثمان
- إلى العزيزة يمنى البطران
"إنهم لا يحاكمونني، بل يحاكمون التراث والحضارة، من خلال هذه الخطوة، وهذا ليس من حقهم، فهم ليسوا مؤهلين لمحاكمة حضارة".
د. شريف كناعنة، موثق حكايات «قول ياطير»
****
قال الحكيم أحمد الشرواني: القاضي لا يعاند، والسلطان لا يوادد، والوالي لا يخاصم، والأب لا يحاكم".
في مجزرة كتاب " قول ياطير " اجتمع القاضي، والسلطان، والوالي، والأب - ولو أنهم كلهم واحد - على محاولة عاجزة لمحو ذاكرة فلسطين: المحكي الشعبي، قتل الطير رسول المحبة والسلام الذي أودعته نساء فلسطين باسم محمد وباسم يسوع، أن يبلغ الأمانة، ويكون لسان حالهن، المعبر عن تفاصيل حياتهن، أشجانهن، همومهن، حياتهن اليومية، أفراحهن وأتراحهن، عن حيوات أخرى لإنس وجان، وغيلان، لأميرات، وساحرات، وعن ابنة السلطان التي تزوجت فقيراً، عن ساحرات ناصرن المظلوم من جور طاغية مستبد ليحق الحق، ويملأ الحياة عدلاً، بعد أن ملئت جورا..
«قول ياطير» روح فلسطين، همس الجدات، روح المجتمع وذاكرته الجمعية.. محكي أبدعته المرأة الفلسطينية، وحافظت عليه، كما حافظت على بيارات البرتقال والزيتون، و قهرت به الموت، بددته، أزاحت الجدب وحولته إلى خضرة وحياة.. فمثلما فعلت جدتها شهرزاد بلياليها عبر العصور وقهرت الموت المجاني، الصمت، وألجمت شهوة الدماء التي سيّلها شهريار عقب كل ليلة يفتض فيها بكارة فتاة، من تلك الليالي لألف حكاية وحكاية، انتصرت شهرزاد لنفسها ولبنات جنسها وللحياة كلها.
المحكي الشعبي في العالم، وفلسطين على وجه الخصوص، رفيقا مؤنساً من وحشة الظلم والقهر الاجتماعي، وقهر أبشع استيطان عرفه التاريخ.
هو شريان الحياة.. وكلما أجدبت رقعة الحياة في أزقة غزة، والجليل والضفة أراقتها الأم الفلسطينية من ماء الحكايات لتخصب ما حولها..
لم تستطع أية مرجعية أو سلطة دينية، سياسية، أو أية إيديولوجية، أن تقترب من النص المحكي، أو تمسه بشر، إلا في حضرة فقهاء الرباعي الواحد (الفقيه، والأب، والسلطان، والوالي) ليرتكبوا مجزرة حرق الزيتون، حرق القلم والمداد، وقبل هذا وذاك تقتيل المرأة، الأم، الجدات الفلسطينيات.. خنق أرواحهن بقلب بارد، من أجل الدفاع عن الخلطة العجائبية المكرورة، لقاموس غامض من: الشرف والعرض، والسترة، والعفة، والمجتمع الأبيض في أبيض، و... و...
اعتمدت ذهانية محاكم التفتيش في حرق الذاكرة الشعبية الفلسطينية على مهرجان كرنفالي بإسناده قراراً يقضي بتحديد أسبوع للمدارس كي تتلف «قول ياطير» في حضرة لجنة مكونة من ثلاثة: مدير المدرسة، مسؤول المكتبة المدرسية، وواحد من المعلمين، ثم يرفع تقريراً للوزارة يتضمن أعداد النسخ التي أتلفت بحسب القرار.. فكيف يزعم وزير التربية والتعليم الدكتور ناصر الدين، الشاعر (الحماسي) أنه لا يعلم؟!
لقد كان المحكي رديفاً للهوية الفلسطينية التي تنتهك، كما تنتهك الأرض والإنسان.. وفي سيل من العجز السياسي الداخلي للجماعات، ارتد ليمارس عجزه على الثقافي والروحي، عله يخلق أسطورة تاهت في طرقات فلسطين، لكنها تضخمت في المساجد والأحياء الفقيرة.. ليستردوها بمعدات المنع والإقصاء للإجهاز على أي منبت للتفكير، والفرح، والبهجة.. والونس، فلغمت السينما بمحاذير ظلامية، ونقبت النساء، ومنعت المهرجانات الفولكلورية (كما حدث في بلدية قلقيلية، بحجة أن فرقة الدبكة للفنون الشعبية مختلطة) وكأن عدة المنع ستعيد الأرض المغتصبة، بينما ستهدرها إلى الأبد.
هذا القاموس التطهري/ التطهيري، هو العجز بعينه، هو الذي سيجعل الأرض تنداس أكثر تحت أحذية الاحتلال. فنشر ثقافة المأتم، واللاحياة، والعدمية، عبر سجن الطيور وقتلها، عبر خنقها بألا تصدح، وعبر تبديل فطرتها في الغناء ونشر المرح إلى الونين، ولطم الخدود والصدور.. عبر كتمها لأي صوت مغرد، هو أفظع، وأبشع من الاحتلال..
فما الفرق بين آلية القتل الصهيوني الإستئصالية..التي لم تقتل وتشرد الناس، وتغتصب الأرض فقط، بل اغتصبت الدبكات، والأكلات الشعبية، والأزياء.. الخ، وبين ما فعلته هذه الجماعات!؟ على الأقل الصهاينة يفعلون ما يفعلون لهدف إثبات وجود، وطمس ذاكرة، أما جماعاتنا فإنهم ينكرون الوجود أصلاً، وحتى لو بزغ وجود، فإنهم يريدونه على مقاس أيديولوجيتهم..
أعتقد أن الغاصب الحقيقي هو الذي يحرق الكتاب، يكمم الأفواه، يخنق الطيور، يزرع الحسرة في قلوب الأمهات والجدات، ويلصق بهن ألقاباً من أنهن نابيات، فاحشات الألفاظ، أي لا أخلاقيات.
ويمتد الاستئصال ليشمل أساتذة قضوا أعمارهم في نهل المعرفة في أروقة الجامعات العربية والغربية. هم الذين لا يعرفون سوى الطريق من البيت إلى المسجد إلى المعسكر، ثم إلى اقرب قطار، أو سوق مزدحم، أو طريق، أو سينما، أو مقهى للتفجير بحزام ناسف..
هي نفس ثقافة الاستشهاد التي تزهق أرواح الشباب، وهي تزهق الآن أرواح النساء، وتئد الذاكرة الجمعية بحجة العفة والفضيلة.. أحزمة ناسفة للبشر وللفكر والثقافة، آلهات ناطقة متحدثة رسمية باسم الله.
فرحت زميلتي المترجمة لـ"قول ياطير" الأستاذة القديرة يمنى البطران إلى اللغة الفرنسية بقرار الإفراج عن الحكايات، بعد الأصوات الغاضبة للكتاب والمثقفين الفلسطينيين المنتصرين وللحكاية وللمرأة، لجهود الأساتذة، وللحياة..
فرحتُ معهم، لكن يبقى الفكر الظلامي يتربص بالكلمة، بالحرف، بالأنفاس، يرقب الهواء والحركة، يترصد بذهانية ناسفة كل ما له علاقة بالحياة، ينتقي ما يريد، ويسحق ما لا يريد. نعم أفرجوا عن "قول ياطير"، لكن ماذا عن الطيور الأخرى؟ ماذا عن الألوان والأصوات الأخرى؟ ماذا عن التحليق بأجنحة مختلفة؟
والا كيف تشوفووووووووو؟
معلومات:
- «قول يا طير»: يضم 45 حكاية من بين مائتي حكاية يروي معظمها نساء من جميع أنحاء فلسطين، جمعها أستاذان د/ شريف كناعنة، أستاذ علم الاجتماع والإنثروبولوجيا في جامعة بيرزيت، نشاطه العلمي التراث الشعبي جمعاً ودراسة.. محرر مجلة التراث والمجتمع.
والأستاذ الآخر هو د/ إبراهيم، مهوي، مدرس الأدب العربي المعاصر، ونظرية الترجمة في جامعة أدنبرة باسكتلندا.
- قول ياطير حاصل على جائزة أفضل كتاب من قبل اليونسكو
- يعد مرجعاً هاماً للباحثين وطلاب الدراسات العليا، بل ومرجعاً معتمدا في جامعات العالم لمعرفة التراث الفلسطيني.
arwaothmanMail
«قل لهم يا طير»: الحكاية.. وطن وحياة
2007-03-28